• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تاريخ الصوم

السيد حسين الصدر

تاريخ الصوم

◄إنّ الصيام من أقدم العبادات التي أخذ الإنسان يُمارسها منذ قديم الزمان، وبذلك صرّحت الآية الكريمة (183) في سورة البقرة:

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

فهو ليس من مختصات الدين الإسلامي الحنيف وليس المسلمون قد انفردوا بهذه العبادة عن غيرهم من الأُمم السابقة.. فإنّ المصريين القدماء واليونانيين والرومانيين والهنود، كانوا يصومون وكذلك ذوي الأديان الأرضية كالصابئة والمانوية والبرهمية والبوذية، وحتى السماوية كاليهودية والنصرانية.. فقد وَرَدَ في التاريخ، إنّ المصريين القدماء كانوا يصومون تعبداً وتضرعاً وخوفاً لآلهتهم وكذلك اليونانيين كانوا يصومون تعبداً لآلهة الزراعة.. وأما الرومانيون، فقد عرفوا بكثرة صيامهم وذلك لأنّهم خصصوا أياماً معلومة لصيامهم تعبداً للآلهة.. وكذلك كانوا يصومون كلما نَزَلَ بلاء عليهم أو ألمّت بهم ملمّة وذلك لطلب الرحمة والمغفرة والاستعطاف من الآلهة.

وأما الهنود، فقد خرقوا الحدود في صيامهم وذلك لأنّهم يصومون أياماً عديدة بلا طعام ولا شراب، وذلك لأجل وصولهم إلى رضا الآلهة واستعطافها والتقرب إليها.

وأما صوم الصابئة والمانوية والبرهمية والبوذية، فقد كان الصوم مفروضاً عليهم ومشرعاً لهم كاليهود والنصارى.. فقد جاء في كتاب ابن النديم المسمى بالفهرست:

"إنّ شريعة الحرّانيين المعروفين بالصابئة أو الصابئين، وهي ديانة قائمة على تقديس الكواكب تفترض عليهم الصيام ثلاثين يوماً، فإنّهم يصومون الشهر تكريماً للقمر ويُخصصون تسعاً فيه تكريماً لربِّ البخت، وسبعة منه تكريماً للشمس وهي ربُّ الخير عندهم".

وصيامهم هو عبارة عن الامتناع والإمساك عن جميع المأكولات والمشروبات وذلك من طلوع الشمس إلى غروبها.

وأما صيام المانوية – وهي الديانة التي ظهرت في إيران في القرن الثالث الميلادي – فكما ذَكَر ابن النديم في كتابه أنّ لديهم أنواعاً كثيرة من الصيام بمواقيت معينة دورية، "فإذا نزلت الشمس القوس وصار القمر كلّه نوراً يصام يومان لا يفطر بينهما، فإذا أهَلَّ الهلال يصام يومان، ثمّ بعد ذلك يصام إذا صار نوراً يومان في الجدي، ثمّ إذا أهَلَّ الهلال ونزلت الشمس الدلو ومضى من الشهر ثمانية أيام يصام حينئذٍ ثلاثون يوماً، وصومهم كصوم الصابئة".

وأما صيام الديانة البرهمية وهي الديانة الهندية، فقد جاء أنّ شريعة البرهمية أوجبت الصيام على طبقة الكهنة أيام الإعتدال وهما أوّل فصل الربيع وأول فصل الخريف، وفي أيام الإنقلاب وهما أوّل فصل الشتاء وأوّل فصل الصيف، واليوم الأوّل واليوم الرابع عشر من كلِّ شهر قمري وفي كسوف الشمس.

وأما صيام البوذيين، فإنّ الديانة البوذية تفرض الصيام من شروق الشمس إلى غروبها، وذلك في أربعة أيام من كلِّ شهر قمري، ويُسمّونها أيام (البوبوذات) وهي اليوم الأوّل واليوم التاسع والخامس عشر والثاني والعشرون، كما فرضت فيها الراحة الكاملة وحرّمت مزاولة كلّ الأعمال وحتى إعداد طعام الإفطار، ولذلك يعمل الصائمون على إعداد طعامهم قبل شروق الشمس من كلِّ يوم من هذه الأيّام الأربعة.

 

اليهود والصوم:

إنّ اليهود يصومون خمسة أيّام من كلِّ سنة، ولكن الذي فرضته شريعتهم عليهم هو يوم واحد، وهو اليوم الرابع والعشرون من الشهر السابع، وأما بقية الأيام فيصومونها تذكاراً للمصائب والرزايا التي حلّت بهم.. والأيام التي يصومونها هي:

1-  اليوم الرابع والعشرون من الشهر السابع.

2-  اليوم التاسع من الشهر الرابع من كلِّ سنة وهو يوم استيلاء الكلدان على أورشليم القدس.

3-  اليوم العاشر من الشهر الخامس وهو يوم احتراق الهيكل والمدينة.

4-  اليوم الثالث من الشهر السابع وهو يوم استباحة نبوخذنصر لأورشليم القدس.

5-  اليوم العاشر من الشهر العاشر، وهو يوم حصار أورشليم.

والصوم عند اليهود هو الإمساك عن الأكل والشرب وقد جاء في كتاب الصوم والأضحية للدكتور عليّ عبدالواحد وافي، "ولديهم كذلك أنواع أخرى مستحبة من الصيام دورية ويصومون تخليداً لذكرى وفاة أنبيائهم وعظمائهم كموسى وهارون والشهداء أو لذكرى حوادث أخرى في تاريخهم ويبلغ عددها خمسة وعشرين يوماً".

 

النصارى والصوم:

وأما النصارى، فقد اختلفت الطوائف المسيحية تحديد صومها كمّاً وكيفاً، أي من حيث تحديد أيامه وتحديد شكله إلى مذاهب وطرق متعددة.. فأما الصوم عند الطائفة الكاثوليكية، فهو عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب يوماً وليلة، وذلك كصومهم يوم الأربعاء تذكاراً للحكم على السيد المسيح وصومهم يوم الجمعة وهو يومُ صلّبه على حسب اعتقادهم وهذان اليومان ليسا فرضاً واجباً وإنّما مستحباً.. وأما الصوم الواجب عندهم، هو الصوم الكبير السابق لعيد الميلاد، وهو الذي صامه موسى وعيسى – عليهما السلام – والحواريون.. وفي القرن الخامس للميلاد أحدثت الكنيسة فرضاً جديداً وهو صوم الأزمنة الأربعة وهي:

1-  الأيام السابقة للميلاد.

2-  والعنصرة.

3-  عيد انتقال العذراء.

4-  عيد جميع القديسين.

وأما صوم طائفة الأرمن والأقباط والنساطرة فهم يصومون يوم الأربعاء والجمعة من كلّ أسبوع بالإضافة إلى عشرة أسابيع من كلِّ سنة.. وأما الصوم عند طائفة البروتستانت فهو مستحبٌّ وليس فرضاً واجباً.. وصيامهم هو إمساكهم عن الأكل فقط، ومع كلِّ ما تقدّم من صوم اليهود والنصارى، فقد جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي:

"إنّه لا يوجد في التوراة والإنجيل الموجودين عندهم حالياً ما يدلُّ على وجوب الصوم وفرضه بل الكتابان إنّما يمجّدان ويُعظّمان أمْره، لكنهم يصومون أياماً معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة".

 

الصوم عند المسلمين:

قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه المجيد في سورة البقرة/ آية 183:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

فإنّ الله سبحانه وتعالى أنعم على أُمّة محمّد (ص) بفرض الصيام في شهر رمضان المبارك، فقد رويَ عن الإمام الصادق (ع):

"إنّ شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأُمم قبلنا وإنما فرضه على الأنبياء دون الأُمم، ففضّل الله به هذه الأُمّة دون الأُمم وجعل صيامه فرضاً على رسول الله (ص) وعلى أُمّته".

وعنه (عليه أفضل الصلاة والسلام):

"إنّ شهر رمضان كان واجباً على كلِّ نبي دون أمته، وإنما وجب على أُمّة محمّد (ص) محبة لهم".

وهكذا فإنّ شهر رمضان المبارك، شهر تشعُّ فيه الأنوار، ويدخل الروحانية إلى قلوب المؤمنين، ويطهر القلوب من الآثام ويقرّب العباد إلى طاعة الله ورضوانه.. فإنّ روحانية وقدسية شهر رمضان تأخذ دورها في نفوس المسلمين في جميع أدوار التاريخ وعصوره، حتى جاء دور العباسيين يتظاهرون بالطاعة والعبادة فيه، وأخذوا يعدّون فيه الولائم الضخمة لإفطار الفقراء.

وكذلك إذا انتقلنا إلى العهد الفاطمي، فنرى فيه بكلِّ جلاء ووضوح كيف كانوا يُعظّمون ويُجلُّون هذا الشهر، وهم يستقبلونه بمظاهر دينية.. ويروي لنا المقريزي وهو المؤرخ المشهور للعصر الفاطمي عن الإهتمام العظيم والعناية الكبيرة التي كان الخلفاء في العهد الفاطمي يُظهرونها لشهر رمضان المبارك، فلقد أحاطوه بأنواع الحفاوة والتكريم والمزايا..

ومن تلك المزايا والتكريم في العهد الفاطمي (موكب الرؤية) وهو بمنزلة إشعار بدخول شهر رمضان المبارك، فكان الخليفة يخرج في موكب رسمي تُحيطه الأُبّهة والعظمة إلى المسجد، وإذا ما ثبت هلال شهر رمضان عادَ ذلك الموكب إلى القصر، فتستقبله عند مدخله عِلّية القوم بالموشحات الدينية والأذكار والدعاء ومن ثم يوزّع عليهم المال ابتهاجاً بهذا الشهر المبارك.

وكانوا يقيمون الحفلات وولائم الإفطار والسحور لتكريم العلماء وكبار القوم والفقراء طيلة الشهر ويبذل فيها من أنواع الطعام الشيء الكثير.. وكان الشخص الذي يتجاهر بالإفطار في ذلك العهد يؤخذ ويركّب على دابّة معكوساً بجعل وجهه إلى ذيل الدابّة وخلفه إلى رأسها ويُلطّخ وجهه بالعسل ليكون مجمعاً للذباب والحشرات ويُطاف به في الأزقة والطرقات ثمّ إن عاد ثانية يُضرب وفي الثالثة يُقتل.

 

المصدر: كتاب في رحاب شهر رمضان

ارسال التعليق

Top