الزمن - كما هو معلوم - زمنان: حسابيّ يقاسُ بآلات الحساب الوقتية الميكانيكية، وزمن نوعيّ لا يُحسَب بالساعات والدقائق والثواني، بل يُحسَب بمقدار ما يستوعب من أعمال ونشاطات وإبداعات وفعّاليات مختلفة.
في الزمن الأوّل جميعنا متساوون، فابن الــ(18) عاماً في الشرق مَثلهُ مَثل ابن الــ(18) سنة في الغرب؛ لكنّ الفارق هو في السنّ النوعيّ، كم أنجز ذاك في (18) سنة، وكم أنجز هذا في الفترة المماثلة.
السيِّدة فاطمة الزهراء (ع) توفّيت ولها من العمر (18) سنة كما في بعض الروايات، وإذا أسقطنا شيئاً من الطفولة الأُولى التي لا تُمثِّل سنيّ التكليف (المسؤولية الشرعية) فإنّ مجموع عمرها العملي لا يتعدّى العقد من الزمن؛ ولكنّنا لو درسنا (الزمن النوعيّ) الذي جعل هذه الفتاة أو المرأة سيِّدة لنساء العالمين في فترة وجيزة، لرأينا أنّ زمن الزهراء (ع) النوعيّ كان مفعماً وممتلئاً ومشحوناً بالعطاء.
هذه الخصوصية في هذا الزمن ليست استثنائية، أو فاطمية، أو زهرائية فحسب.. نعم، ليس لدينا سيِّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين غيرها (مريم كانت سيِّدة نساء عالمها فقط)؛ لكنّ تعبئتها لعقد من الزمن بالعطاء الذي يُعادل عقوداً منه، ينفعنا في وصف الزمن النوعيّ بأنّه (عصير الزمن) الذي تُعتَصرُ فيه كلُّ دقيقة من دقائقه ليُستخرَج كلُّ ما فيه من ماءٍ وحلاوةٍ وعافيةٍ وإنجازٍ.
واللّافت في الزمن النوعيّ الذي يُمثِّلُ عصارة الزمن أنّه مُتاحٌ لكلِّ واحد منّا، ولو تأمَّلنا في بعض الأحاديث التي تعدلُ أو تساوي بين عملٍ واحد وعبادة سنة أو سبعين سنة، لرأينا أنّ (ساعة تفكُّر) مثلاً تعادل عبادة سنة أو أكثر، أو (قضاء حاجة مؤمن) تساوي (سبعين حجّة) وهكذا. والمراد أنّ قيمة العمل لا بالقياس الزمنيّ، بل بمؤدّاه المجتمعيّ أو النفعيّ أو الإصلاحيّ، وبهذا يمكن تفسير قول النبيّ (ص) يوم الخندق: «لمبارزة عليّ لعمرو بن ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة»[1] من غير أن يثير القولُ فينا استغراباً، لأنّ النبيّ (ص) لم يقس الضربة بالوقت الذي استغرقته، بل بالأثر الذي تركته، ممّا يجرّنا إلى استيعاب قوله تعالى تبارك وتعالى: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ (يس/ 12).
إذ إنّ حساب الأعمال لا ينحصرُ بصلاح العمل أو فساده، بل بالآثار المترتِّبة عليه أيضاً، وانسجاماً مع ذلك ومن روحه ووحيه، قال النبيّ(ص): «مَن سَنَّ سُنّةً حسنةً عمل بها من بعده، كان له أجره ومثل أُجورهم مَن غير أن ينقص من أُجورهم شيئاً، ومَن سَنَّ سُنّةً سيِّئةً فعمل بها بعده، كان عليه وزره ومثل أوزارهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً»[2].
وهذا مؤشِّر خطير لا على أهميّة وضرر العمل، بل على تداعياته أيضاً، إذ قد يكون العمل الصالح في مبدأه صغيراً، والعمل المُنكر في بدايته محدوداً؛ لكنّ الأخذ بهذا أو ذاك في ما بعد يمنحهما مدىً أو بُعداً زمنياً أوسع من دائرة الزمن الذي تمّ فيه هذا العمل أو ذلك، الأمر الذي يدفعنا إلى الاستزادة من أعمال البرّ والصلاح والخير والنفع العام التي لا تُمثِّل البركة الراهنة فحسب، بل (الصدقة الجارية) أيضاً.
إنّ مفهوم (الصدقة الجارية) مفهومٌ واسعٌ مُتّسعٌ يكتسب على الأيّام سعة على سعته، إذ ليس الذي يوقف وقفاً ما يكون قد أجرى صدقة جارية، ولا الذي كتب كتاباً نافعاً ينتفعُ منه من بعده قد قدَّم صدقة جارية، أو حفر بئراً وشقَّ شارعاً، وزرع زرعاً يأكل الطيرُ والناسُ منه، كلّ هذه وأشباهها ونظائرها صدقات جارية؛ لكنّ كلّ قولٍ حكيم، أو توصية عاقلة، أو درس في التربية والتعليم والاتّعاظ والعبرة، وكلّ تجربة قيِّمة تُحتذى وتُقتدى، سياسية كانت أم إدارية، أم اقتصادية، أم مجتمعية، هي صدقة جارية، ولذلك لا حدودَ للصدقات الجارية.
غير أنّ ما يشدّ انتباهنا هو صفة هذه الصدقات (الجارية) الذي يشبهها الحديث بالنهر الجاري المعمِّر الذي لا يتوقّف عن الجريان، أي إنّ قدرته على النفع والإرواء والسقي مستمرّة مادام موجوداً، وإنّ الزمن لا يُلبيه بل يكسبه أَلقاً وتجدُّداً، بل كلّما انتفع به منتفع بعث صاحبه الذي تدور مسرح الحياة إلى المسرح من جديد، وزاد في أجره وثوابه أُجوراً مضاعفة، ممّا يعني أنّ عمر الإنسان الذي يعمل عملاً صالحاً لا يُقاس بسنيّ حياته المعدودات، بل بهذا الامتداد الزمنيّ الرحب، وهذا من غاية الألطاف الإلهيّة بالإنسان العامل الذي يجعل عمله (ناطقاً رسمياً) باسمه حتى بعد حياته، وممثِّلاً عنه في كلّ موقف تُستعارُ فيه صدقته الجارية.
يقول شوقي:
دقّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ لهُ ******** إنّ الحياةَ دقائقٌ وثوانِ
فارفع لنفسِك قبلَ موتِك ذكرَها ******** فالذكرُ للإنسانِ عمرٌ ثانِ!
وتعبير (العمر الثاني) دقيق وجميل وذو إيحاء غنيّ له دلالة لا في استطالة العمر فحسب، بل بالحضور الدائم في كلّ مكان وزمان تُسترجَعُ فيه مقولات، وأعمال، ومشاريع، ومنجزات وحسنات العاملين الصالحين.
واستكمالاً لمعاني الزمن النوعيّ وسلّم أُولويات الزمن، وعصارة الزمن المبارك، فإنّ مفاهيم الإسلام أرحبُ ممّا ذكرنا، إذ ليست (الصدقة الجارية) أو (العمر الثاني) فقط هو الذي يرتجيه العامل في سبيل الله، المبارك النفّاع، بل إنّ عمله الصالح يربطه بسلسلة الصلاح من أوّلها إلى آخرها، حيث يكون حلقة مهمّة ومكملة للسلسلة المباركة التي سبقته والتي تليه، تأمَّل في معاني الدُّعاء الآتي:
«اللّهُمّ الحقني بصالح مَن مضى، واجعلني من صالح مَن بقى، وخذ بي سبيل الصالحين، واعنّي على نفسي بما تعينُ به الصالحين على أنفُسهم، ولا تَرُدَّني في سوء استنقذتني منه، واختم عملي بأحسنه، واجعل ثوابي منه الجنّة»[3].
ومفادهُ أن يكون صلاحي - يا ربّ - مُلحقاً بصلاح أسلافي الصالحين، وهو تاريخ طويل ممتد على خارطة الزمن الصالح كلّه، وأن يكون ممتدّاً في حياتي ما أحييتني لا أشدُّ ولا أندُّ ولا أحيدُ عنه قيد أنملة، بل ويدعو الإنسانُ الصالح إلى استمرار الصلاح في ذرِّيته أيضاً: ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ (الأحقاف/ 15)، حتى لا تنقطع السلسلة، أو يتوقَّف النهرُ الجاري، أو يموتُ العمرُ الثاني!
بهذا يكون عُمر الإنسان أضعافاً مضاعفة يُختزنُ فيه أعمارُ مَن سلفوا من الصالحين، وعمره الممنوح له، وعمر صلاحه الممتد في ذرِّيته من جهة، وفي أعماله الصالحة الخالدة المُخلَّدة من جهة، وبذلك يضيفُ أعماراً إلى عمره!
[1]- سيرة الأئمّة الاثني عشر، هاشم معروف الحسني، نقلاً عن فضائل الخمسة من الصحاح الستة، عن المجلد الثاني من مستدرك الصحيحين عن سفيان الثوري، ج1، ص323.
[2]- ميزان الحكمة، محمّدي الري شهري، ج4، رقم الحديث8939، ص566.
[3]- من أدعية السحر الرمضانية (دعاء أبي حمزة الثمالي).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق