أ.د. كمال الدين حسن البتانوني
سورة الأنعام أكثر من آية تتعلق بالنبات، ولكن الآية التي نحن بصدد دراستها تعرض لمعجزة خارقة، لا يدري سرها سوى الخالق، جلّ شأنه، وإن كنا نتدارسها ونحاول تفهمها في ضوء المعلومات العلمية المتاحة، فإنّ هذا من باب الاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى بالنظر في مخلوقاته، والتأمل فيها. يقول العزيز الحكيم، عزّ من قائل: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (الأنعام/ 95).
تعرض هذه الآية أحد جوانب الإعجاز الخارق، إنبثاق الحياة من الموات، معجزة لا يعرف كنهها وسرها إلا خالقها، ويذكرها القرآن في معرض التوجيه إلى حقيقة الألوهية. ويعقب القرآن على معجزة الإحياء والأمانة (ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).
وإذا تأملنا سياق الآية، وما بعدها من آيات، فإنّه يتبيّن لنا ارتباطها بإعجاز الخلق، ونتصور أن إخراج الحي من الميت أمر يرتبط بالنبات في هذه الآية، حيث سبقتها (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) (الأنعام/ 95).
(إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) يمكن أن تفهم على أنّها إنفلاق وإنشقاق الحب والنوى عند الانبات وخروج النبات من البزرة. لكن ما نشاهده في المعمل هو أنّ الحب والنوى لا ينشق عند الإنبات مثلما تنشق بزرة الفول أو الفاصوليا مثلاً. ولذلك فإنّ الفلق في هذه الأية يعني الخلق (اللسان: فلق) وقال بعضهم أنّ فالق بمعنى خالق، وإذا تأملت الخلق تبيّن لك أنّ أكثره: إنفلاق، لفَلقَ جميع المخلوقات، وفلق الصبح من ذلك (اللسان: فلق). وقوله تعالى: (فَالِقُ الإصْبَاحِ) (الأنعام/ 96)، قال الزجاج: جائز أن يكون معناه خالق الإصباح. وجائز أن يكون معناه شاقُّ الإصباح، وهو راجع إلى معنى خالق (اللسان: فلق) والحب تطلق على الحنطة والشعير، واحدتها حبة بالفتح. وقال الجوهري: الحَبة: واحدة حَبّ الحنطة ونحوها من الحبوب. والحبة: بزر كل نبات ينبت وحده من غير أن يبذره. (اللسان: حب) أما النوى: جمع نواة التمر، والنواة في الأصل عجمة التمرة (اللسان: نوى).
وهكذا نرى أنّ فالق الحب والنوى يقصد به خالق الحب والنوى، وهو خلق فيه إنسلاخ شيء من شيء. انظر قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) (يس/ 37).
فالشطر الأوّل من الآية (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) يبدأ ببيان الإعجاز الخارق في خلق الحب والنوى. والحب والنوى وأيّة بزور تمثل بداية النبت. وخلقها فيه إعجاز لا يدركه إلا من عرف تركيب البزرة ومحتوياتها ومكوناتها. فالتركيب الشكلي للبزرة يكاد يماثل نبتاً بصورة مصغرة، يتضمن جنيناً له ريشة تعطي المجموع الخضري من ساق وأوراق وأزهار وثمار، وجذير جنيني يعطي المجموع الجذري. وفلقة أو فلقتين، وإندوسبرم في بعض البزور دون البعض الآخر، وقد تمثل الفلقات أو الاندوسبرم، مخزناً للمواد الغذائية التي يستمد منها الجنين غذائه ومصدر الطاقة اللازمة لنموه. ويغلف كل هذا غلاف للبزرة يعرف بالقصرة، يتخذ أشكالاً وطبائع مختلفة.
أما التكوين الكيميائي للبزرة، فهناك آلاف الأرقام التي تعطي البيانات العديدة عن المكونات الكيميائية لآلاف الأنواع من البزور. والبزرة الجافة تحوي العديد من المركبات الكيميائية العضوية وغير العضوية فتحوي مواد كربوهيدراتية وبروتينية ودهون وأنزيمات وهرمونات وغير ذلك. وبدهي أنّ العلم في أيامنا هذه توصل إلى التعرف على العديد من المركبات الكيميائية التي توجد في أي بزرة جافة أو غير جافة. لكن الأمر المحيّر، والذي لا يعرف كنهه العلم والعلماء هو الترتيب والتناغم والتواؤم، وطريقة وجود هذه المكونات والمركبات داخل البزرة. والتحليل الكيميائي لبذرة قابلة للإنبات وغير قابلة للإنبات يصعب علينا أن نتخذه دليلاً على التفريق بينهما. ولكن الأمر الظاهر لنا أنّ هناك بزرة تضم جنيناً قابلاً للحياة Viable وأخرى بها جنين غير قابل للحياة non-viable. وقابلية الجنين للحياة أول شروط الإنبات ولعل الخطأ الذي وقع فيه كثير من علماء النبات ودارسيه العرب أنهم ذكروا في كتبهم، ودرّسوا لتلاميذهم أنّ من شروط الإنبات حيوية الجنين. وهذا ليس بصحيح، وخطأ توارثته الأجيال في عصرنا الحديث. ولفظة حيوية لا تقابل بحال من الأحوال كلمة Viable الانجليزية، ومعناها الصحيح قابل للحياة (المورد مادة Viable). وهذا أمر متوقع فالبذرة ليست حية، وليس فيها من مظاهر الحياة المعهودة شيء كثير. إنما سوى الله سبحانه وتعالى المواد الكيميائية الموجودة بها بطريقة ونسق يقبل الحياة. فإذا ما أمدت البذرة بالماء دبت فيها الحياة.
ولذلك فأنا نميل إلى فهم (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) على أنها تشير إلى أنّ الله سبحانه وتعالى خلق الحب والنوى وسواه. وهذه التسوية جعلتها قابلة للحياة. وصدق الله وعزّ من قائل: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (الأعلى/ 1-2).
والله سبحانه وتعالى خالق الحب والنوى ومسويه ومبدعه الذي رتب محتويات هذا الحب والنوى ومكوناتها بطريقة ونسق يجعلها قابلة للحياة. ولعل الفرق بين البذور القابلة للحياة والبذور غير القابلة للحياة هو في التركيب الكيميائي، خاصة للمواد البروتينية. وهذا سر مكنون، سر الحياة وقابلية المخلوقات لها. ومعرفتنا بالتركيب الكيميائي أمر يختلف عن طريق ترتيب وتنسيق هذه المركبات الكيميائية.
والبذور الجافة تحوي العديد من المواد الكيميائية، لعل من أهمها الأنزيمات والهرمونات. ورغم أنّ البذرة الجافة تحوي عدداً من الأنزيمات فإنّ بعضها يوجد بصورة غير نشطة، وهناك عدد من الأنزيمات لا يظهر في البذرة إلا عند الإنبات. وعموماً تنشط الأنزيمات بعد بدء الإنبات.
وقد لوحظ في حالة حبوب القمح أنّ أنزيماً هو الفا أميلاز amylase يخلق بعد بدء الإنبات. ويوجد في طبقات الأليرون في الإندوسبرم، ولكنه لا يتكون إلا في وجود جنين في الحبة أو بإمداد الإندوسبرم بمادة حمض الجبرلليك.
والميتوكوندريات التي تثمل عضيات في خلية النبات وتلعب دوراً في عملية التنفس. تكون غير قادرة على القيام بوظيفتها في الفسفرة التأكسدية في البذرة الجافة، ولكن نشاطها يزداد في أطوار الإنبات المتعاقبة. الطريف في الأمر أنّ نظام انتقال الإلكترونات الداخل في عملية الأكسدة النهائية في التنفس غير موجودة في البذور الجافة.
والتنفس في البذور الجافة لا توجد قياسات دقيقة بصدده، بل أنّ البعض قد عزاها إلى وجود كائنات دقيقة حية في البذور أو تحت قصرتها.
وبمناسبة الحديث عن التنفس في البذور، فقد وجد العلماء فرقاً واضحاً في مسار معدلات تنفس بذور البسلة عند إنباتها ومسارات معدل تنفس حبوب القمح والشعير عند إنباتها.. ولعل هذا الاختلاف في المسار يعبر عن اختلاف في طبيعة البذور والحبوب وقد يفسر لنا هذا ذكر الحب والنوى منفصلين، رغم أنّ كلاهما يعبر في النهاية عن أنواع من البذور. وسبحانه الله أعلم الخالقين، هو أعلم بخلقه، جلّ شأنه.
وبعد الشطر الأوّل من الآية، يقول الله عزّ وجلّ: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) وقد وردت هذه العبارة في آيات أخرى منها:
(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران/ 27).
(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) (الروم/ 19).
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (يونس/ 31).
ترتيب عجيب، وإعجاز لا يبارى، في كل الآيات نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يذكر في محكم آياته (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) قبل (يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ). ولا مراء فإنّه ترتيب الخالق، العليم بخلقه، الذي خلق الجمادات والمكونات غير الحية أوّلاً، ثمّ خلق الأحياء منها. وبعد موت هذه الأحياء يخرج الميت من الحي. أنّه ترتيب وتتابع لا يعلم كنهه إلا الخالق. ومجرد هذا الترتيب دليل واضح، وبرهان ساطع على إعجاز هذا القرآن، وأنّه من عند خالق عليم، ورب كريم.
ونرى في الآية التي ندرسها شيئاً لافتاً للنظر، فيقول جلّ شأنه: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)، وهذا نفهمه على أنّ فلق الحب والنوى هو إخراج الحي من الميت، ثمّ جاء بعد ذلك (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ)، فقد عطف "مخرج" على "فالق"، فهو جلّ شأنه فالق الحب والنوى، وهو مخرج الميت من الحي. وفلق الحب والنوى إحياء وإخراج حي من ميت، وهي مقابلة لإخراج الميت من الحي. ولعل هذا يرينا أنّ فلق الحب والنوى هي عملية إخراج الحي من الميت، وليست مجرد شق البذرة وخروج الجنين منها. قد يفهمه البعض شقاً، ولا بأس بذلك، لكننا في ضوء المعلومات العلمية الحديثة، نحاول جهدنا – وهو جهد المقلّ – أن نفهم بُعْداً آخر للآية الكريمة. مؤمنين بأنّ القرآن فيه الكثير والكثير مما لم نفهمه ولنَ نفهمه، وكلما تدارسناه كلما أمَدَّنا بالخير الوفير والعلم الوقير، وأنّ إشراقاته ونفحاته مستمرة بفضل الله تعالى.
ولنعد الآن إلى التعرف على ما أمكن ملاحظته ودراسته من مظاهر خلال إنبات البذور. وقد سبق أن أوضحنا أنّ البذرة تحوي جنيناً قابلاً للحياة – Viable – مع عديد من المركبات الكيميائية المختزنة في البذرة ليفيد منها هذا الجنين عندما ينبت، ومواد كيميائية أخرى مثل الإنزيمات والهرمونات.
إذا أمددنا هذه البذرة بالماء – مع توافر شروط الإنبات وأولها وجود جنين قابل للحياة – فإنّ البذرة تتشرب الماء. وهذه ظاهرة تتساوى فيها البذور ذوات الأجنة القابلة للإنبات Viable ذوات الأجنة غير القابلة للإنبات non-viable.
وترى بالعين، ودليلها انتفاخ البذرة وكبر حجمها وتمزق غلافها.
ويستتبع دخول الماء وتشربه عمليات عديدة في البذور ذوات الأجنة القابلة للحياة. ونلاحظ أنّ العلماء يقولون عن أولى هذه العمليات أنّ دخول الماء يحرك mobilize الإنزيمات وينشطها لتؤدي وظيفتها في تكسير أو تكوين المواد المعقدة. ومن أولى أفعال هذه الخمائر تكسير المواد الغذائية المختزنة في البذرة إلى مواد ذائبة، يؤدي إلى انتقالها وإمكان الاستفادة منها في عمليات عديدة منها التنفس. ودخول الماء للجنين يساعد على تكوين مواد ومركبات وسيطة، بعضها له القدرة على استلام أو استقبال الطاقة من إحدى التفاعلات، ونقل هذه الطاقة لتسيير تفاعل آخر.
ووجود بعض المركبات الكيميائية في البذرة الجافة يكون بشكل لا يسمح لها بأداء وظيفتها في بعض التفاعلات، فتكوين بعض الأحماض النووية يتم خلال الثلاثين الدقيقة الأولى من دخول الماء إلى حبة القمح، وينتج عن ذلك تكوين بروتينات. والطريف في الأمر أنّ بعض المواد التي تقوم بهذه العمليات كانت موجودة في البذرة الجافة، ولكنها لا تؤدي هذا العمل إلا بدخول الماء إليها.
فدخول الماء إلى البذرة ذات الجنين القابل للحياة يتبعه العديد من التفاعلات والعمليات الكيميائية الفسيولوجية، ومنها استطالة خلايا الجنين ونموها وإنقسامها. ويستمر نمو الجنين معتمداً على المواد المخزونة في البذرة، والتي تمده بالطاقة اللازمة لعمليات التحول الغذائية والنمو.
وتحدث هذه العمليات، ومازالت الريشة تحت سطح الأرض، أي أنّ النمو الحادث في البادرة الصغيرة حتى هذه المرحلة، يعتمد أساساً على المواد المخزونة في البذرة. وبديهي أنّ المخزون في أيّة بذرة لا يمكن أن يفي باحتياجات النمو حتى تصل البادرة إلى نبات كبير مورق مزهر مثمر. ولو تركنا هذه البذرة النابتة في الظلام، لنمت البادرة إلى حد محدود يتوقف على كمية المواد الغذائية المختزنة، ولأصبحت الريشة وما أنتجته من وريقات شاحبةً صفراء اللون، ويتوقف النمو وتُسْتَهلك المواد الغذائية المختزنة نتيجة لعملية التنفس ورغم استمرار إمدادها بالماء وما به من مواد ذائبة غير عضوية، فإنّ مصيرها الموت لا محالة. وبذلك لا يكون الإنبات ناجحاً ومؤدياً الهدف الأساسي منه – وهو تكوين نبات ناجح يزهر ويثمر – إلا إذا تعرض للضوء، وخرجت ريشته فوق سطح الأرض. وهكذا فإنّ الذي خلق.. خلق فسوى، أخرج النبت إلى ظاهر الأرض. وتظهر الريشة بأوراقها الأولية على سطح الأرض. عندئذ تبدأ عملية أخرى. من مظاهرها إخضرار الأوراق والسوق الغضة بتعرضها للضوء. والإخضرار معناه وجود مادة الكلوروفيل (اليخضور).
وحرمان البادرة من الضوء يحرم النبات من تمكنه من تكوين الكلوروفيل في خلاياه. وعملية تكوين صبغة الكلوروفيل وتكوين البلاستيدات الخضراء عملية تنم عن الإعجاز الإلهي، فالبلاستيدات الخضراء عُضَيَّات سيتوبلازمية ذوات تركيب هندسي معقد، حباها الله القدرة على الإفادة من الطاقة الضوئية، التي تمثل الطاقة الشمسية أهم مصادرها.
وهنا نرى إعجازاً آخر، فيعمل النبات بقدرة الله سبحانه وتعالى، كآلة حية، تقوم بصورة دائبة بالآلاف من التفاعلات الكيميائية والطبيعية، ولعل أهم هذه العمليات فيما يتعلق بموضوعنا، هي عملية البناء الضوئي Photosynthesis وهي أعجب عملية على وجه الأرض. ففيها يندمج الكربون (من ثاني أكسيد الكربون من الجو) والأكسجين والإيدروجين (من الماء الذي يمتصه النبات) في وجود الكلوروفيل وطاقة الضوء والإنزيمات العديدة الموجودة في خلايا النبات. كل هذا يكون مواد كربوهيدراتية، مثل الجلوكوز والسكر وغيرهما من المركبات. وهذه المواد الكربوهيدراتية تستخدم كأصول Precursors لبناء المواد الأخرى. وتؤدي إلى جانب ذلك إلى بناء خامات الدار الخلوي والأحماض النووية والبروتينات والدهون والهرمونات النباتية والصبغات... إلخ. وطاقة الضوء التي تحولت نتيجة لعملية البناء الضوئي إلى طاقة كيميائية، تختزن في المواد الكربوهيدراتية الناتجة عن هذه العملية.. وتستخدم هذه الطاقة لتسيير عمليات البناء للمركبات العضوية الأخرى. وتحدث عمليات تحولات غذائية عديدة. ولكن العملية الفريدة من نوعها هي عملية تكوين المادة الحية. وهي عملية ينتج عنها السيتوبلازم والنواة والعُضَيَّات الحية المختلفة. وكل هذه المادة الحية التي تكوّن جسم النبات نشأت من أصول غير حية، فأجسام النباتات التي نراها ترتكز على ذرات الكربون، المرتبطة بالهيدروجين والأكسجين والنيتروجين، بالإضافة إلى بعض الفوسفور والكبريت وقليلاً من العناصر المعدنية الأخرى. يعني هذا أنّ جسم النبات الحي، الذي يموج بالحياة وينبض بها قد خلق من أصول غير حية.
عملية الإحياء وخلق المواد الحية تتم دوماً وبصورة مستمرة، وما نُمُوّ النبات الذي نراه بأعيننا إلا إضافة لمكونات حية إلى جسم هذه النباتات.. جلّ شأنك يا ربي، وتعالى اسمك، خلقت الحي من الميت، وأخرجت الحي من الميت.
والنبات هالك لا محالة، أما بالموت، أو بالحرق، أو بالتهام حيوان أو إنسان له، وكل كائن حي من هؤلاء ميت لا جرم في ذلك. والموت فقدان للحياة. ويحول المادة التي كانت حية في وقت ما إلى كتلة ميتة. ولو أنّ النباتات والحيوانات والبشر بعد موتهم ظلوا جثثاً متراكمة منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، لغطيت الأرض وردمت المحيطات والبحار بجثث هذه الكائنات الدقيقة، ولتعذرت الحياة وتوقفت. لكن الله سبحانه وتعالى خلق أنواعاً من الكائنات الدقيقة هي البكتريا والفطريات. كائنات قد يتكون الفرد منها من خلية واحدة، خالية من المادة الخضراء، تعتمد في غذائها على المواد العضوية الميتة، أي تترمم عليها. فكل جثة لنبات أو حيوان أو إنسان، بعد موتها، تمثل غذاء لهذه الكائنات الدقيقة، التي حباها الله القدرة على إفراز كميات وأنواع من الإنزيمات تعمل على تحليل وتكسير المواد العضوية الموجودة في أيّة جثة. وتستفيد من الطاقة الناتجة عن تحلل هذه المواد، ويكون الناتج الأخير هو غاز ثاني أكسيد الكربون، والماء، وتضاف للتربة العناصر المعدنية التي أمتصها النبات خلال حياته، وألتهمها الحيوان أو الإنسان، وهذا معناه العودة للوضع الأصلي، عاد ثاني أكسيد الكربون والماء والعناصر إلى المحيط الذي نعيش فيه، ليبدأ كل منهم دورة جديدة، وهذا ما يعرفه العلم باسم دورات المواد، فالعناصر التي توجد في المحيط الذي يعيش فيه النبات، قد تدخل إلى جسم النبات عن طريق البناء الضوئي أو امتصاص النبات لها. وتندمج مع غيرها من العناصر مكونة مواد عضوية وغير عضوية، وتدخل في تكوين المادة الحية في جسم النبات. ولكن الموت حق، ويتبعه التحلل والتكسر، والعودة إلى الحالة الأولى. فسبحان الله (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ)، الذي يعيد للكائنات قوة النشوء والنماء.
إنّ هذه المعجزات تُرى وتتكرر أمام أعيننا كل يوم، شاهدة على وحدانية الله وقدرته، موجهة إلى حقيقة الألوهية وآثارها الدالة على وجود الخالق ووحدانيته. ويعقب القرآن الكريم على معجزة الحياة (ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).
في ماهية العقل...
نقل إبراهيم الحربي عن أحمد بن حنبل أنّه قال: العقل غريزة.
ومثله عن الحارث المحاسبي.
وروى عن المحاسبي أيضاً أنّه قال: هو نور.
وقال آخرون: هو قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات.
وقال قوم: هو نوع من العلوم الضرورية وهو العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات.
وقال آخرون: هو جوهر بسيط.
وقال آخرون: هو جسم شفاف.
وسُئل أعرابي عن العقل فقال: لب اغتنمته بتجريب. (الأذكياء: 9)
المصدر: مجلة التربية/ العدد 97 لسنة 1991م
ارسال التعليق