• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

من وصية عليّ (ع) الخالدة لولده الحسن (ع)

من وصية عليّ (ع) الخالدة لولده الحسن (ع)

◄"وَامْحَضْ أخاك النصيحةَ حسنةً كانت أو قبيحةً، وتجرَّع الغيظَ فإني لَمْ أرَ جُرعةً أحلى منها عاقبةً ولا ألذَّ مَغَبَّةً[1]. ولِنْ لِمَن غالظك[2] فإنّه يوشك أن يلينَ لك. وخذ على عدوك بالفضل فانّه أحلى الظَفْريْن. وإنْ أردت قطيعة أخيك فاسْتبقِ له من نفسِك بقيةً يَرجعُ إليها إنْ بدا له ذلك يوماً ما".

في هذا النصّ الشريف من الوصية التي كتبها أمير المؤمنين عليّ (ع) لابنه الحسن (ع) خمسة أمور:

الأوّل: قوله (ع): "وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحة" كان للنصيحة قيمتها وأهميتها يوم كان الودّ بين المسلمين قائماً والتحابب بينهم سارياً، كان المسلم يلتقي مع أخيه المسلم ليقدم له النصيحة التي يراها لنفسه، حيث كانت الروح الإيجابية بين الأخوة تتفاعل فيما بينهم، وكانوا يعيشون كالجسد الواحد يرى أحدهم زين أخيه زينه، وشين أخيه شينه. كان الأخ يندفع في سبيل بذل النصيحة لأنها تحمل الخير والودّ، وتوجّه الأخ إلى ما فيه الصلاح والسعادة.. وكان الأخ المتوجهة نحوه النصيحة يتقبلها برحابة صدر ووعي، يصغي إليها ويعطيها أهمية كبرى.. هكذا كان المسلمون بل أكثر من ذلك.. وأين هم منها اليوم.. لا يجرؤ أحد أن ينصح احداً لأنّ هذه النصيحة إما أنها ترفض أو تهمل أو تأتي بشرّ قبيح للناصح الأمين...

ففي حين يسلك المسلمون خلاف دينهم يصر الإسلام ويؤكد ويكرر الطلب من الاخوة أن يبذلوا النصيحة لبعضهم البعض، ليست النصيحة التي توافق مزاج الأخ وتوفر له الرضا بها والارتياح؛ بل يجب أن تكون النصيحة حتى فيما يكون ثقيلاً عليه قاسياً على سمعه وقلبه.. ويجب أن تكون النصيحة من الأخ نحو أخيه مطلقة العنان في ما احب وكره لأنها في كلتا الحالتين تعود عليه بالنفع والصلاح وهذا هو غاية الأخوة وهدفها البعيد.

قال رسول الله (ص): "إنّ أعظم الناس منزلةً عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه". ويقول الإمام الصادق (ع): "عليكم بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه".

الثاني: قوله (ع): "وتجرّع الغيظ فإني لم أرَ جُرعةً أحلى منها عاقبة ولا ألذّ مغبّة"ك ما أجمل الإنسان وأكبره عندما يعلو على غضبه ويرتفع عن تفجيره ضربةً قائمةً أو كلمةً قاسيةً أو صرخة مؤذية.. ما أروع الإنسان عندما يبتسم ثغره وجوفه يغلي، ويضحك سنه ويكاد قلبه ينفجر من الغضب، إنّه يحلم، يقابل الإساءة بالإحسان، يحلم وإن جُهل عليه، ويحاور بالكلمة الطيبة والنظرة العطوفة دون أن يُثار أو ينفجر في وجه خصمه..

كظم الغيظ أن تحبس غضبك مهما كانت أسبابه، وتعيش مع من أثارك باللين والوعي، فتفتح له باب الحوار الأخوي، وتحلم عليه حتى يعود عن غضبه ويرتدع عن تصرّفه..

إنّ الإنسان إذا امتلك غضبه واستولى على أعصابه يستطيع أن يعيش ارتياحاً وهدوء بال... وكم وجدنا أولئك الحمقى الذين يثورون لأتفه الأسباب وأحقرها.. وكم رأينا من المشاكل التي كان يمكن أن تحلّ بابتسامة أو كلمة طيبة أو تجاوز عن أمرٍ حقيرٍ لا يستحق الوقوف عنده...

كظم الغيظ عملية امتلاك لما يتحرك في الإنسان من احساسات وانفعالات غير عقلانية وسيطرة كاملة عليها عند حب الانتقام والثأر، وقد وردت الأحاديث الكثيرة التي تحث عليه وتمدح فاعله.

قال أبو عبدالله (ع): "ما من عبدٍ كظم غيظاً إلّا زاده الله عزّ وجلّ عزّاً في الدنيا والآخرة". وقد قال الله عزّ وجلّ: (الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134)، وأثابه الله مكان غيظه ذلك".

عن عليّ بن الحسين (ع) قال: قال رسول الله (ص): "مَن أحبّ السبيل إلى الله عزّ وجلّ جرعتان، جرعة غيظ تردّها بحلم، وجرعة مصيبة تردّها بصبر".

الثالث: قوله (ع): "ولِنْ لمن غالظك فانّه يوشك أن يلين لك". إنّ الله سبحانه وتعالى مدح نبيّه وبيَّن له فضيلة لينه عطفه وحنانه فقال تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...) (آل عمران/ 159). فكما أنّ الغلظة والخشونة تنفّر الناس وتفرقهم فإنّ اللين والعطف والحب يجمعهم.. إذا كنت مع أصدقائك غليظاً حرّكت نفوسهم عليك وأثرتها نحو، فإنّ النفوس إذا كانت لينة تتحبب إلى الناس وتقترب منهم لأنّ اللين نوع من الإحسان والنفوس مطبوعة على حب من أحسن إليها، وهذا عكس الغلظة والجفاء، فإنّه منفّر للمرء مبعد له عن إخوانه وأصدقائه. فمن غالظ في حديث أو نظرة أو نحوها فَلِنْ معه وتحبب إليه تجده عمّا قريب يعود إليك ويقابلك بأفعالك خيراً ويجازيك بإحسانك إحساناً...

الرابع: قوله (ع): "وخذ على عدوك بالفضل فإنّه أحلى الظفرين": الظفرين أحدهما الغلبة على العدو والانتصار عليه في ساحة الجهاد، والآخر أن تأخذ عليه بالفضل من الإحسان والإكرام حتى تسكته، بل تجعله لساناً ينطلق في مدحك وتقريظك، وهذا الأخير من الظفرين أهم من الأوّل وأحلى وأثمن وأجمل.. فإن في الأوّل تقضي عليه مادياً وتنتصر عليه عسكرياً بقوة زندك وسلاحك الذي يشترك فيه أي حيوان يكون أقوى منك، بينما في الآخر يتمثل الانتصار الفكري والغلبة العلمية حيث تحوّله بهذا الإحسان والفضل إلى لسانٍ ينطق بحمدك ويذكر فضلك وإحسانك.

الخامس: قوله (ع): "وإن أردتَ قطيعة أخيك فاستبقِ له من نفسك بقيةً يرجع إليها إن بد له ذلك يوماً ما": جاءت كلمة الإمام هنا تعليماً سماوياً لهذا الإنسان الذي تنزع نفسه إلى الشر ويريد أن يسلك مع أخيه خلاف المرسوم له شرعاً. يريد الإمام أن يقول لهذا الإنسان إن أخاك ليس عارياً عن كل فضيلة ولا مسلوب الحسنات كلها، بل لا يخلو من أن يكون فيه بعض المزايا الحميدة والصفات الطيبة؛ فإذا تشاكست معه في أمر وتفرقت كلمتكما إلى غير اجتماع، فيجب أن تحتفظ له ببقية باقية في نفسك من هذه الصفات يمكن أن يرجع إليها إذا عادت الأمور إلى مجاريها وصفت الموارد لشاربيها.

فالإمام ينبهنا إلى معنى دقيق وعظيم وهو أن لا نقطع كل الخطوط والخيوط التي بيننا وبين الأخ بل يجب أن نبقي بعضها حتى إذا أراد الرجوع أمكن ذلك وسهل الأمر...

 

المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 39 و40 لسنة 1993م


[1]- المغبّة: العاقبة.

[2]- غالظك: عاملك بخشونة.

ارسال التعليق

Top