عبدالعزيز سيّد الأهل
قد جرت الحكمة بأن تكون فريضة الصوم – كأكثر الفرائض – إجباراً لا اختياراً، وفي زمن معروف بذاته محدود الطرفين، حتى لا يترك المرء سدى دون أن يُؤمر ويُنهى، ودون أن يترك هملاً بلا شرع ومرتعياً بلا حدود.
والطبيب الذي يفرض على المريض ترياقه بأن يمتنع ويحتمي لم يبلغ مكان الطبيب الذي يمنع ويحمي، إذ ذلك ينقذ من الورطة الداهمة وهذا يحمي من التردي فيها، وذلك يرد البدن إلى صحته من طريق النقاهة الضيق وهذا يبقي على البدن أمانة ويصون عليه عنفوانه.
وفريضة الصوم تجمع بين الطبين علاجاً وحمية وشفاء ورحمة، تنقذ المتردي في الشهوة والمتمادي في اللذة، وتُجِنُّ الصائم من اللهفة على الإثم والوقوع في المحرم، وهي تقيه من لواذع العذاب وقوارع العقاب.
والحديث الذي يقول "الصوم جنة ما لم يخرقها" حديث عارف بالنفوس والأمزجة والداء والترياق، وقد جعل في الصوم حماية الصائم متى أخلص النية وأصلح السريرة وباعد بين الشيطان والنفس والأمعاء وحرارة السموم، فإذا لم يعصم نفسه من الزلل ويقيها من جرائر القول والعمل لم يَصُنْ الترس الذي اجتنّ به من أن ينخرق أو ينهتك، فتطير إليه القذائف وتصيبه السهام.
وكذلك منع الشارع الفطر إلا لمسافر مستعصب أو مريض متلبس، لا لمتخيل ولا متلمس، فإنّ الأمر جد لا هزل وتكليف يقتضي الأجر ويكافأ بالمجازاة "ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة" فلا تجوز المبادرة إلى الإفطار عند الظن، لأنّه إقدام على المعصية وإشراف على الهوّة المردية.
وليس من دواء أشد من الصوم كسراً للنزوة وقطعاً للشهوة، وقد وصفه رسول الله (ص) دواء لعثمان بن مظعون حين أراد أن يترهّب ويسيح هائماً في أرجاء الأرض، فقال له النبي في شطر من حديثه: "فإنّ الصوم جنة" فوصف له إسعافه ووقاه مما رهبه وخافه.
وكل شيء من مصاعب الصوم مجازىً عليه بقدره، حتى خلوفُ فم الصائم يرتد مسكاً بل أطيب من المسك في تقدير الله وحسابه، وكأنما هي إشارة إلى أنّ كل ما يظهر في الصيام من تغيّر وأذى يرجع عند الله خيراً وحسناً، بل هو أبعد في حقيقة الخير والحسن من المسك الفائح بين الروائح.
وقد قيل: إنّ وصف رسول الله (ص) لخلوف فم الصائم بأنّه أطيب عند الله من رائحة المسك إنما هو تصوير لرضا الله عن الصائم، جاء في تشبيه بانشراح صدر العبد عند استنشاق رائحة المسك، كما أنّه جاء كشفاً لسرّ من الغيب المستور، لتراه النفوس رأي العين واضح الظهور.
ولذلك جاء التأكيد بالصوم تأكيداً بالغاً فلا يسقط بحال حتى الموت، ومن مات وعليه صوم صام عنه وليّه أو قام بفدية صومه. ويرى أهل الاستنباط أنّ ذلك يرجع إلى أنّ النفوس التي تفارق الأحياء تدرك ما فاتها من وظائف العبادة وتأسى عليه وتقلق لتعلقها بديْن في الذمة ووقوفها عند باب من الوحشة، فقيام أقرب الناس منه وأولاهم به بسدّ الديْن فرجة للكروب ودفع للمؤاخذة على الذنوب.
المصدر: كتاب أسرار العبادات في الإسلام
ارسال التعليق