• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الاقتصاد في الفقه

طه جابر العلواني

الاقتصاد في الفقه

إن القرآن المجيد نبّه إلى خطورة التسلسل في الأمثلة الفقهيّة، ونبّه إلى أنها قد تؤدي إلى التشديد على الإنسان، واخراجه من دائرة (البراءة الاصلية) إلى دائرة التكليف، وذلك عندما ذكر بني اسرائيل وقصتهم حينما أُمروا بذبح البقرة للخروج من مأزق حادثة القتل الغريبة المجهولة الفاعل، فتعدد أسئلتهم أدى إلى تعدد الاجابات، والتصعيد في صفات المطلوب حتى كادوا يعجزون عن الاداء: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) (البقرة/71) وليبيّن رسول الله (ص) للمسلمين درساً في غاية الاهمية عقّب على ذلك بقوله: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدّد عليكم، فإن قوماً شدّدوا على أنفسهم فشدد الله عليهم..).
ولم يقتصر القرآن على هذا الدرس، بل وجّه النهي صريحاً عن الاسترسال في الأسئلة التي يمكن أن تؤدي إلى تكليف أو توسع في التكليف، أو أمر قد يثير اختلافاً، أو يجلب مشقة أو ينفي يسراً، فقال تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين يُنزّل القرآن تُبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم) (المائدة/101)، وفي سورة البقرة يوجه للمؤمنين سؤالاً استنكارياً، أو ما يعرف عند البلغاء (بالاستفهام الانكاري): (أم تُريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالايمان فقد ضلّ سواء السبيل) (البقرة/108)، والقرآن العظيم حين حصر مرجعية (التشريع) بمعنى التحريم والايجاب) بالله تعالى، والتبيين الملزم برسول الله لينبه إلى اغلاق هذا الباب بوجه الآخرين، لأن هذا المدخل الذي أتيت البشريّة منه فاتخذ الناس (أحبارهم ورهبانهم ارباباً من دون الله) (التوبة/31)، يحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال، ويشرعون لهم من الدين ما لم يأذن به الله.
بل لقد جعل الله تعالى في الشريعة الاسرائيلية (الحاكمية) الهيّة مرتبطة بخوارق العطاء الالهي، وبعقوبات لا يمكن أن تصدر إلاّ عنه تعالى كالمسخ والخسف ورفع الجبل والتهديد بالقائه عليهم، ونحوها.
فكانت (الحاكمية الالهية) _ في المرحلة الأولى _فيهم وسيلة أساسية للحيلولة بين البشر وبين اساءة استعمال حق التشريع، ويبدو أن البشر حتى إذا منعوا من استعمال حق التشريع فإنهم قد يسيئون في استعمال حق البيان والتفسير والتأويل و (الفقه والفهم)، فنزع من أيديهم الحقين _معاً _ في الرسالة الخاتمة فكان التشريع والتكليف خاصاً بالله جل شأنه يصل إلى الناس من طريق كتاب الله المعصوم، وقرآنه المحفوظ، وأما البلاغ والبيان الملزم للبشرية فهو من مهام رسول الله (ص) وحده، أما من عداهما فعليه الوقوف عند حدود الله وعدم تجاوزها لا بزيادة ولا بنقصان، (فكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
ولذلك تأدّب أصحاب رسول الله (ص) بذلك الأدب العالي فلم يعودوا يسألون إلاّ عما يحدث ويقع من الأمور فقط، بل نقل ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2 / 143) عن عمر أنه كان يلعن من سأل عما لم يكن.
وكل ذلك خوفاً من الوقوع تحت طائلة الوعيد الشديد لأولئك الذين تجتالهم الشياطين فيشرعون للناس ما يشتهون، وتصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام، ويظلّون يراكمون الفتاوى حتى يضعوا على الناس آصاراً وأغلالاً أكثر وأشد من الآصار والأغلال التي رفعها الاسلام عنهم فتثقل عليهم القيود فيتفلّتون من الدين وينصرفون عنه، فيشغلون أنفسهم بعد ذلك بتكفير هذا وتبديع ذاك وتفسيق ثالث فهم في شغل دائم في كيفيّة تحويل عباد الله إلى عبيد لهم، وتحويل أنفسهم إلى مراجع لا تُراجع فيما تفتي أو تقول.
المهم أن ذلك قد حدث وأغشيت عقولنا بقطع هائلة من تراث لم نعد قادرين أن نعالج مشكلات حاضرنا به، كما لم نعد قادرين على الخروج من اسار سلبياته، ويظن الكثيرون من المنسوبين إلى بعض جوانبه أو تخصصاته أنه البلسم الشافي لكل شيء، وأنه التجسيد الحيّ لقيم القرآن الكريم، ولتوجيهات السنة، وأنه الملهم لتحقيق النهوض والاصلاح.
ومعظم ما هو متداول في دور العلم وكليات الشريعة في عصرنا تلك الكتب التي ورثناها عن الدور السادس من أدوار الفقه الإسلامي وهو الدور الذي بدأ بسقوط بغداد عام (656ه‍) واستمر حتى الآن، وهو دور تقليد محض.
وفي الجانب الآخر تأتي بعض فصائلنا العلمانيّة بدواة فكرية تكاد السماوات يتفطّرن منها، وهي الفصائل التي لا يفرّق بعض المنسوبين إليها بين الفكر الإسلامي وبين المصدر المحفوظ القرآن، والمصدر المبيّن له السنة النبوية، كما لا يعرف فرقاً بين الأصول والفقه، كما أن جل تلك الفصائل لا تفرّق بين الشريعة والفقه فيها، ولم يعرف بعضهم التراث الإسلامي إلاّ من بوابة الإستشراق، ومن كتابات المستشرقين، ومع ذلك فهي الأخرى تفتي وتقضي، وتنتج فقهاً، وتحدد الأولى والأسبق والمهم والأهم من شؤون وشجون هذه الأمة، وأمام هذا الركام القادم من التاريخ، والنابع من الحداثة يجد العقل المسلم نفسه في شلل تام لا يمكن أن يعرف أولويات، ولا أن يحدد مراتب، ولا يمكن أن يفرق بين أصل وفرع، ولا بين كلّي وجزئي، فأنّى له أن يحدد أولويات في دائرة من التراكمات التي يكاد يدفن تحتها؟!
لقد قاد الغرب (نظامه المعرفي العلماني) من سيطرة الكنيسة إلى سيطرة الدولة _ الأمة، ومن التعصب والحروب المذهبية إلى التسامح الديني والتعددية، ومن الصراعات القومية إلى التعاون الأوربي، ومن معاداة السامية إلى توليف الثقافتين اليهودية والمسيحية لايجاد الإنسان (اليهومسيحي) أو (المسيحهودي) فجردت الديانتان من أدوارهما الدينية والإجتماعية، وحولتا إلى مجرد أدوات ايديولوجية في خدمة النظم السياسية ومطامعها التوسعية.
فهل ينفع الثقافات التي تعرّضت لحملات الإبادة والتشويه عمليات اجترار أو ترقيع، أو أن أولوياتها تصبح اعادة بناء (نظمها المعرفية) ومن خلال الرجوع إلى الأصول في الحالة الاسلامية؟


المصدر: مقاصد الشريعة

ارسال التعليق

Top