د. محمد الطيب النجار
◄كانت دعوة محمد بن عبدالله (ص) دعوة الاتحاد والوحدة، عرفها الناس على هذا الأساس منذ أشرقت الأرض بنورها الوضاء، ومنذ انبعث الحق المبين ونادى به النبي الأمي العربي في بطحاء مكة، ووسط الظلمات المتكاثفة التي كانت تخيم على أرجاء الجزيرة العربية. من العقيدة الفاسدة والعصبية القبلية المدمرة أو الآثرة الطاغية الباغية.
فحينما ظهر الإسلام الحنيف كانت الأُمّة العربية مجموعة من القبائل المتنافرة المتدابرة وكان عددها ثلاثمائة وستين قبيلة ولكنها – على كثرتها – ضعيفة هزيلة إذ كان بأسها بينها شديداً، وكانت كل قبيلة مشغولة بنفسها لا يعنيها إلا مصلحتها الخاصة ولو هدمت بذلك آمال غيرها من القبائل. ولكل قبيلة رئيسها السيد المطاع الذي لا يعقب على حكمه. ولا يعصى له أمر مهما جر عليهم من الويلات والمتاعب، ولكل قبيلة إلهها الخاص بها وهو الملاذ الذي تلجأ إليه في الخطوب، وتستعين به إذا مسها الضر ونزلت بها النوازل ومن عجب أن يكون هذا الإله حجراً لا يضر ولا ينفع ولا يبصر ولا يسمع، بل ولا يملك كشف الضر والأذى عن نفسه حتى يمكن أن يكشفه عن غيره.. ولو تتبعنا تاريخ العرب أيام الجاهلية.. وتسمعنا إلى أحاديثهم وأشعارهم لراعتنا تلك العصبية القبلية الخبيثة التي كانت تجعل من كل قبيلة دولة مستقلة لا تقف دون مطامعها المادية والأدبية حواجز أو حدود. وطالما ثارت الحروب بين القبائل من أجل تلك المطامع فأزهقت الأرواح وسالت الدماء، وتناثرت الجثث والأشلاء ومن ذلك ما وقع بين خزاعة وجرهم، وبين بكر وتغلب، وبين الأوس والخزرج، إلى غير ذلك من سائر الأحداث الكبار الجسام.. لقد بزغت الدعوة الإسلامية في هذا الظلام الحالك وبين تلك الأعاصير الحمقاء فأشرقت على العالم بدستور قوي متين يدعو إلى مكارم الأخلاق، وينشر العدل والمساواة بين جميع الأمم والأفرد، وينظم العلاقات بين الفرد والجماعة، وينفي الفوارق بين العرب والعجم، وهكذا جاء حافلاً بالفضائل كفيلاً بانقاذ الناس والسير بهم. إلى شاطئ الأمن والسلام..
ودعوة الإسلام إلى الاتحاد واضحة صريحة وقد بنيت على أساس سليم هو الأخوة بين الناس جميعاً، وعدم التفاضل بالأحساب والأنساب، أو الجاه والسلطان، أو الرتب والألقاب. وانما يقاس الفضل بالعمل. ويكون المثقال الذي يوضع في الميزان هو الإخلاص والإيمان. وفي ذلك يقول الله عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13)، ويقول الرسول (ص): "الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". ثمّ ينادي في حجة الوداع أمام قبائل العرب جميعاً فيقول: "أيها الناس، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.." وحينما سرقت فاطمة المخزومية وكانت من قبيلة شريفة جاء أسامة بن زيد ليشفع لها حتى لا يقيم الرسول الحد عليها، فغضب رسول الله (ص) ثمّ قال: "إنما أهلك من كان قبلكم انّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها".
.. ولم تكن هذه المبادئ الإنسانية العادلة قولاً مأثوراً، أو كلاماً مسطوراً فحسب، ولكنها كانت حقيقة واقعة تجلت في جميع أعمال الرسول (ص) وأصحابه المخلصين. إذا انمحت من نفوسهم تلك المبادئ الهدامة التي كان لا يقاس الرجل فيها بخلقه وأدبه ومروءته، وانما يقاس بقبيلته وبطنه وفصيلته، وأصبحوا ينظرون إلى الناس بمنظار واحد ويزنونهم بميزان واحد.. فقبيلة "باهلة" – مثلاً – كانت في الجاهلية احط قبائل العرب حتى لقد قال القائلون فيهم:
وما ينفع الأصل من هاشم **** إذا كانت النفس من باهلة
وقال الآخرون عنهم:
لو قيل للكلب يا باهلي **** عوى الكلب من شؤم ذاك النسب
هذه القبيلة التي كانت في الجاهلية على هذا الوضع المشين المهين أصبحت بعد الإسلام تقف جنباً إلى جنب مع سائر قبائل العرب في صفوف متساوية لا تحجز بينهم فواصل الطبقية المزرية والعصبية المخزية.. وأصبح الإسلام مناط فخرهم ودعامة مجدهم وشرفهم إذ رأوا في سماحته العادلة وعدالته السمحة ما يغني عن الحسب والنسب والرياض والنشب فكانوا يقولون – وبحق ما يقولون:
فنحن بنو الإسلام والله واحد **** وأولى عباد الله بالله من شكر
وقد وضع رسول الله (ص) المخلصين من الأعاجم في صف المخلصين من العرب جنباً إلى جنب، وكتفاً إلى كتف تحت ظلال الأخوة الإسلامية الوارفة. وقدم المخلصين من الأعاجم على كثير من العرب الذين لم يتوافر لهم مثل هذا الإخلاص.. فبلال بن رباح الحبشي كان من خاصة المقربين لرسول الله ولسائر المسلمين، وقد رفعه الرسول بإخلاصه وبلائه في الإسلام إلى أعز مكانة وأسماها، وسلمان الفارسي كان من المقربين لرسول الله ولسائر المسلمين، وهو الذي تولى قسم الغنائم بين المسلمين في واقعة جلولاء حتى لقد أنسته عدالة الإسلام جنسيته فكان يقول مفتخراً: أنا ابن الإسلام، وصهيب الرومي كان – كذلك – من المقربين لرسول الله ولسائر المسلمين.
وفي ظل هذه الأخوة الكاملة لابّد أن يسود التعاون والتضامن، وتنمحي العداوة والبغضاء ثمّ يكون الاتحاد بين الأفراد والجماعات، وبين الأُمم والشعوب، ولابدّ أن يسموا هذا الاتجاه في مظهره ومخبره فلا ينفذ إليه طعن، ولا يصيبه الضعف والوهن، بل يتحقق فيه ما أشار إليه الرسول (ص) حيث قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً".. ولقد بدأ رسول الله (ص) في تحقيق هذا الاتحاد بين قبائل العرب بعد أن هاجر من مكة إلى المدينة، فوضع بذلك أساس القوة لدولة الإسلام الجديدة.. ذلك بأنّ الأوس والخزرج كان بينهم – منذ استقروا في يثرب – صراع قوي على المجد المادي والأدبي أوجدته العصبية القبلية التي كانت تمشي في أرجاء الجزيرة العربية كما يمشي الوباء. وتسري بين القبائل والبطون كما تسري النار في الهشيم.. (لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم). وكثيراً ما أدت تلك العصبية بين الأوس والخزرج إلى حروب دامية رهيبة لم تكن تهدأ حيناً إلا لتبدأ من جديد قوية عنيفة. وكان آخر هذه الأحداث ما وقع بين الفريقين في يوم بعاث، وهو يوم مشهود في تاريخ الأوس والخزرج هلك فيه قادتهم ورؤساؤهم وتصدعت قوتهم وتعرض مركزهم في يثرب للدمار والانهيار، وابتدأ جيرانهم اليهود يقيمون على أنقاض هذا الضعف قوة كبيرة جعلت الأوس والخزرج – حينئذ – يعضون بنان الندم، ويحسون بالخطر الداهم يحيط بهم. ويتلفتون ذات اليمين وذات الشمال إلى القطب المرشد والربان المنقذ والمرفأ الأمين.. ثمّ أراد الله لهذا الليل الطويل أن ينجلي بصبح جميل، فجاء محمد بن عبدالله (ص) إلى المدينة يحمل بين يديه الهدى والرشاد، فقضى على الفرقة وجمع الشتات وأحيا الله به القلوب وألف بينها في جامعة متينة من الأخوة والمحبة.. وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال/ 63).
ولقد حول الإسلام ذلك التيار العنيف الذي كان يغذي العصبية القبلية في نفوس الأوس والخزرج إلى وجهة كريمة هي الغيرة المحمودة والتنافس الشريف الذي يسعى إلى أجل قصد وأنبل غاية، وهي اعلاء كلمة الإسلام، والقضاء على أعدائه الألداء في كل مكان، فصار الأوس والخزرج يتجهون إلى هدف واحد، هو إرضاء الله ورسوله: ولكنهم يتسابقون في هذا السبيل ويتنافسون تحت زعامة واحدة، وقيادة واحدة هي زعامة محمد (ص) وقيادته..
ثمّ توج هذا الاتحاد الثنائي بين الأوس والخزرج بانضمام المهاجرين إليه وذلك بالأخوة التي عقدها الرسول (ص) بين الأنصار وهم الأوس والخزرج، وبين المهاجرين. وهي أخوة نادرة المثال كانت تمليها الظروف الحرجة التي كانت تحيط حينئذ بالمهاجرين حيث تركوا أوطانهم وأخرجوا من ديارهم ظلماً وبغير حق. وذهبوا إلى المدينة بلا أهل ولا مال ولا ولد.. فآخى رسول الله (ص) بين الأنصار والمهاجرين، وجعل هذه الأخوة من الحقوق والواجبات ما لأخوة النسب، وقد عرف الأنصار واجبهم نحو اخوانهم المهاجرين، وقدروا ظروفهم العصبية، فآووهم ونصروهم، وضربوا في الإخلاص لهم والتفاني في خدمتهم أروع الأمثال، حتى لقد وصفهم الله عزّ وجلّ بهذا الوصف الرائع حيث يقول عنهم: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةً". أي يفضلون اخوانهم المهاجرين على أنفسهم مهما كان فقرهم ومهما اشتدت حاجتهم..
وبهذا الاتحاد الثلاثي بين الأوس والخزرج والمهاجرين وضع الأساس للدولة العربية الإسلامية فكان أول اتحاد مثالي من نوعه، وأصبح المنارة الساطعة التي يهتدي بها الضالون الحائرون. ثم تتابعت بعد ذلك قبائل العرب تنضم إلى هذا الاتحاد، وتنضوي تحت رايته، حتى إذا كان العام الثامن الهجري، وفتحت مكة المكرمة ودخل الناس في دين الله أفواجاً، إذعنت قريش وانضوت تحت لواء المسلمين، فكان انضمامها إلى المسلمين واتحادها معهم حافزاً لسائر القبائل العربية لتعلن الانضمام إلى محمد (ص)، ولتكون الجزيرة العربية – في جملتها – أمة واحدة ودولة واحدة.
ولما لحق الرسول (ص) بالرفيق الأعلى كانت دعوة الإسلام دعوة عالمية، كان على أصحاب الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يتموا هذا البناء، وأن ينشروا دين الله في سائر الأرجاء، فكانت الفتوحات الإسلامية التي أذن الله أن تمتد من بلاد الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن سهول آسيا وجنوب غرب أوروبا شمالاً إلى المحيط الهندي والصحراء الأفريقية الكبرى جنوباً، وظلت هذه الرقعة الواسعة آماداً طويلة وهي دولة واحدة يحكمها خليفة واحد...
وإذا كان الاتحاد الثلاثي الذي قام في يثرب على يدي الرسول (ص) بين الأوس والخزرج والمهاجرين قد بدأت في نطاق ضيق محدود، ثمّ أراد الله له أن يكون أساساً لوحدة قوية واسعة تجاوزت الحدود، واخترقت الحواجز والسدود، فليس على الله بعزيز أن يكون الاتحاد الثلاثي الذي بدأ في هذه الأيام بين مصر وليبيا وسوريا أساساً لوحدة عربية شاملة، وهي الدولة العربية الكبرى التي ستضم بلاد العرب جميعاً عما قريب إن شاء الله..
وإذا كان الأساس الذي قامت عليه الوحدة الأولى على عهد الرسول (ص) هو الجهاد والإيمان، فإنّ الأمل كبير في أن يكون لنا من ذلك عبرة فنبني قوتنا ونتخذ الطريق إلى وحدتنا الكبرى في ضوء الجهاد والإيمان، لتقوم الدولة القوية التي تحطم الأغلال وتحقق الآمال.
وإذا كان اليهود قد فزعوا من تلك الوحدة التي قامت بين الأوس والخزرج والمهاجرين على عهد الرسول، وأخذ نفوذهم منذ ذلك الحين ينقص، ومجدهم يتضاءل ويتقلص، ثمّ كتب الله عليهم بعد ذلك الجلاء والفناء، فإنّ اليهود في هذه الأيام يعيشون في جو حالك السواد محاط بالخوف والفزع.. وانّ الهوى الذي لحقهم على عهد الرسول (ص) لينتظرهم، ويومئذ يخرج اليهود من بلاد العرب ويكتب الله عليهم الجلاء.. وصدق الله العظيم حيث يقول: (تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد/ 7).
المصدر: كتاب (محمد (ص).. نظرة عصرية جديدة)
ارسال التعليق