• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قضية التراث والمعاصرة

أسرة البلاغ

قضية التراث والمعاصرة
للإنسان مكانة في الرسالة الإسلامية من خلال مجموعة من المفاهيم والمصاديق، من خلال ذلك رأينا من المناسب جدّاً أن نوضح موقف الشريعة الإسلامية المباركة من الثابت والمتغير في حياة الإنسان، وكيف يتعامل الإسلام معها، بما يحفظ مكانة الإنسان على ظهر هذا الكوكب... بعد اجتياح فكر التجربة الأوروبية الحديثة لكافة الأفكار والرؤى التي كانت سائدة قبل عصر ما يسمِّيه الأوروبيون بالنهضة الحديثة في أوروبا، انتقلت إلى بلاد المسلمين بعد مرحلة السقوط أمام الهجمة الأوروبية الغازية أفكار ونظريات ورؤى الإنسان الأوروبي عموماً، وكانت فكرة الصراع بين القديم والحديث والتراث والمعاصرة وصراع القديم مع تطورات الزمان والمكان إحدى النظريات التي امتطت صهوة الغزو الأجنبي لبلاد المسلمين. وتعني هذه الفكرة فيما تعني أنّ الإسلام رسالة وشريعة ليس بمقدوره أن يساير موجة التجديد في حياة الناس، ولذا تعبّر بعض الدراسات والأدبيات عن تلك الفكرة الوافدة بالصراع بين الدين والعلم، وما إلى ذلك من مصطلحات. وقد شهد العالم الإسلامي موجة تنادي بهذه الفكرة حيث مثّلها، ونادى بها مفكّرون وشخوص ومؤسسات اجتماعية وسياسية ومنتديات فكرية ووسائل إعلام ومعاهد تربوية ورجال علم إلى غير ذلك. وإذا كان الصراع بين القديم والجديد له مبرّراته الواقعية في أوروبا من بعض الوجوه كما لاحظنا في أبحاث سابقة، فإنّ هذه المبررات لا وجود لها في بلاد المسلمين: 1-    فإنّ القديم الأصيل عندنا لم يعلن حربه على الجديد ولم يقف حجر عثرة في طريق التقدّم والتطوّر ومستجدّات الحياة الزمكانية. 2-    كما أنّ الجديد في بلاد المسلمين لم يشن حرب إبادة على كلِّ مقولات القديم الموروث من قيم ومبادئ ومقدسات كما جرى بالنسبة لعدوانِ الفكر الجديد ونظرياته على كلِّ موروث في الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية في أوروبا، نعم إنّ النزعة العدوانية التي أجّجها العملاء الفكريون في بلاد المسلمين والمتحجّرون من المسلمين هي التي أوجدت حالة من التدابر بين القديم الموروث والجديد النافع. وإذا استثنينا الأسباب الخارجية التي أجّجت هذا الصراع بين الأصالة والمعاصرة والقديم والجديد في العالم الإسلامي – وهي أسباب أساسية – لوجدنا أنّ هناك عوامل أخرى تشكّل أرضية مناسبة لعيش فكرة الصراع بين القديم والحديث في بلادنا وهذه العوامل ندرجها في محورين: 1-    تحجّر بعض المؤسسات الفقهية الرسمية في بلداننا، وحشرها للإسلام في زاوية الاجترار لبعض المفاهيم والصور التطبيقية التي تخطتها ظروف الزمان والمكان وعدم قدرة تلك المؤسسات على استيعاب المتغيّرات الجديدة في عالم المدنية والقوانين والتشريعات. ويعتبر فرمان "الكلخانة" الذي أصدره السلطان العثماني عبدالمجيد[1] عام 1839م أوضح الأدلّة على فشل المؤسسة الفقهية الرسمية في العالم الإسلامي التي عجزت عن مدّ نظام الدولة العثمانية بالقوانين التي تستوعب مستجدات الحياة في ضوء الشريعة الإسلامية، حيث عمل السلطان العثماني المذكور على إجراء أخطر عملية لتطعيم الدستور العثماني في ذلك التأريخ المبكِّر بمواد قانونية أجنبية ممّا سجّل انطباعاً لدى الكثير من المسلمين – أو هكذا يستفاد من هذه النكسة – في أنّ الفقه الإسلامي عاجز عن مسايرة تطوّرات الحياة الفكرية والعلمية والاجتماعية[2]. 2-    اعتقاد بعض المتعلِّمين من المسلمين أنّ التحولات العلمية والتقنية التي شهدتها أوروبا بعد النهضة الصناعية العامّة فيها جاء نتيجة طبيعية للتجربة الاجتماعية والسياسية الأوروبية الحديثة ولذا فإنّ أيّ تحول مدني مناسب في دنيا المسلمين يتطلّب الائتمام بالإنسان الأوروبي في اتجاهه الحضاري عموماً، مما عزّز نظرية الفصل بين الإسلام والحياة، وأعطى مبرّراً للتحرّك العلماني الواسع في العالم الإسلامي على شكل أحزاب ومناهج ومؤسسات ثقافية وإعلامية وما إلى ذلك. على أنّ الاعتقاد المذكور لم يمتلك سنداً واقعياً بالمرّة، فالذي يدرس تأريخ أوروبا الحديثة لا يشكّ مطلقاً، بأنّ الثورة الصناعية وما أنتجت قد سبقت التحولات الفكرية والدستورية في أوروبا الحديثة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّا نجد أنّ التطورات العلمية لو كانت محصّلة طبيعية للمنهج الحضاري أو السياسي لما وجدنا هذه التطورات يشترك فيها مختلف الأنظمة السياسية والاتجاهات الحضارية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فالتقدّم العلمي والفنِّي تجده يبلغ القمّة في ظلال نظام نازي كنظام هتلر في ألمانيا، بينما تجد هذا التقدّم ذاته في ظلال نظام رأسمالي إقطاعي امبراطوري كاليابان الحديثة، إضافة إلى وجود هذا التحول العلمي الكبير في ظلال أنظمة رأسمالية – ديمقراطية كبريطانيا، وفرنسا وأمريكا، وأنظمة شيوعية كالنظام الروسي السابق أو النظام الصيني الحالي وغيرهما. وهكذا، فالتطور العلمي ليس وقفاً على اتجاه حضاري دون آخر شريطة أن يجد أجواء مناسبة للإنطلاق والنموّ، كالتشجيع والدعم والامكانات المادية وغير ذلك. إنّ هذين المحورين – تحجّر المؤسسات الفقهية الرسمية وربط التحول العلمي في أوروبا بأفكارها المتبناة – قد وفّرا فرصاً مناسبة للصراع بين الإسلام ومبادئه من جهة، والتقدّم العلمي من جهة ثانية، ولو بقي الصراع المذكور فكرياً لهان الأمر، إلّا أنّ ذلك الصراع تحوّل إلى صراع عملي بين قوى ومؤسسات ورجال فكر، وقد ظهرت على مسرح الأحداث بناءً على ذلك ثلاثة اتجاهات: أ‌-      اتجاه يدعو إلى التخلّي عن الإسلام واعتباره مبادئ مرحلية عفا عليها الزمن، وهو اتجاه الأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي، والقوى القومية الاشتراكية المتأثّرة بها كأفكار ميشيل عفلق[3] وقسطنطين زريق وساطع الحصري وشبلي العيسمي والياس فرح وجورج حبش ومن إليهم من القوميين الاشتراكيين في العالم الإسلامي. ب‌- اتجاه يدعو إلى تطوير الإسلام بما ينسجم مع الحضارة الأوروبية المعاصرة، ويتولّى هذا الخط تفسير الإسلام ومبادئه وأفكاره تفسيراً ديمقراطياً أو اشتراكياً أو ما إلى ذلك من أفكار وافدة. وقد ظهرت الكثير من المؤلفات التي تفسِّر الإسلام بهذا الاتجاه في عقد الستينات أمثال: ديمقراطية القومية العربية، د. عبدالله العربي، المجتمع الإسلامي بين النظرية والتطبيق، البهي الخولي، اشتراكية الإسلام، د. مصطفى السباعي، الإسلام بين الإنصاف والجحود، د. عبدالغني حسن وغيرها من مؤلفات. حيث طابقت هذه المؤلفات بين الشريعة الإسلامية والمذاهب الاجتماعية والسياسية الحديثة، الأمر الذي يقود إلى إضفاء الشرعية على تلك المذاهب الوافدة، وتوفير الأرضية لقبولها إضافة إلى طمس هذه الدعوة لمعالم الإسلام تحت ركام هذه الموضات الفكرية! ت‌- دعوة تنادي بالانغلاق على الذات والاكتفاء بالموروث من المفاهيم الإسلامية والصور التطبيقية الماضية للشريعة ورفض كل ما عدا ذلك من فكر ومفاهيم وعلم ومعرفة وتقنية. وقد ظهر هذا الاتجاه المنكفئ على الذات في اليمن في عصر الأئمة في بدايات القرن العشرين، كما ظهر في أفغانستان في بداية القرن أيضاً، كما جسدته بعض المؤسسات الفقهية التقليدية والاتجاهات الصوفية، وتكايا الزهّاد والمتصوفة في السودان، وغيرها في بداية القرن الماضي. إلّا أنّ هذا الاتجاه سرعان ما طواه الزمن عبر تغيّراته المتسارعة بالنظر لمخالفته لروح الإسلام ومطالب الحياة الإنسانية المتجددة. ويختلف الموقف الثالث عن الموقفين السالفين في أنّ الموقف الأخير كان يتحرك أصحابه بدافع الإخلاص للإسلام وأعرافه، وإن كانوا قد أخطأوا المنهج السليم في موقفهم المذكور، إلّا أنّ الموقفين الآخَرَين كان روّادهما ومدارسهما ومؤسساتهما تتحرك من خلال دعم النفوذ الأجنبي في بلاد المسلمين. وهذان الاتجاهان يحتلّان المتقدمة في حياة المسلمين العامة، حيث يحظيان بإدارة شؤون المسلمين في أكثر أقاليم العالم الإسلامي، ويمتلكان مراكز الثقل والقوة والإمكانات في تلك الأقاليم، الأمر الذي يجسّد خطورة الاتجاهين الوافدين بوضوح في هذه المرحلة. إنّ استعراض هذه الحقائق والأحداث التي رافقت موضوع الصراع بين القديم والحديث يقتضي أن نشخّص الموقف الإسلامي الأصيل من هذه القضية الحضارية التي لا تزال المجامع العلمية تطرحها بين الحين والآخر ويدور حولها الجدل بين المفكّرين والأدباء وأهل التشريع والتقنين والفقهاء... فنقول[4]: إنّ التجربة الحضارية الأوروبية المعاصرة التي احتكّ بها المسلمون في العصر الحديث تشتمل على ثلاثة محاور: 1-    محور الأفكار والتشريعات والمفاهيم التي تتناول الحياة والمجتمع والإنسان والدولة، حيث وفدت العديد من المبادئ والأفكار والقوانين والأعراف والقيم مع موجة الغزو الاستعماري لبلادنا الإسلامية، وفي هذه المبادئ والتصورات ما يناقض مبادئ الرسالة الإسلامية وقوانينها. فالإسلام له نظرته الخاصة لمصدر الوجود ومصير الإنسان، وخلقه المستقل، كما أنّ له نظرته لعلاقة الرجل بالمرأة، وله تصوّره الخاص حول توزيع الثروة والملكية، كما أنّه طبيعة الدولة ومهامّها تختلف لدى الإسلام عن غيره من المذاهب السياسية إلى غير ذلك. ومن أجل ذلك فإنّ تخطٍّ صريح لواحد من حدود الله ومبادئه وبصائر وحيه يعدّ اعتداءً على حدود الله عزّ وجلّ، وتجاوزاً لمبدأ الأصالة وتحليلاً لما حرّم الله أو تحريماً لما أحلّ. 2-    محور التقدّم المدني المتعدد الوجوه والأبعاد الذي يمثله التطور في علم الطب والفلك وعلم الفضاء والكيمياء والهندسة والنبات والجيولوجيا والصناعة بكثير من حقولها وآفاقها! دون ما كان منها يحمل قيم الحضارات التي أنتجتها أساساً. وغير ذلك، إنّ هذا اللون من التقدم والنمو في مسيرة الحياة الإنسانية إنّما يشكّل امتداداً وثماراً لجهود العديد من الحضارات والنتاجات التي حققها البشر عبر ثلاثين حضارة شهدها هذا الكوكب[5]. إلّا أنّ أوروبا قد قفزت بالعلم بآفاقه العديدة قفزات واسعة لما استفادته من الخبرات السابقة، وأضافت إليه تجربة العلماء والخبراء والفنّانين الجديدة... وهذا النمط من العطاء ممّا يشجّعه الإسلام الحنيف، ويحثّ أتباعه على المساهمة في إثرائه وتطويره تماماً كما كان يفعل إبّان قيام الحضارة الإسلامية في العالم طيلة عدة قرون. ومن الجدير ذكره هنا أنّ العلم والتطور التقني ليس وقفاً على حضارة أو تجربة اجتماعية دون أخرى أبداً، وإنّما هو ملك لكلّ عقل حرّ وأمة ناهضة مهما كان نظامها الاجتماعي والسياسي. 3-    حقل التنظيمات الإدارية والمالية والعسكرية وغيرها، كتنظيم المصارف والمرور وتنظيم العمال والطلبة ودوائر الدولة والجيش والشرطة وتنظيم البريد وتوزيع المال على المحتاجين وما إلى ذلك، فإنّ الإسلام لا يرى بأساً من الاستفادة منها سواءً كانت من نتاج أوروبي أو آسيوي، باعتبارها تجارب حضارية تخدم مسيرة الإنسان وتساهم في تحقيق السعادة له. على أنّ الإسلام الحنيف يلوّن هذه التنظيمات بلون حضاري خاص ويطوّرها وفقاً لضوابطه الرسالية الخاصة، وينفي عنها ما علق بها من قشرة أو تأثير حضاري آخر مخالف لقيمه، كما يعمل على استحداث قوانين وضوابط خاصة تنتجها عبقريات أبنائه. إنّ هذا التقسيم الفني لنتاج الحضارات التي ينتجها الإنسان عبر ظروفه الزمكانية هو الذي يمكّننا من تعزيز الأصيل من ثقافتنا ومبادئنا فنعمّقها في حياة الفرد والجماعة ونحافظ عليها في الوقت الذي ننتفع فيه بالجديد الإيجابي فضلاً عن امتلاكنا فرصة الاجتثاث لنظرية (تطوير) الإسلام حسب إرادة النفوذ الحضاري الاستعماري من جذورها.

إنّ وضوح هذا الموقف في أذهان المفكِّرين الإسلاميين هو الذي يدفعهم اليوم لخوض معركة المصير من أجل أن يستأنف الإسلام وجوده الحضاري في الأرض في دورة تأريخية جديدة تنفض تراب التخلف والنكوص عن كاهل الإنسان المسلم إن شاء الله عزّ وجلّ.

الهوامش:

[1]- كيف هدمت الخلافة، عبدالقديم زلوم، دار الأُمّة للطباعة، ص38-39. الكلخانة: هو مصطلح لأوّل دستور للدولة العثمانية طُعِّم بالتشريعات الغربية الأوروبية في زمن السلطان عبدالمجيد الأوّل. [2]- أصدر شيخ الإسلام وهو أعلى سلطة دينية فقهية في الدولة العثمانية قراراً بجواز الأخذ بالنظم الأوروبية، المصدر السابق، ص48. [3]- أنظر فس سبيل البعث، ميشيل عفلق، ومؤلفات الياس فرح وساطع الحصري وغيرهم. [4]- استفدنا موقف الإسلام من قضية الصراع بين الأصالة والمعاصرة أو القديم والجديد من كتاب: رسالتنا، جماعة العلماء في الجف الأشرف، بحث (رسالتنا خالدة متطورة)، وكتاب: الإسلام ورسالته الخالدة، محمد أبو المجد، ط1، بيروت، وكتاب التوحيد، للشيخ الصدوق (رض)، (مناظرات الإمام الرضا (ع) لليهود والنصارى والزرادشتية وأصحاب الكلام وغيرهم)، وبحث الإسلام ومتطلبات التغيير الاجتماعي للعلامة المرحوم السيد محمد حسين الطباطبائي (رض). [5]- يرى تويبني في كتابه: "دراسة للتأريخ" أنّ البشر عبر تأريخهم الطويل قد شهدوا ثلاثين حضارة توارثت الأخذ بزمام أمر الإنسان وصياغة حياته.

ارسال التعليق

Top