• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ملامح نموذج إسلامي متحضر

أ. د. عبدالكريم بكّار

ملامح نموذج إسلامي متحضر

لابدّ من القول ابتداء: إننا لا نستطيع أن نسرد ما يشكل (الهيكل الحضاري) الذي نتطلع إليه؛ فهذا غير ممكن، ولا مطلوب؛ فالناس في كل زمان وفي كل مكان يرسمون طيف ذلك الهيكل بما يتناسب مع ظروفهم وإمكاناتهم وأهدافهم وخصوصياتهم الثقافية؛ وقبل ذلك وعيهم بذاتهم وقيمهم وحاجاتهم. لكن الذي لا غنى لنا، ولا لغيرنا عنه هو تصور الأسس والركائز التي ينبغي أن يقوم عليها النموذج الحضاري الذي على نظمنا الثقافة أن تبدعه، وتستوعبه، والذي على عقولنا وأيدينا أن تبنيه.
فإذا كان الاختلاف في الهيكل مطلوباً، بل شرطاً لاستمرار النمو الحضاري؛ فإن توحد الأسس والشروط الأساسية للتكييفات الحضارية الإسلامية أمر لابدّ منه.
وسنذكر هنا أهم الملامح والمواصفات العامة للوضع الحضاري الذي نتطلع إليه عبر المفردات التالية:
1- يشعر المسلم بأن وجوده في هذه الدار لغاية عظمى، هي عبادة الله – تعالى – وأن مدة هذا الوجود محدودة، وأنّ الحياة الآخرة هي دار القرار.
ومن ثمّ فإنّه يشترط في النموذج الحضاري المطلوب أن يتمحور حول هذه المعاني فتكون كل أبعاد النموذج محكومة بذلك؛ فتسري روح العبودية لله – جلّ وعلا – في كل تفاصيل حياتنا. كما ينبغي أن تُشعِر كل مفاصل الحركة والتبادل الآخرين بأنّ المسلم مشدود دائماً إلى دار القرار، وأن أعماله التي تبدو دنيوية تحمل في طياتها روح ورموز التواصل والاتصال بعالم الآخرة. وما لم نفعل ذلك فإن شخصية المسلم تتمزق بطريقة خفية جدّاً؛ إذ كيف يمكنه أن يمضي عمره في بناء دار يقول معتقده عنها: إنها دار ممر. وكيف يوازن بين جهده لبناء الدنيا وجهده لبناء الدار الخالدة؟؟.
لكن حين يكون (البناء الحضاري) مشبعاً بروح القيام بحق الاستخلاف، وإعلاء كلمة الله في الأرض، وتهيئة الظرف المناسب لأداء الرسالة، وتحقيق فاعلية المسلم... فإن أمتنا هي أمة الاستشهاد – أي بذل النفائس – والعطاء المجاني بغير حدود!.
2- تعظيم الذاتية و(الأنا) الجمعية شرط أساس من شروط بناء النموذج الحضاري المتفرد؛ إذ ينبغي حتى نستوعب التجارب الحديثة، ونتمثل ثمارها اليانعة – على نحو معافى – أن نمتلك العقل المتفتح، والإرادة القوية إلى جانب قدر من الشفافية الروحية. وفي المقابل؛ فعلى مقدار ما نتجذر في التراث نكون قادرين على استيعاب روح العصر، وتمثل نظمه، والعيش في مركزه، لا على هوامشه. ومن خلال حركة التردد بين الانغراز في الماضي، والانغماس في الحاضر تنبثق (الذاتية) القادرة على بناء النموذج الحضاري المتفرد والمتوازن.
وإن أي ضعف أو خلل في أحد هذين العنصرين سينتج عنه إنتاج حضاري متخلف عن العصر، أو مندمج فيه اندماج العبد في شؤون سيده!.
والعيش على هامش العصر، والذوبان فيه سيان؛ فكلاهما تعبير عن هشاشة (الذات)، وانعدام أرضية التبادل والتفاعل الحضاري.
3- إنّ الإنسان هو لب لباب النموذج الحضاري المطلوب؛ فلا فائدة من الأبنية الشاهقة، ولا المصانع الشامخة، ولا الشوارع النظيفة والحدائق الغنّاء إذا لم نستطع أن نحضِّر الإنسان. فالبداية الطبيعية به؛ فإذا أمكننا أن نضبط نسب تكوينه العقلي والروحي والنفسي والجسمي، وإذا ما استطعنا أن نجعل منه الحر الكريم القوي الأوّاب المتعاطف المنضبط، والمنسجم مع حركة الحياة والكون والأهداف الكبرى لأمته؛ فإننا نكون قد قطعنا معظم الطريق نحو ما نريد.
والإنسان حين ينضج، ويستوي على سوقه، يستثمر الإمكانات، ويبني الهياكل الحضارية وفق تكوينه الخاص والمتكامل. وهذا ما فعله النبي (ص) إذ كان همه الأكبر هندسة الشخصية الإسلامية التي ستعبد الطرق، وتقيم الجسور، وتشيد المصانع وتحرث الأرض فيما بعد.
والبدء بتحضير (الطبيعة) وإهمال الإنسان – على نحو ما هو حاصل الآن – سيجعل منه عبداً للأشياء، عاجزاً عن إبداع النظم الحضارية واستيعابها بل عاجزاً عن المحافظة على المنجزات المادية وصيانتها.
4- إنّ النموذج الحضاري المطلوب لا يقوم في مجتمعات غير متمدنة. والتمدن يعني – فيما يعنيه – أنّ العلاقات في المجتمع لا تقوم على القهر والظلم والعدوان والعنف؛ وإنما تقوم على أنّها مفرزات لمجموعات القيم والمبادئ والقواعد العقدية والسلوكية التي يؤمن بها المجتمع. فالنموذج الحضاري المطلوب ليس إضافة مبتسرة إلى مجتمعات أقرب إلى التوحش منها إلى المدنية، وإنما هو مجموعة الإشعاعات الروحية والفكرية والقيمية التي يطلقها المجتمع المتمدن في الهياكل المادية المختلفة، فتأسيس روح المدنية ورمزياتها ونظمها شرط أساس لقيام وضعية ثرية ومتفردة. ولن يتم ذلك إذا لم يوفر المجتمع للفرد أقداراً من الكرامة والحرية والعدل والحماية والوعي بالذات.
5- إنّ الوضعية العامة لأُمّة الإسلام وضعية بائسة. وإنّ الخلاص من الحالة المذلّة التي تعيشها الأُمة يحتاج إلى جهد كل فرد فيها؛ حتى تستطيع أن تعوّض ما ضيعته في قرون السبات الطويل؛ وحتى لا تتراكم عليها استحقاقات أخطاء وخطايا القرون. وهذا يعني أن نخطط لكيفية شحذ فعالية المسلم الروحية والذهنية؛ حتى يضاعف العطاء.
كما أن علينا أن نخطط لتوجيه طاقاته وإمكاناته نحو بؤرة محددة؛ حتى لا تتبعثر الجهود في غير ما فائدة.
وهذا لن يتم ما لم نوجد أعداداً كبيرة من الأهداف المرحلية الصغيرة ونوجد أعداداً لا تحصى من الأطر والدوائر والآليات التي تخدم تلك الأهداف.
فهذه دوائر لتنشيط الأداء الاجتماعي، وتلك لترشيد الاستهلاك، وثالثة لمساعدة الضعفاء وخدمة الفئات الخاصة، ورابعة لمحو الأمية، وخامسة لتعليم الناس المحافظة على الوقت وملء الفراغ، وسادسة لمقاومة تلوث البيئة، وتعليم الناس المحافظة عليها، وسابعة لتذكير الناس بواجباتهم، وممارسة الضغط الأدبي على الناشزين. وهكذا وهكذا...
إنّ لدينا جيوشاً من العاطلين على أي عمل، والقادرين على عمل الكثير ولديها إمكانات هائلة، تنتظر شرارة التفجير وآليات التوظيف.
وإنّ المشكلة الهائلة لدى الشعوب المتخلفة ليست في شح الإمكانات، وإنما في الضعف المروع في إرادة التحرك وروح الإنجاز والعطاء وشحذ الفعاليات وتوجيهات.
6- إنّ الحضارة الغربية حضارة إنتاج وفير، واستهلاك كبير. وإن من واجبنا؛ حتى نسد الفجوة الحضارية بيننا وبينهم أن نضاعف الجهد، ونقتصد في الاستهلاك إلى أبعد حد اقتداء بخاتم النبيين (ص) الذي كان يعيش على الكفاف في شأنه الخاص، وينفق على الشأن العام بغير حساب. وإذا ما أردنا أن نفعل ذلك؛ فإن علينا أن نشتري الآلات والمصانع ونتعلم صيانتها، ومحاكاتها، وأن نقلل من استيراد أدوات الرفاهية والسلع الاستهلاكية، كما أن علينا أن نعلّم الناس كيف يستغلون سطوح المنازل والشرفات وكل شبر من الأرض في سبيل توفير القوت اليومي لأكبر عدد ممكن من الناس. كما أن علينا أن نساعد كل موظف على أن يتعلّم مهنة خفيفة لطيفة يمكن أن يمارسها في منزله بدل الجلوس في الملاهي، وأمام (التلفاز)، وأن نعلّم ربات البيوت كيفية إعداد الطعام المغذي المتكامل بطريقة لا تجعلنا نلقي الأطعمة الزائدة في أوعية القمامة. أشياء كثيرة تساعدنا على أن نوسع من إنتاجنا، ونقتصد في الاستهلاك؛ حتى تقف الأُمّة على قدميها وتمتنع عن الاستدانة وتكفف الآخرين...
إنّ أفكاراً كثيرة يمكن أن نقولها في هذا المضمار؛ لكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

المصدر: كتاب من أجل انطلاقة حضارية شاملة

ارسال التعليق

Top