• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

شذرات من دور المسلمين في تكوين الفكر العلمي الأوروبي

د. عبدالرحمن بدوي

شذرات من دور المسلمين في تكوين الفكر العلمي الأوروبي

◄أبرز دور للمسلمين في تكوين الفكر الأوروبي هو في العلم بمختلف فروعه: الطب، والطبيعة، والكيمياء، والفلك، والرياضيات، والتاريخ الطبيعي، والفلاحة.

أمّا في الرياضيات فقد كان للمسلمين الفضل الأكبر لأنّهم هم الذين أدخلوا النظام العشري في العدد، إذ كان اليونانيون إنما يستعملون في العدد حروف الأبجدية للعد من 1 إلى 999، ثم يستعملون الشرطة والشولة والنقطة للعد فيما بعد ذلك حتى آلاف الآلاف، وكان الرومان يستعملون سبعة أحرف من الأبجدية هي I V X L C D M وتدل على التوالي على 51 10 50 100 500 1000 ثم يضعون فوقها شرطة أفقية تدل على أنّ العدد مضروب في 1000. وجاء الهنود فاخترعوا نظام العد العشري وفيه تتوقف قيمة العدد على موضعه فالعدد 5 على يمين الواحد غيره على شماله وهكذا. واستعملوا الصفر للدلالة على الخلو من الوحدة. وجاء المسلمون فاخترعوا طريقة لكتابة الأعداد هي طريقة "الغبار"، وهي التي انتشرت في المغرب ومنه انتقلت إلى أوروبا ولا تزال تستعمل اليوم فيما نسميه نحن الأرقام الأفرنجية، وما يسميه الأوروبيون بالأرقام العربية، وهي في الحقيقة عربية وليست أفرنجية، بينما ظل المشارقة من المسلمين يستعملون الطريقة الهندوستانية وهي التي لا نزال نكتب بها الأرقام في المشرق الإسلامي حتى اليوم.

وقد دخلت الرياضيات الإسلامية أوروبا على يد "ليوناردودي بيزا" في القرن الثالث عشر.

ومن أشهر الرياضيين المسلمين الذين عرفتهم أوروبا وترجمت مؤلفاتهم إلى اللاتينية:

1- أبو عبدالله محمّد بن موسى الخوارزمي الذي برز في عصر "المأمون"، وتوفى سنة 835، أو سنة 844، أو سنة 846 ميلادية على خلاف في ذلك. وقد تُرجم له كتاب لا نعرف غير ترجمته اللاتينية بعنوان Alg numero indorum الذي نشره "بونكومباني" في روما سنة 1857م وفيه يشرح النظام العشري مستعملاً الأرقام الهندوستانية. أمّا كتابه الرئيسي ذو الأثر الحاسم فهو كتاب "حساب الجبر والمقابلة" الذي فيه درس تحويل المعادلات وحلها. وقد ترجمه إلى اللاتينية "جيررْدودي كريمونا" ونشر النص العربي روزن مع ترجمة إنجليزية في لندن سنة 1851م. ولم يتأثر فيه بالجبر اليوناني الذي وضعه ذيوفنطس بل تأثر بالهنود والفرس.

2- بنو موسى بن شاكر، وكانوا ثلاثة أخوة: محمّد، وأحمد والحسن وعاشوا في القرن الثالث الهجري، وبرزوا في الحساب والفلك والحِيَل أي الميكانيكا، وكان محمّد أوفرهم علماً، وأحمد أبرزهم في الميكانيكا، والحسن في الحساب، ولكنّهم كانوا يشتغلون معاً، ويؤلفون معاً. ولهم كتاب في مساحة السطوح المستوية والكروية ترجمه "جيرردو" إلى اللغة اللاتينية، ونشره "كرتسه" مع ترجمة إلى الألمانية.

فإذا انتقلنا من الرياضيات إلى الفلك وجدنا المسلمين قد أثروا تأثيراً بالغاً فيما يتعلّق بالأرصاد الفلكية: ومن المسلمين الذين عرفتهم أوروبا في هذا الباب محمّد بن موسى الخوارزمي الذي ذكرناه آنفاً، فإنّ الألواح الفلكية التي وضعها وفقاً لإرصاد بعضها قام هو بها وبعضها تأثّر فيها بالهنود، قد ترجمها إلى اللاتينية "أدلهرد أوف باث" سنة 1126 ميلادية. كذلك نذكر "أبا العباس أحمد بن محمّد بن كثير الفرغاني" وله في الفلك كتاب كان ذا أهمية بالغة، فترجمه إلى اللاتينية "خوان الأشبيلي" و"جيرردو الكريموني"، كما ترجمة إلى العبرية "يعقوب الأناضولي"، ونشرت الترجمة اللاتينية مع النص العربي في أمستردام سنة 1669م. وهو الذي قاس قطر الأرض بمقدار 6500 ميل. ولا يفوتنا أن نذكر "أبا معشر جعفر بن محمّد بن عمر البلخي" المتوفى سنة 886م (سنة 272ه‍). وترجم له إلى اللاتينية كتاب بعنوان  Introductorium In Astronomiam Albumasaris Abalachi. ، وترجمه "خوان الأشبيلي" وطُبع سنة 1489م في أوجسبورج وسنة 1459م في فينسيا. وفيه وضع نظرية عن المد والجزر.

وأصالة علم الفلك عند المسلمين نشأت من كونهم طبّقوا حساب المثلثات على الأرصاد الفلكية، واخترعوا وصنعوا آلات جديدة للرصد، مما أدى بهم إلى كثير من الاكتشافات وإلى تعديل شامل لفلك بطلميوس. "فالبتاني" اكتشف تغير أوج الشمس؛ وحسب السنة بمقدار 365 يوماً وخمس ساعات و46 دقيقة و24 ثانية. والفلكيون اليوم يحسبونها بمقدار 365 يوماً، وخمس ساعات و48 دقيقة و47 ثانية. كما تنبأ الفلكيون المسلمون بكسوف الشمس وخسوف القمر بدرجة من الدقة المتناهية أذهلت الناس. وأولوا القمر اهتماماً خاصاً، لأنّ السنة الإسلامية قمرية، فانتهى "أبو الوفاء البوزجانى" (940م - 998م) إلى اكتشاف التغيرات القمرية؛ كذلك عنوا بدراسة عطارد أو الكاتب كما كان يطلق عليه فوضع "البتاني" نظرية عن حركات عطارد.

أمّا في الكيمياء والفيزياء فللمسلمين أثر واسع في تكوين الفكر الأوروبي. وأبرز المسلمين أثراً هو "أبو علي الحسن بن الحسن (أو الحسين) بن الهيثم" المتوفي سنة 1029م. وقد عرفه اللاتين باسم Albazen وبرز خصوصاً في علم البصريات، وأصله من البصرة ولكنّه أقام طويلاً في مصر. وقد تُرجم إلى اللاتينية كتابه في "المناظر" أي البصريات بعنوان Opticae thesaurus libri septem nunc primum editi Alhazeni Arabis . ونشره Fried Risner  في بازل سنة 1582م ويتضمن نظريات جيِّدة عن المرايا المستوية والمخروطية والإسطوانية والكروية والبيضاوية، وفي الانحراف والانكسار والإبصار، والغرفة المنظمة، وهو أوّل مَن استخدم الغرفة المظلمة لرصد الخسوف وقال إنّ الضوء خاصية جوهرية ذاتية لبعض الأجسام مثل الكواكب والنار والشموع والفحم المحترق، وصفة عرضية في الأجسام المعتمة أو الشفافة التي تعكس ضوء الأجسام الأخرى وقال إنّ الضوء ينبعث في خط مستقيم وفي كلّ الاتجاهات، ونقدَ نظرية القدماء التي كانت تقول إنّ الشعاع ينبعث من العين ويتجه إلى الشيء المرئي ثم يرتد إلى العين، واستبدل بها نظرية أخرى تقول إنّ الأجسام هي التي تبعث ضوءها الخاص أو المنعكس في كلّ اتجاه، وما تتلقاه العين هو الذي يجعلها تبصر.

وفي الكيمياء قام المسلمون باكتشافات هائلة من بينها: الماء الملكي، وحمض الكبريتيك، وحمض الأزوتيك، ونترات الفضة. والمسلمون في العمليات الكيميائية التي قاموا بها قد استطاعوا تحضير: حمض الزرنيخ، وأوكسيد الزئبق، وأوكسيد الحديد وأوكسيد النحاس، وكبريتات النحاس، وكبريتات الزئبق، وحمض الكبريتيك، وحمض الكلورودريك وحمض الأزوتيك، والماء الملكي وكان عبارة عن حمض النوشادر محلولاً في حمض الأزوتيك؛ كذلك حضّروا: كربونات النوشادر، وملح النوشادو، وكلورور الذهب، ونترات الفضة، وكلورور الزئبق الذي حضّره "جابر بن حيان" بغلي الزئبق مع الملح العادي والنترات والألومن. وأشهر الكيميائيين المسلمين الذين عرفتهم أوروبا هو من غير شك جابر بن حيان الذي كان يعيش في سنة 776م.

وفي الطب قام الأطباء المسلمون باكتشافات بارزة جعلت دراسة الطب في أوروبا عيالاً عليهم لأكثر من أربعة قرون. فبخلاف ما نقله المسلمون عن الأطباء اليونان، اكتشف المسلمون عدة اكتشافات بالغة الأهمية: منها الجرب الذي اكتشف جرثومته الطفيلية "ابنُ زهر". والمسلمون وضعوا قواعد التشخيص معتمدين على النبض والبول. وبذلوا مجهودات عظيمة في اكتشاف ما سموه باسم الأسباب والعلامات، أي أسباب الأمراض وأعراضها؛ كما عنوا بدراسة أنظمة الطعام وأضافوا الكثير إلى الفارما كوبيا مستعينين بأبحاث علماء النبات. كما كان لهم الفضل في إنشاء وتنظيم المستشفيات العامّة التي كان المرضى يعالجون فيها مجاناً على حساب الدولة، وفي بعض المدن أنشأوا وظيفة كبير الأطباء أو مقدم الأطباء، وكانوا يطلقون عليه في البداية اسما سريانياً هو "ساعورا" أي مقدم الأطباء.

وانتقل الطب الإسلامي مبكراً إلى أوروبا، فانشئت مدارس للطب في "مونبلييه" و"رانس" و"بولونيا" و"بادوا" و"أورليان" و"نابلي" و"اكسفورد" و"كمبردج" و"انجيه"، وكلّها كانت تستخدم الكُتُب العربية المترجمة إلى اللاتينية أساساً لتدريس الطب.

والطبيب المسلم الذي يبرز اسمه في الحال هنا هو "محمّد بن زكريا الرازي" والذي توفي سنة 923م. فكتابه "الحاوي" هو دائرة معارف طبية كبرى، وقد تُرجم إلى اللاتينية بعنوان Liber dictus Elhavi  وطُبعت الترجمة اللاتينية في برشيا سنة 1486م. وهذا الكتاب يتضمن آراء جديدة طريفة عن: الحميات والفتق والحجامة وأعصاب وعضلات منطقة الحنجرة. وكتابه "المنصوري" ترجم أيضاً، وطُبع سنة 1481م، وكذلك رسالة صغيرة عن الجدري والحصبة وصفهما وشخصهما لأوّل مرة بدقة وأصالة.

ويأتي بعده في التأثير وإن كان أقل منه إصالة: "أبو علي ابن سينا" المتوفي سنة 1037م. فكتابه: "القانون في الطب" إلى جانب "الحاوي" للرازي و"الملكي" لعلي بن العباس كان عمدة الدراسة الطبية لستة قرون في مدارس أوروبا الطبية. وفي الكتاب ملاحظات أصيلة عن الالتهاب الرئوي وعدوى السل، وفيه حوالي 760 دواء وقد ترجمه إلى اللاتينية "جيرردو الكريموني"؛ وطُبعت الترجمة اللاتينية عشرات الطبعات. أمّا النص العربي فنشر لأوّل مرة في روما سنة 1593م.

كذلك نذكر "أبا القاسم خلف بن عباس الزهراوي" الذي ترجم كتابه "التصريف" إلى اللاتينية وطبع عشرات الطبعات، وهو أوّل كتاب تفرد فيه الجراحة علماً مستقلاً قائماً على معرفة التشريح. و"أبو القاسم الزهراوي" هو أوّل من أجرى عملية إزالة حصوة المثانة في النساء.►

  

المصدر: كتاب دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي 

ارسال التعليق

Top