• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

فقه الإتفاق

وليد شلبي

فقه الإتفاق

◄على أي شيء نتفق وكيف يكون اتفاقنا دافعاً للعمل؟

تحدث الكثيرون عن فقه الخلاف، وأثره البالغ في العمل الإسلامي، وموازياً لذلك، أحسب أننا في حاجة ماسة لما يمكن تسميته بـ"فقه الاتفاق"، لنعرف كيف نتفق، وعلى أي شيء نتفق، وكيف يكون اتفاقنا صحياً ودافعاً للعمل، بل وكيف نفهم ونعي ما نتفق بشأنه؟

البعض يتصور أن عدم اتفاق جميع أفراد العمل الإسلامي على رأي واحد في جميع القضايا، هو نوع من سوء الفهم، وعدم التربية، وتضاد الرؤى، بل قد يتصوره البعض على أنّه جهل بثوابت العمل كله! مع أنّ الاتفاق المطلوب قد يكون في فرع من الفروع أو جزئية من الجزئيات أو وسيلة لتحقيق الهدف!.

بداية: ينبغي أن نعي أن عدم الاتفاق في موضوع ما ليس مرادفاً للشقاق والقطيعة والخلاف المذموم، فقد يكون عدم اتفاق الآراء – في مرحلة ما – مدعاة لإعادة تقويم بعض الآراء، وقد يكون عدم الاتفاق في قرار ما فيه خير كثير، لأنّه سيعيد الموضوع برمته للبحث والتحليل والدراسة المتأنية بهدف الخروج بأفضل النتائج.

لكننا ينبغي أن نبحث عن الاتفاق الصحي البناء، لا العقيم الذي يئد الطاقات، ويذكي الفردية، ويطغى على روح الجماعة، نريد اتفاقاً يثري العمل ويدفعه للأمام ويطوره، لا اتفاقاً يكرر نفسه ويدور في حلقات مفرغة لعدم قدرته على تفريخ قيادات جديدة.

لا نريد – إذن – اتفاق "استنساخ" للقيادات وآرائهم دون وعي لا يتفق عليه، فلكل جيل ولكل وقت ومكان ثوابت خاصة للاتفاق يجب وضعها في الحسبان وعدم تجاهلها أو إهمالها وتهميشها.

وليس معنى ذلك تصيد الخلاف والأخطاء أو العمل على إيجاد الخلاف دون وجه حق، أو البحث عن مجرد الخلاف، ولكنه دعوة لنتبصر بحقيقة الاتفاق وأنّه أمانة، وانّا محاسبون عليها، وكذلك أن يدلي كل منّا بدلوه، وأن يقول رأيه، وأن يسأل عمّا استشكل عليه لنصل في النهاية إلى الاتفاق المأمول.

لابد من سلامة الصدور وحسن الظن وسماع الرأي الآخر والنزول على الصواب.

 

فإذا أبدى كل منّا رأيه بصراحة ووضوح وشفافية، فسيكون الاتفاق أكثر قوة وقدرة على مواجهة التحديات، ومادام كل ذلك يتم بطرق صحية وسليمة، فلا مجال للقلق والتخوف غير المبرر، ولعل في موقف رسول الله (ص) مع أبي الهيثم بن التيهان في بيعة العقبة الثانية خير دليل على ذلك، فقد قال أبو الهيثم: "يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال – يعني اليهود – حبالاً وإنا لقاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثمّ أظهرك الله، أن ترجع لقومك وتدعنا؟! قال كعب بن مالك: فتبسم رسول الله (ص) ثمّ قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم".

يجب أن نقف أمام هذا الموقف طويلاً. لم يقف النبي (ص) في وجه إبداء الرأي، ولم يحجر عليه، ولم يضق صدره به، بل "تبسم"، وأوضح ما التبس على صاحبه فكان الاتفاق القوي المتين، القائم على الأساس والدعائم السليمة.

إذا كُممت الأفواه قست القلوب، وإذا قست القلوب ضلت العقول وإذا ضلت العقول فقدت الحياة معناها.

 

- على أي شيء وكيف؟

سأتناول هنا نقطتين أساسيتين هما: على أي شيء نتفق؟! وكيف نتفق؟!

أوّلاً: على أي شيء نتفق:

1- الثوابت الشرعية: لنتفق أوّلاً عليها، لتكون منطلقاً لنا في كل عناصر العمل، هذا الاتفاق سيوفر الكثير من الجهد والوقت اللذين يذهبان من جدالات عقيمة قد تعطل العمل كلية، وقد تؤثر فيه إجمالاً.

لنتفق على التوحيد الخالص لله، واتباع السنة المطهرة قولاً وعملاً، ووجوب تحكيم شرع الله ووجوب نشر الدين والدعوة للإسلام، وعلى الوقوف صفاً واحداً أمام التحديات الكبرى للإسلام والمسلمين.. لنتفق على وجوب العدالة والمساواة والأخلاق والمفاهيم الإسلامية الرائعة مثل: الإخاء، والصدق، والأمانة، والعدل، والبر وعلو الهمة... إلخ، والعمل على نشرها بين الناس.

إنّ سقف الاتفاق في هذا المجال أرفع من أن نحصيه، فنقاط الاتفاق الشرعية التي تجمع الإسلاميين كثيرة، ومساحات الاتفاق واسعة، فإذا اتفقنا على الثوابات والمنطلقات الشرعية فسيسهل تجاوز الخلاف في الفروع والجزئيات البسيطة التابعة لها.

ولعل في توقف حسن البنا عندما توجه إلى قرية، ووجد أهلها مختلفين على كيفية الأذان فنصحهم بأن يصلوا دون آذان، لخير دليل على ذلك، إذ إنّ الأذان سنة، لكن وحدتهم فريضة، فهو هنا ردهم للأصول والثوابت التي لا خلاف فيها.

ثانياً: وحدة الفهم:

إذا اتفقنا على الفهم الصحيح لشمولية ووسطية الإسلام، فسوف ييسر ذلك علينا الكثير، لقد كان البنا ثاقب النظر عندما بدأ أركان البيعة بالفهم ثمّ أتبعها بالأصول العشرين وذلك لتثبت وحدة الفهم في نفوس الإخوان. فهي نقطة جديرة بالجهد والمثابرة من أجل تحقيقها، وترسيخها في النفوس.

ثالثاً: الأهداف العامة:

ليكن واضحاً لكل العاملين في الحقل الإسلامي الأهداف العامة للعمل، وما يسعون لتحقيقه، فتحديد الهدف منذ البداية سيكون إيجابياً لأسباب عدة منها: وضوح الرؤى وعدم التباس الأهداف الذي يؤدي إلى عدم الشطط الفكري والحياد عن الأهداف كلها. كما أن في وضوح الأهداف دافعاً للعاملين لبذل الجهد، وعلو الهمة لتحقيق ما يصبون إليه، فكلما سمى الهدف زاد الجهد المبذول لتحقيقه.

يقول الشاعر محمد إقبال:

جهاد المؤمنين لهم حياة **** ألا إنّ الحياة هي الجهاد

عقائدهم سواعد ناطقات **** وبالأعمال يثبت الاعتقاد

ثانياً: كيف نتفق؟!: يثبت الاعتقاد التي ينبغي إثباتها حتى يكون اتفاقنا سليماً وقوياً.

1- سلامة الصدر وحسن النية: من القواسم الكبرى في معظم قضايا العمل الإسلامي، فإذا خلصت النيات فسوف يبذل كل فرد أقصى ما لديه لتفعيل دوره، والعمل على وحدة صفة، والتقبل الحسن، وجميل الرد خاصة في حالة عدم الاتفاق مما سيؤدي إلى متانة الصف ومنعته على الاختراق.

2- سماع الرأي الآخر: قبل الاتفاق لابدّ من سماع جميع وجهات النظر والآراء الأخرى، وخصوصاً المخالفة لرأينا، ففي سماعها فوائد عدة: فقد تكون جرس إنذار لأمر ما، وقد تجذب انتباهنا لنقطة قد تكون غائبة عنا، وقد تكون تفريغاً للشحنة الكبيرة داخل الفرد، فإذا أفرغها في كنف التقبل الحسن، فسوف يسهل إقناعه بعد ذلك بالرأي الصواب وإن خالف رأيه السابق.

وفي عدم سماع الرأي الآخر نوع من أنواع الحجر على الرأي وبالتالي لن يدوم أو يقوى الاتفاق طويلاً، بل سينهار وشيكاً لأنّه قائم على غير أساس. ولأنّ في الحجر على الرأي نوعاً من أنواع تكميم الأفواه، فإذا كُممت الأفواه قست القلوب، وإذا قست القلوب ضلت العقول، وإذا ضلت العقول، فقدت الحياة معناها ومغزاها.

لذلك ينبغي أن نسمع الرأي الآخر قبل الاتفاق، وأن نضعه موضع الاهتمام، وإذا رددناه فليكن رداً جميلاً دون استخلاف، ولنا في الرسول (ص) الأسوة في ذلك، فقد كان يسمع رأي أصحابه، ولا يحجر عليها، ولعل في الموقف السابق ذكره مع أبي الهيثم بن التيهان الدليل.

كما نجد ذلك واضحاً في موقف الأنصار من العطايا التي منحها الرسول (ص) لقريش وقبائل العرب، فيما لم يعطهم شيئاً. فلقد أسمع المصطفى (ص) سعد بن عبادة ما يقوله الأنصار، ثمّ بيّن لهم جميعاً المقصد مما فعله، فكان الاتفاق القوي المتين الذي كان ولا يزال درساً للأجيال في كيفية سماع القيادة جميع الآراء دون حجر أو ضيق صدر بها.

3- معرفة فقه الاختلاف: هو من أهم عوامل ثبات "فقه الاتفاق" ذلك أنّ الخلاف أمر طبيعي، ومن سنن الله في الكون، ولا يمكن أن يتفق الناس جميعاً على رأي واحد في كل العصور، وفي كل الأحوال، فلا بأس من الخلاف ما دام للتنوع لا للقضاء، وإذا كان صحياً ولا يدعو للتفرق واللداد.

ومن أهم عوامل تثبيت الاتفاق أن نفقه كيف نختلف... ونتبع القاعدة الذهبية لصاحب المنار "لنتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".

والاختلاف ليس كله مساوئ ومسالب، فقد يحوي بين طياته مبشرات النصر والوحدة، وقد يوجهنا لأمر مهم نكون منشغلين عنه، وذلك كله – بطبيعة الحال – إذا كان الخلاف قائماً على الأسس الشرعية من مراعاة آداب النصح، دون تجريح أو تطاول وبأسلوب كريم، وفي وقته المناسب.

4- الإلمام بفقه الأولويات: لو عرفنا ما يستحق التقديم وما يستحق التأخير، ورتبنا الأمور وفق أولوياتها لكان اتفاقنا صحياً وصلباً ولصمد طويلاً، لأنّ كل منا سيدرك طبيعة الموقف، ولماذا اتفقنا بشأنه؟ لكن لو تجاهلناه فسيكون الاتفاق هشاً لأنّ الأولويات غير واضحة وخارج دائرة اهتمام متخذ القرار، وكما يقول الإمام الغزالي: فقد الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور".

إن فقهنا لأولويات كل فترة زمنية وكل مرحلة تاريخية سيعيننا على أن نفقه طبيعة الاتفاق الذي نحن بصدده، ويرسخه ويقويه، بل وسيعمل الجميع على حمايته، والزود عنه فيما بعد.

5- النزول على الرأي الصواب

6- اتباع الشورى: في اتباعها خير كثير، إذ ستتعدد الآراء، وستتم المناقشة بوضوح وروية، وسيتم العمل بما تراه الأغلبية، وسوف يؤدي كل فرد دوره المنوط به بغض النظر عن رأيه السابق للشورى، فالشورى ملزمة حينئذ لجميع الأطراف ما داموا قد ارتضوها، فلنتشاور ولنتحاور وليدل كل منّا بدلوه قبل الاتفاق وعند الاتفاق – بعد الشورى – فلا مجال للتردد أو المراجعة – إلا إذا كان الوقت مناسباً – وإلا فلا مجال لهما لأنهما سيكونا من مثبطات العمل.

فساعة التنفيذ يجب أن يبذل كل فرد أقصى ما في وسعه لتحقيق ما اتفق عليه، بغض النظر عن رأيه السابق.

7- استشراف المستقبل: فلننظر إلى أبعد ما يمكن، ولنأخذ جميع الاحتمالات المستقبلية في الاعتبار، مع وضع الأهداف العامة والوسائل التي سنتبعها مستقبلاً نصب أعيننا قبل الاتفاق، فنحن نريد اتفاقاً مبصراً لا اتفاقاً أعمى قاصر النظر.

إنّ "لفقه الاتفاق" من الأهمية بمكان، فلنعمل جاهدين على ترسخ هذا الفقه في نفوسنا – قيادة وجنوداً – لنحمي العمل، ونرسي قواعده على الفهم السليم.

المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1432 لسنة 2001م

ارسال التعليق

Top