• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

روائع الإيثار

عبدالعزيز كحيل

روائع الإيثار

الإيثار في أبسط معانيه هو أن تقدّم منافع غيرك على منافعك، أن تحبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك، بل وأكثر مما تحبّ لنفسك، أن تعطي لأخيك مثل أو أكثر مما تعطي لنفسك، أن تخدم الغير - عند الحاجة والاقتضاء -  أكثر مما تخدم نفسك، وذلك رغبة في رضا الله تعالى، فقد يجوع المؤثر ليشبع غيره ويعطش ليروي سواه، بل قد يموت في سبيل حياة الآخرين، وبهذا الشعور النبيل يجدد حقيقة إيمانه فيطهر نفسه من الأثرة والأنانية التي هي حبّ النفس وتفضيلها على غيرها، وهي صفة ذميمة عند من كمل إيمانه فاختار مراقي السؤدد ابتغاء الأجر الأخروي.

فالإيثار منزلة رفيعة القدر لا يتخلّق به إلّا أصحاب القلوب التي وعت إنسانيتها وفهمت دينها وتحقق لها القرب من الله، فهو الخلق الذي وصف به الحقّ سبحانه وتعالى أنصار رسوله (ص) الذين جسّدوا تجربة الأخوّة الإيمانية في صورة لا عهد لتاريخ البشرية بها، فقال عنهم: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).

وإنّما امتُدح ذلك الجيل القرآني بالإيثار لأنّه - بالشكل الذي طبّقوه - من أصعب ما يكون على النفس البشرية، فقد يضحي المرء بنفسه أو بماله من أجل مبدأ أو فكرة يؤمن بها ويتحرّك من أجلها، أمّا أن يقدم الإنسان غيره على نفسه  كما فعلوا فهذا ممّا يستثقله الناس، فكيف إذا كان هذا الغير مما لا قرابة للإنسان به؟

وليس الإيثار ادعاءً ولا شعاراً فارغاً يعلنه الإنسان في السراء وأوقات الفراغ، وربما  يؤثر على نفسه في المواقف والأشياء الصغيرة، أمّا إذا جدت ساعة الجد وحان وقت الفصل يؤثر نفسه، وهذا غالب حال البشر، فالإنسان لا يقدم غيره على نفسه إلّا لحبّ شديد له أو لإيمان بأجر هو أعظم من هذه المنفعة المقدمة.

قال الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى): "الإيثار درجتان:

الأولى: أن تُؤْثِرَ الخلقَ على نفسك فيما يرضي الله ورسوله وهذه هي درجات المؤمنين من الخلق، والمحبّين من خلصاء الله.

الثانية: إيثارُ رضاء الله على رضاء غيره وإن عظُمت فيه المحن، ولو أغضب الخلْق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها لِلرسل عليهم صلوات الله وسلامه".

وإذا كان النوع الأوّل متداولاً عند أصحاب الأخلاق الكريمة في كلّ زمان ومكان فإنّ النوع الثاني أقلّ انتشاراً لأنّه أصعب مراساً، فلا يقدر عليه إلّا ذوو الهمم العالية والنفوس التي استرخصت ذاتها في مرضاة الله، لأنّ فيه يتجلّى بوضوح وقوّة معنى التضحية التي تقتضي أداء الواجبات وتجاوزَها ابتغاءً لمنزلة الإحسان إلى درجة تتوارى معها المطالبة بالحقوق، ونضرب عليه أمثلة:

- إيثار الآخرة على الدنيا:

 الغالب على الناس الاشتغال بالحياة الدنيا أكثر من الآخرة ولو كانوا مؤمنين بها مصدّقين بما فيها، قال الله تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى/ 16-17)، وهذا عائد إلى درجات الإيمان ونوعيّته المتأرجحة بين الرفيعة والمتوسطة والضعيفة.

وحجم ما تؤثر الله عليه هو ما يحدّد إيمانك، ويحتلّ الأنبياء (ع) المكانة الأعلى والأرفع في سلّم إيثار الباقية على الفانية، فنوحٌ (ع) آثر الله على امرأته وابنه، وإبراهيم (ع) آثر الله عزّوجلّ على أبيه ثمّ على ابنه، وموسى (ع) آثر الله على من فرعون الذي تبنّاه وربّاه وأدخله في نعيمه، ومحمّد (ص) آثر الله على عمّه وعشيرته ووطنه وأرحامه وعلى الملك العظيم الذي وعده به قومه .

- سحرة فرعون والإيثار الفريد:

تمثّلُ  قصّة سحرة فرعون نموذجاً رائعاً في الإيثار بمعناه الإيماني الرفيع، فما إن تأكّد لهم صدق موسى (ع) حتى تنصّلوا من زيفهم وأقبلوا على الإيمان إقبالاً فوريّاً رائعاً، فغاض ذلك فرعون فهدّدهم بالموت وتوعّدهم بالتنكيل ليُبعدهم عن سبيل الهدى الذي أدركوه لتوّهم، فما لانت لهم قناة ولا القوا بالاً للتهديد والوعيد، وبقوا متمسكين بإيمانهم واثقين بربّهم عزّوجلّ، مؤثرين الانخراط في موكب الشهداء على البقاء أحياءً في ظلّ العبودية لغير الله: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه/ 71-73).

لقد آثروا الله عزّوجلّ على فرعون المتجبّر الذي ادّعى الألوهيّة واستعبد عقول الناس وأرواحهم وأفكارهم، آثروا الله على تاريخ فرعوني طويل ألفوه واعتادوه، ولمّا هدّدهم فرعون وأمرهم بالتراجع  آثروا الله على النجاة من العذاب، وعلى أيديهم وأرجلهم التي هدّدهم بقطعها من خلاف، ثمّ آثروا الله - أخيراً - على أرواحهم وحياتهم واستسهلوا صلبهم في سبيل الله .

فكأنّهم قالوا له: نحن أحرارٌ من عبوديتك يا فرعون، فماذا تصنع بنا؟ إنّ كلّ ما تملكه أن تقضي في حدود هذه الدنيا، لكنّك لا تملك أمر خلودنا وحياتنا الآخرة، لا تملك لنا نعيماً أبدياً ولا تعاسة أبدية، (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)، هذه عبارة تُشعر بمدى إيثار السحرة لله عزّوجلّ على كلّ ما سيصنعه فرعون، ولم يزيدوا عن التضرّع إلى الله يستمدّون الثبات على البلاء العظيم ويطلبون  - ليس النجاة في الدنيا ولكن حسن الخاتمة: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (الأعراف/ 126).

- أمّا قيصر فينهزم :

ليس تنازل السحرة عن المكانة بالأمر الهيّن على النفس الإنسانية، والموفَّق من وفّقه الله ، فهذا قيصر عظيم الروم يبلغُه خبر ظهور النبيّ (ص) ويأتيه خطابه فيتحرّى الأمر ويدقّق فيه ويطرح على أبي سفيان - وهو مشرك - أسئلة عالم خبير بالأديان والسنن الاجتماعية، ويتأكّد من نبوّة محمّد (ص) ويقول لزعيم قريش على مسمع من عظماء الروم: "فإن كان ما تقول حقّاً فسيملك - أي الرسول (ص) - موضع قدميّ هاتين، فلو أني أعلم أنّي أخلص إليه لتجشّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه"  رواه البخاري.

أليس كلام قيصر دليلاً على تصديق الرسول (ص)؟ لكن الملأ من قومه رفضوا الانسياق خلفه وصاحوا وهاجوا وماجوا، وتشبّثوا بدينهم، فتراجع الرجل وآثر عرش الملك على مقعد الجنّة، وأغوته الفانية عن طلب الباقية، ورسب في الامتحان وكان - رغم علمه وحنكته - أقلّ من أن يتجاسر ويضحي بمُلكه ويؤثر الدين الذي تأكّد من صدقه ولو خسر كرسيّ الرئاسة.

 

* خاتمة:

أحسنُ ما يلخّص هذه الدرجة الفذّة من الإيثار ما ذكره الإمام ابن القيّم وهو يتحدّث عن "الأسباب الجالبة للمحبّة"، فقد قال في السبب الرابع: "إيثار محابّه (أي الله تعالى) على محابّك عند غلبات الهوى، والتسنّم إلى محابّه وإن صعُب المرتقى".

هذا عين ما فعله السحرة، ولم يقدر على فعله قيصر الروم، ذلك أنّ هذا تسيّره مصالح وأنانية، أمّا أولئك فيقودهم إيمان ويحدوهم رجاء في دخول الجنّة، وليس الإيثار من خصال العصر الأوّل وحده بل هو روح يسري في أفذاذ الرجال المؤمنين في كلّ زمان ومكان، وما قلّة عددهم إلّا لتميّز هذا الخلق العظيم الذي نحن في أمسّ الحاجة إلى توافره في أيّامنا هذه لنواجه الصعاب الحضارية ونحفظ الأُمّة ونخدم الدين.

ارسال التعليق

Top