نظرةٌ في القيم الإسلامية التي قامت عليها حقوق المرأة
تمهيد:
يعدّ الوقوف عند مسألة دور المرأة وحقوقها في الإسلام في وقتنا الرّاهن من أهمِّ القضايا الفكريّة والحضاريّة، فقد باتت قضايا المرأة من أكثر الأمور إثارةً للجدل، ولم يزل خصوم الإسلام يواصلون هجومهم غير العلمي على الفكر والتّشريع الإسلامي، مدَّعين ظلم الإسلام للمرأة وتكريسه لتبعيّتها وإهدار حقوقها.
وقد لعب الخلط الحاصل بين ممارسات بعض المسلمين البعيدة عن تعاليم الإسلام – خاصّةً فيما يتعلّق بالعلاقات الأسرية وحقوق الزوجة – من جهةٍ، وبين تعاليم القرآن والسُّنّة من جهةٍ أخرى، دوراً بارزاً في توجه سهام النَّقد والتَّجريح لتعاليم القرآن والسُّنّة، ومسؤوليّتها عن تلك السلوكيات المنحرفة بما تحمله من جورٍ وظلمٍ في كثيرٍ من الأحيان.
من هنا تأتي هذه الورقة لإبراز القيم الأساسيَّة التي قامت عليها نظرة الإسلام للمرأة وحقوقها في تشريعاته.
- أوّلاً: تعريف القيم
تشتقّ كلمة (القيمة) في اللُّغة العربيّة من القيام، وهو نيقض الجلوس، والقيام بمعنى آخر هو العزم، ومنه قوله تعالى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) (الجن/ 19)، أيْ لمّا عزم.
كما جاء القيام بمعنى المحافظة والإصلاح، ومن قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (النساء/ 34)، وأمّا القوام فهو العدل، وحسن الطُّول، وحسن الاستقامة.
و(القيم) جمع قيمة، وهي ما يكون به الشَّيء ذا ثمنٍ أو فائدة، يقول المثل العربي: "قيمة كُلَّ امرئ ما يحسنه" وتُشير القيمة إلى الخصلة الحميدة، والخلّة الشَّريفة التي تحضُّ الإنسان على الاتِّصاف بها، كحرصه على إقتناء الأشياء ذات القيمة الثمينة والاحتفاظ بها، والقيمة ثمن الشيء الذي يقوم مقامه.
ومفهوم القيمة (Value) من المفاهيم التي يشوبها نوعٌ من الغموض والخلط في استخدامها، وهذا نتيجةٌ لأنّها حظيت باهتمام كثير من الباحثين في تخصُصاتٍ مختلفة؛ ولهذا اختلف الباحثون فيوضع تعريفٍ محدَّدٍ لها، ومردُّ ذلك الاختلاف يعزى إلى المنطلقات النظرية التخصية لهم، فمنهم: علماء الدِّين وعلماء الاجتماع، وعلماء الاقتصاد، وعلماء الرِّياضيات، وعلماء اللُّغة.. فلكل منهم مفهومه الخاص الذي يتفق مع تخصصه.
ونرى أنّ القيم: عبارةٌ عن المعتقدات التي يحملها الفرد نحو الأشياء والمعاني وأوجه النشاط المختلفة، والتي تعمل على توجيه رغباته واتجاهاته نحوها، وتحدد له السلوك المقبول والمفروض والصواب والخطأ، وتتصف بالثبات النسبي.
وتعدُّ الأسرة المصدر الأوّل في تكوين قيم الفرد واتجاهاته، وعاداته الاجتماعية، فهي التي تمدُّه بالرصيد الأوّل من القيم والعادات الاجتماعية. ويشترك عددٌ من الجماعات الأخرى مع الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية، مثل: المدرسة، وثُلّة الأقران والأصدقاء، والأندية الرياضية، والهيئات الدينية، والجماعات المهنية، والهيئات السياسية... إلخ.
- ثانياً: تعريف الحقوق
ثمّة استعمالاتٌ عدة للفظة "الحقّ"، استعمالاتٌ مثل الحقّ الذي يعني الشيء الموجود والثابت، أو الكلام الذي يُطابق الواقع، أو الوعد الحتمي الوقوع...
أمّا في عرف القانون، فالحقوق: الامتيازات والاختصاصات التي تختصُّ بفردٍ أو جماعةٍ، والتي يجب على الآخرين احترامها وعدم الاعتداء عليها. أو مجموعة القرارات التي تجب مراعاتها، سواء أكانت هذه بشكل تعيين امتيازاتٍ للأشخاص، أم بشكل تعيين واجبات وتكاليف تُفرض على الآخرين، أم كانت تبيّن أحكاماً وضعيّة، كشروط صَحّة العقود والاتفاقات. وهي بهذا المعنى ترتبط بحقِّ الأفراد أو بحقِّ المجتمع. كما تعني إثبات واجباتٍ متقابلةٍ على جميع الأفراد أيضاً.
من هنا كان الحقُّ والتكليف متلازمين، والإقرار بأحدهما يستجب الإقرار بالآخر. فإذا كان ثمّة تكليفٌ مفروضٌ على أحدٍ، فإنّه يستلزم ثبوت حقٍّ للآخرين، وإذا كان ثمّة تعيينٌ لتكاليف على الأفراد جميعاً، فإنّه كذلك يعني إثبات واجباتٍ متقابلة، وهكذا. فما كان حقٌّ لي فهو واجبٌ على آخر، وما كان حقّاً لآخر فهو واجب عليّ.
- ثالثاً: مقاصد الرُّؤية الإسلامية للحقوق والواجبات
لقد جعل الشارع لحياة الإنسان – رجلاً كان أم امرأةً – غايةً عظيمةً ومقصداً أسمى، متمثِّلاً في توحيد الله واستخلافه للإنسان لإعمار هذه الأرض وإصلاحها وعبادة الله من خلال القيام بهذا الدَّور. وتقوم الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان عامّةً على هذه المنطلقات، فما هي مقاصد الرُّؤية الإسلامية من إبراز حقوق المرأة والحديث عن واجباتها؟
- التَّوحيد الذي يمثِّل رؤية الكون ومناهج التفكير ومسالك التفاعل الاجتماعي لكل الأفراد في المجتمع.
- الاستخلاف، وهو مبدأٌ يعتمد على قيام الإنسان بخلافة الله في الأرض، وتسليمه بضرورة إعمارها والمساهمة بإقامة البناء الحضاري عليها. ويستتبع ذلك تكليف الإنسان بضبط حركته وفق المنهج الإلهي الثابت الذي يُحدِّد رؤيته وتصوُّراته لطبيعة الدور الذي يقوم به في الكون. فالإنسان مكرَّمٌ بنصِّ القرآن الكريم: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/30). فأمانة الاستخلاف ملقاةٌ على الرجل والمرأة معاً، وهما مكلّفان بالمسؤولية عن طبيعة وجودهما الإنساني على الأرض.
- السُّنن التي أودعها الله في الكون والأنفس ليستقيم نظام الخلق على هذه الأرض. وهذه القوانين تحكم نواميس الطبيعة والإنسان والمجتمع، ولكنّها في الإنسان والمجتمع ليست جبريّات ولا حتميّات، بل هي قائمة على اختيار الإنسان وقدرته على التمييز بين الخطأ والصواب. ومن هذه السُّنن: اختلاف الطبيعة الأنثوية عن الذكرية بما يكفل تكامل أدوار كُلّ منهما. وأيّة مصادرةٍ لهذه السنن أو محاولةٍ لتجاوزها، ستؤدي إلى خلق نوعٍ من الفوضى العارمة التي يمكن أن تُهدِّد الكيان البشري وبقاءه على هذه الأرض. إنّ غياب استحضار هذه المقاصد الهامّة يمكن أن يؤدي إلى عدم التفرقة بين الرؤية الإسلامية لحقوق المرأة عن غيرها من الرؤى كالغربيّة مثلاً، التي ترى كثيراً أنّ استغلال الرجل للمرأة يُشكِّل أحد أبرز أشكال الصراع الاجتماعي في عالمنا المعاصر.
وقد ظهرت آثار ذلك جليّة في انتقال حركة تحرير المرأة في الغرب من المطالبة بالمساواة إلى ما يُسمّى بالأنثوية أو التمركز حول الأنثى، التي شكّكت في مضمون الذكورة والأنوثة، وتأكيدها على ارتباطهما بالثقافة والتنشئة، وليس القدرات والإمكانات، وطرحها لمفهوم الأمومة ونقدها لمفهوم الأُبوة ودعوتها إلى الثقافة الأنثوية المستقلّة، ورفعها لشعارات الصراع بين الجنسين.
- رابعاً: القيم الإسلامية الحاكمة لحقوق المرأة وواجباتها
تتمحور الرؤية الإسلامية لحقوق المرأة حول عدة أمور أبرزها: العدالة، والحرية والمساواة.
- المساواة:
البشرية في عمومها أسرةٌ واحدةٌ ترجع في أصل خلقتها ونشأتها إلى نفسٍ واحدةٍ هي نفس آدم (ع) أبو البشر. وقد قرّر القرآن الكريم هذا المبدأ في مفتتح سورة النساء في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/ 1).
من هنا جاءت نصوص القرآن الكريم والسُّنّة النبوية موجّهةً إلى إحياء الشعور بالتعاطف الأخوي الإنساني، مؤكّدة وشائج الترابط النِّسبي بين أفراد الإنسانية في شتّى الأزمنة والعصور بما يدعم ذلك الترابط والتعاون المسوق إلى تبادل المنافع والخير، وتحقيق المحبّة والوئام للبشرية أجمع.
كما قرّر القرآن الاختلاف كحقيقةٍ إنسانيةٍ طبيعيةٍ، وتعامل معها على هذا الأساس. فالإنسانية واحدةٌ، وقد خُلِقت من نفسٍ واحدةٍ. وهذه الوحدة ليست في الأصل فحسب، بل في الهدف كذلك، وهو التعارف.
والغاية من التقسيم إلى شعوبٍ وقبائل إنما هي التعارف لا التخالف، والتعاون لا التخاذل، والتفاضل بالتقوى والأعمال الصالحة التي تعود بالخير على المجموع والأفراد، والله تعالى رب الجميع يراقب هذه الأُخوّة ويرعاها، وهو يطالب عباده جميعاً بتقريرها وصيانتها، فيقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13).
وأكّد النبي الكريم هذه المعاني طوال فترة حياته قولاً وعملاً، وفي الخبر عن رسول الله (ص) يوم فتح مكّة أنّه قال: "يا أيُّها الناس، إنّ الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: برٌّ تقيٌّ كريمٌ على الله، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تُرابٍ"[1].
فليس ثمّة شرعيّة لتعصُّبٍ قوميٍّ أو تمييزٍ عنصريٍّ أو عرقي. وعلى هذا ألغى الإسلام كل مصادر الفرقة والحقد والخصومة والنِّزاع بين الناس من أيّ دينٍ كانوا، وكانت السيرة النبوية تطبيقاً لهذه المبادئ.
هذه الوحدة تقوم على الاختلاف والتنوُّع، وليس على التماثل والتطابق، وإظهار الوحدة في التنوع ودعوة الناس إلى التعارف هو غاية هذا الاختلاف؛ ذلك أنّ الاختلاف آيةٌ من آيات عظمة الله، ومظهرٌ من مظاهر روعة إبداعه في الخلق. يقول القرآن الكريم: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم/ 22). واختلاف الألسن واللُّغات المشار إليها في الآية لا يعني اختلاف اللَّهجات كوسائل للتخاطب والتفاهم والحوار فحسب، بل ينصرف إلى ما تتضمّنه تلك اللغات والاختلاف في اللهجات من معانٍ وأفكارٍ وتصوّرات.
ويتمتّع كُلّ مواطن بهذه المساواة أمام القانون، وهو أمرٌ ربانيٌّ لا يحتمل مساومةً، يقول تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء/ 58). وهذه الآية الكريمة تأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، مسلمين أو غير مسلمين، كما تقضي بأن يلتزم العدل في الحكم بين الناس كلّهم، دون تمييزٍ بسبب اختلاف الدِّين، أو العنصر، أو الثقافة، أو الجنس، أو اللّون. والمؤمنون مأمورون ديناً أن يكونوا قوّامين بالقسط في كل موقفٍ؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8)، فلكُلِّ مواطنٍ الحقُّ في التملُّك والإرث والبيع والشِّراء..
وجاء في القرآن الكريم أيضاً: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 71). وهذا يؤكّد على أنّ الحياة العامّة تحكمها الرابطة الإيمانية في إطار الأُمّة، وأنّ المساواة بين الإثنين هي الأصل، وتتمثّل المساواة في القيمة الإنسانية والحقوق الاجتماعية والمسؤولية والجزاء، وهذه المساواة تتأسّس على وحدة الأصل ووحدة المآل والحساب يوم القيامة. أمّا ما ورد من استثناءاتٍ على هذه القاعدة، فمردّه إلى اختلاف الاثنين في بعض الخصائص التي تخدم تكاملهما في تحقيق الاستخلاف الذي يظلُّ هو الإطار الضابط للمساواة بينهما وفق المفهوم القرآني.
فالمرأة والرجل يتساويان مساواة كاملة في المسؤولية الإنسانية بوصفهما من أصلٍ واحدٍ، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/1)، إلا أنّها مساواة تكاملٍ، وليست مساواة تطابق؛ لأنّ لكُلِّ واحدٍ منهما خصائصه التكوينية المختلفة عن الآخر.
وفي آيةٍ يؤكّد الله – عزّ وجلّ – هذه المسؤولية ويربطها بالصَّلاح الذي هو أساس العمل الجادّ المكلّف به الرجل والمرأة على السواء، وذلك في قوله تعالى في سورة آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران/ 190-195).
ففي هذه الآيات حُدِّد الهدف والغاية من الوجود الإنساني المتمثّل في تحمُّل الأمانة بتوحيد الله وعبادته دون سواه. كما حدّدت الآيات أنّ العمل الصالح بمختلف مستوياته وأنماطه عبادةٌ يُثاب عليها المرأة والرجل، كما في قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97).
من هنا فإنّ قيمة المساواة في الرؤية الإسلامية تختلف تماماً عن نظيرتها في الفكر الغربي التي قامت على أساسٍ مغايرٍ تماماً، يفترض فكرة الصراع بين الرجل والمرأة، وهو ما ظهر بوضوحٍ في الحركات النسائية الراديكالية في الغرب اليوم.
من هنا فإنّ الإسلام يراعي الحقوق من حيث اهتمامه برعاية الواجبات، فكل حقٍّ للإنسان هو واجبٌ على غيره، وينادي بتكريم المرأة والترفُّع بها، ومنحها الحقوق والمكانة التي تؤهلها لمشاركة الرجل في بناء الحياة، والتعبير عن إنسانيتها على أسسٍ إنسانية رفيعة.
وعليه: يمكن القول بأنّ الإسلام وضع المرأة في مكانها الطبيعي من حيث الإنسانية والتقدير والمنزلة، وعدم اختلافها عن الرجل إطلاقاً، كما أنّ ما منحه من حقوقٍ لم يكن نتيجة مؤثراتٍ خارجية أو ثوراتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ أو أزماتٍ سياسيةٍ وصراعاتٍ مسلّحةٍ أو أدوارٍ جديدةٍ مارستها المرأة. وعلى الرغم من أنّ الإسلام قد جاء ليؤكّد وحدة الجنسين وانبعاثهما من نفسٍ واحدةٍ بحيث يتساويان مساواةً كاملةً في كرامتهما الإنسانية، إلا أنّ الثقافات الشعبية في كثيرٍ من المجتمعات – كما هي الحال في المجتمع العربي – ظلّت تنتقص من قدر المرأة، وتجعل من طبيعة شقيقها الرجل الأنموذج المثالي الذي يتمّ الاحتكام إليه كمعيارٍ أساسيٍّ في تحديد ما محبّذ من خصائص وسماتٍ ينبغي أن تنسحب أيضاً عليها؛ حتى تكون أهلاً لوصفها بالسواء والطبيعة والاكتمال.
- العدالة:
تقتضي قيمة العدالة الحاكمة أنْ يعطي كُلّ ذي حقٍّ حقّه، بصرف النظر عن الموافقة في الدِّين أم لا. وقد أمر الله المؤمنين أن يلتزموا بهذا المعنى للعدالة، وأنْ يطبّقوه، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8).
والعدل والإنصاف منهجٌ دقيقٌ يُمثّل جميع صور القسط والعدل مع القريب والبعيد، المخالف والموافق، دون تمييزٍ بين مسلم أو غير مسلمٍ، بل ينهى عن جميع صور الجور والظُّلم مع كلِّ أحدٍ. فمبدأ الظُّلم محرّمٌ بكلِّ حالٍ، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يظلم أحداً مهما اختلف معه أو عنه.
وقد أرسى القرآن معالم هذه العدالة وصورها حين خاطب المرأة مع الرجل بتعاليم الإسلام وتكاليفه وتشريعاته، سواء فيما يرتبط منها بمسائل شخصية كالزواج والطلاق، واكتساب المال، والتصرف فيه، أو ما يتعلق بالشؤون العامّة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها.
وثمّة إجماعٌ بين علماء الأصول والتفسير والفقه على أنّ خطاب التكليف يستوي فيه الرجال والنساء، بل قالوا بأنّ النصوص الإسلامية التي يوجّه فيها الخطاب للرجال هي في ذات الوقت موجّهة للنساء أيضاً، في كلِّ الأحكام والتكاليف والعظات، ما لم يأتِ ما يُقيّد الخطاب، أو ما لم يُصرّح في الخطاب بأنّه خاصٌّ بالرجال دون النساء أو العكس.
عن أمّ سلمة زوج النبي (ص) أنها قالت: "كنتُ أسمع الناس يذكرون الحوض، ولم أسمع ذلك من رسول الله (ص)، فلمّا كان يوماً من ذلك والجارية تمشّطني، فسمعتُ رسول الله (ص) يقول: أيها الناس، فقلتُ للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدعُ النساء، فقلتُ: إني من الناس..."[2].
وفي الحديث: "جاءت امرأةٌ إلى رسول الله (ص)، فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تُعلّمنا ممّا علّمك الله. فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا، في مكان كذا وكذا. فاجتمعن فأتاهنّ رسول الله (ص)، فعلمهنّ ممّا علّمه الله"[3].
وفي إطار هذه العدالة المقررة في الخطاب القرآني والسُّنّة النبوية، وفي إطار المسؤولية الإنسانية والاجتماعية والسياسية، يأتي تأكيده (ص) ليقرّر هذه الحقيقة من خلال قوله: "إنّما النساء شقائق الرِّجال"[4]؛ ليكشف عن مطلق وعمومية المساواة والعدالة التي تقتضي المشاركة في تحمُّل المسؤولية أمام الله – عزّ وجلّ –، وأمام نفسها ومجتمعها وأمتها، وليرسخ مفاهيم الآيات الكريمة التي وردت في اعتبار المرأة مكمّلة للرجل، وهو مكمّلٌ لها.
فهذه النصوص تؤكّد أنّه لا مجال لتقليص نشاط المرأة أو عملها المنضبط بضوابط الشرع المعروفة إذا رغبت فيه، وكانت لها القدرة عليه، ضمن حدود الشرع وآدابه المعروفة، واحتياجات أُسرتها والمجتمع الذي تعيش فيه.
قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 71).
فللمرأة شخصيّتها المستقلّة، وحضورها الواعي في كلِّ مجالات الحياة العامة والخاصة، والتزامها بحدود الله والآداب الشرعية، سواء كان ذلك في قرارها في بيتها تقوم برسالة أمومتها، أم في العمل المهني بما لا يتعارض مع مسؤوليتها الأسرية ورسالتها الأصليّة؛ حيث شاركت في الإفتاء والتدريس والرواية والتمريض والزراعة وغير ذلك من شؤون الحياة.
من هنا قدّم القرآن الكريم المرأة الصالحة مثلاً عمليّاً للرجال والنساء، وطالبهم بالاقتداء بها، جاء ذلك في قوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم/ 11)، الأمر الذي يبرز مفهوماً حضارياً إيمانيّاً فريداً في عالم الفكر والحضارة الخاص بالمرأة الصالحة؛ فقد جعلها مثلاً أعلى، وقدوةً للرجال، كما هي قدوةٌ للنساء في الإيمان والموقف الاجتماعي والسياسي والأخلاقي.
كما سجّل القرآن دور المرأة في حياة الأنبياء (ع) ودعوتهم، ومشاركتها لهم في الهجرة والجهاد، مقروناً بدور الرجل، عند حديثه عن الهجرة والبيعة والدعوة والولاء، واستحقاق الأجر والمقام الكريم، وعلاقة الرجل بالمرأة.. في عددٍ هائلٍ من الآيات والنصوص التي لم تفرّق بين الرجل والمرأة في حمل الأمانة والمسؤولية والجزاء عليها.
فالمرأة والرجل في مفهوم رسالة الإسلام يوالي بعضهم بعضاً، ولاءً عقائدياً، يقومون بإصلاح المجتمع، ومحاربة الفساد والجريمة والانحطاط، ويحملون رسالة الخير والسَّلام والإعمار في الأرض، وهذا منتهى العدل بين الناس.
- الحُرِّيّة:
تنبثق قيمة الحرية من القيم الأخرى الحاكمة في القرآن الكريم، وتقوم على أساس الاعتراف بحرية البشر الفطرية، فالناس أحرارٌ، واستلاب الحريات بكافّة صورها أمرٌ طارئٌ حادثٌ، بحكم النزعات العدوانية، والرغبة في السيطرة على الآخرين، وتحقيق مصالح محدّدة، إلا أنها حرية منضبطةٌ بقيم العدل والمساواة والأخلاق.
والحرية شرط التكليف، وهي الأسلوب الاحتجاجي الذي كان يستخدمه القرآن حتى مع كُفّار قريش؛ حيث عرض حجتهم بمنتهى الموضوعية، وجعلها على النصف من حيث القيمة الاستدلالية، كما في قوله: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 24).
إلا أنّ الحرية في الإسلام مشروطةٌ بمنظومةٍ من الحدود التي تحدّها، وتحقّق فعالية هذه القيمة في إطار العدل. فالإسلام ينظر إلى الحرية ليس باعتبارها حرية فردٍ، بل باعتبارها حرية المجموع، وحرية المجموع تؤدي إلى الدخول في علاقاتٍ، ولا تستطيع أن تحكم حرية الأفراد إلا من خلال مفهوم العدل.
فالحديث الدَّائر اليوم عن حرية المرأة بالمفهوم الغربي الداعي إلى الانعتاق من أيِّ ضابطٍ أو شرطٍ، يغاير مفهوم الحرية في الإسلام.
فقد أبرز الغرب العديد من القضايا بناءً على القول بحرية المرأة، فالمرأة حرة في التصرف بجسدها، كالحرية الجنسية وحقّ الإجهاض، وتشكيل الجسد كما تشاء.. وهو ما ركّزت عليه المؤتمرات وخاصّة مؤتمر السُّكان ووثيقة بكين. الأمر الذي أودى بهذا النوع من الحرية إلى إباحة الزواج بين مثيلات الجنس، كما حدث في النرويج والدانمارك وهولندا وغيرها.
أعاذنا الله من هكذا حُرِّيّة..
الهوامش:
[1]- رواه الترمذي في سننه 64:5، تحقيق وتصحيح: عبدالرحمن محمد عثمان، الطبيعة الثانية 1403، نشر: دار الفكر، بيروت.
[2]- النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم 67:7، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا (ص)، نشر دار الفكر، بيروت.
[3]- البخاري، الإمام ابو عبدالله محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري 149:8، كتاب الاعتماد بالكتاب والسنة، ونشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1981، مصورة عن طبعة دار الطباعة العامرة باستانبول.
[4]- الإمام ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد 256:6، دار صادر، بيروت.
* أكاديميّة ونشاطة إسلامية في شؤون المرأة/ مملكة البحرين
المصدر: رسالة الثقلين/ العدد 59 لسنة 2008م
ارسال التعليق