• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

«غذاء القلب» روحياً ومادياً

الشيخ صباح الركابي

«غذاء القلب» روحياً ومادياً

◄أ- التغذية الروحية Spiritual Feeding

1- الغذاء المادي الذي يساعد على عمل القلب الروحي:

أوّلاً: بشكل عام كثرة الطعام تؤثر على عمل القلب، فهي تؤدي إلى قساوته، وهذه من أمراض القلب الروحية، فإنّ القساوة هي الخلُق السيء مع الناس والتعامل اللاإنساني ونبذ الرحمة والعطف وهو مرض روحي يدركه العقل وتشمئز منه النفوس، وليس للأبدان اشمئزاز منه، قال رسول الله (ص): "لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإنّ القلوب تموت كالزرع إذا أكثر عليه الماء)[1]. وقال (ص): "من قل طعامه صح بدنه وصفا قلبه، ومن كثر طعامه سقم بدنه وقسا قلبه"[2].

ثانياً: تأثير الأكل الحلال والأكل الحرام.

للأكل الحلال والأكل الحرام تأثير مباشر على قلب الإنسان، فقد وصفهم القرآن بأنّهم أكّالون للسحت قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ... * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ...) (المائدة/ 41-42)، أي المال الحرام، وقال الإمام عليّ (ع) لكميل بن زياد النخعي: "إنّ اللسان ينزح من القلب، [والقلب] يقوم بالغذاء، فانظر فيما تغذي به قلبك وجسمك، فإن لم يكن ذلك حلالاً لم يقبل الله تسبيحك ولا شكرك"[3].

وقال الإمام الحسين (ع) في واقعة الطف عندما وجه خطابه إلى عسكر عمر سعد ابن أبي وقاص ناصحاً لهم: "قد انخزلت عطياتكم من الحرام، ومُلئت بطونكم من الحرام، فطبع الله على قلوبكم"[4].

وقال تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) (عبس/ 24).

إنّ القرآن لم يحدد أوّلاً طبيعة هذا الطعام، كما أنّه لم يحدد أثر الطعام، أهو على الإنسان روحياً أم جسدياً؟ ولترك القيد فلا قيد، أي أنّ الطعام منه ما له تأثير على الروح (أو القلب) ومنه ما له تأثير على الجسد، ومنه ما يؤثر على الاثنين معاً وكلاً منهما يؤثر بالآخر، لأنّ العقل السليم في الجسم السليم، وبتعبير آخر القلب السليم في الجسم السليم، لذلك قال تعالى: (إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء/ 89).

طبعاً لا أريد أن استعرض أحاديث النبيّ (ص) وأقوال الأئمة (عليهم السلام) فإنّها أكبر من يسعها هذا المختصر أوّلاً ولأنّ الكتاب ليس لغرض الطب والتغذية الماديّة، إنّما شواهد الأحاديث والأقوال لصدق المدعى وصحّة الاستنتاج.

إنّ كثرة الطعام وقلته لها التأثير المادي الأوّل في ذكاء الإنسان وفطنته وقدرته على التعقل والإيمان والتفكر، فزيادة الأكل تذهب بالفطنة، وقلته تصفي فكره، قال الإمام عليّ (ع): "البطنة تذهب بالفطنة"[5] وقال: "من قل أكله صفا فكره"[6]، وأنّ النبيّ الأكرم (ص) يصف المعدة ببيت الداء، ويعتبرها شر وعاء، قال (ص): "المعدة بيت الداء والحمية رأس كلّ دواء.."[7]، وقال: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه وحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابدّ فعالاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه"[8].

بعض أنواع الطعام

-         العسل: قال النبي الأكرم (ص): "مَن شرب العسل في كلِّ شهر مرة عوفي من سبع وسبعين داء"[9].

-         السفرجل: قال الإمام عليّ (ع): "أكل السفرجل قوة للقلب الضعيف وهو يطيب المعدة ويذكي الفؤاد ويشجع الجبان ويحسن الولد"[10].

وقال الإمام عليّ (ع): "العسل شفاء من كلِّ داء ولا داء فيه، يقل البلغم ويجلو القلب"[11].

-         الخلّ: عن الإمام الصادق (ع) قال: "الخلّ يشدّ العقل"[12]، ويشد العقل، يعني يقوي أو يشد القلب، لأنّ العقل في القلب.

-         العدس: عن الإمام الرضا (ع) قال: "عليكم بالعدس، فإنّه يرق القلب ويكثر الدمعة..."[13].

التغذية الروحية، إما أن تكون فعلاً أو قولاً أو تفكّراً، فالفعل كالصلاة والصيام والجهاد، والقول كالدعاء والمناجاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما التفكر كالتفكر في خلق الله تعالى أو التفكر في أسباب العبادة أو التفكر في هموم الناس وأولهم المسلمين وأسبق منهم المؤمنين.

التغذية الروحية عبارة عن تقوية النفس في مواجهة متطلبات وحاجات الجسم وملذاته، كالأكل والشرب والجنس والجاه والمنصب، وهذا هو المبدأ الأوّل، والمبدأ الثاني ترك الكذب والخيانة والعجب والرياء والنفاق، وهو المبدأ الأخلاقي الأوّل المسمى بالتخلي، قال أمير المؤمنين (ع) قال: "الله الله عباد الله أن ترتدوا رداء الكبر فإنّ الكبر مصيدة إبليس العظمى التي يساور القلوب مساورة السموم القاتلة"[14]، ثمّ بعد ذلك تغذية النفس بالغذاء الروحي أو النفسي الحسن، وهو المبدأ الأخلاقي الثاني وهو التحلي بالقيم والأخلاق الحسنة، كالكرم والشكر والتوكل على الله تعالى والصبر والصدق والمروءة والأمانة وغيرها من تلك القيم والأخلاق، ثمّ بعد ذلك الوصول إلى التلبس بالقيم السابقة حتى تكون هي هو وهو هي، وهو المبدأ الأخلاقي الثالث المسمى بعلم الأخلاق بالاتحاد وبالعرفان التجلي، لأنّ أسماء الله تعالى وصفاته تتجلى في عبده، وأصدق هذه الأمثلة هم المعصومين من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، ثمّ الأولياء ثمّ العلماء بظلهم.

إنّ الأغذية الروحية كثيرة المصاديق ويكفي هذا المؤنة كتاب إقبال الأعمال لابن طاووس والمصباح للكفعمي ومفاتيح الجنان.

قال الإمام عليّ (ع): "أصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله"[15]، وقال (ع): "السجود النفساني فراغ القلب من الفانيات والإقبال بكنه الهمة على الباقيات وقطع الكبر والحمية وقطع العلائق الدنيوية والتحلي بالأخلاق النبوية"[16].

2- الغذاء الروحي الذي يساعد على عمل القلب الروحي

أما هذه الأغذية فهي:

أ‌-       قراءة القرآن، أو الكتب الخاصة بأصحاب الشرائع السماوية سواء المحرفة أو غير المحرفة، كالإنجيل والتوراة والزبور والگنزاربا أو أصحاب الديانات وإن كانت وضعية، كالبوذية والهندوسية وغيرها من الديانات الأخرى، وإن كان تأثيرها قليلاً لاعتماده على الجانب النفسي فقط وفقدان الأثر الوضعي (التكويني) لهذه الكتب، مع أنها باطلة عندنا، ولذا فإنّ أثرها نفسي فقط، لاعتقاد المعتقد بصحتها.

ب‌-  الأخلاق الحميدة كافة ومنها:

1-  الكرم

2-  العفة

3-  الأمانة

4-  الصدق

5-  الإخلاص

6-  الإيثار

7-  التضحية

8-  مساعدة الآخرين

9-  الحرص

10-       الشجاعة

11-       التواضع

12-       الحلم

13-       الصبر.

ولكن قبل التحلي بالأخلاق الحميدة لابدّ من التخلي من الأخلاق الرذيلة، أو قل ترك أضداد الأخلاق الحميدة الآتية، وإن كان التخلق بها لنفسها أو لعمل إنساني، ولكن مع القربة أشد وأقوى.

ت‌-  قراءة الأدعية الخاصة بكلِّ مناسبة، سواء المتعلقة بالزمان أو المتعلقة بالمكان أو المتعلقة بهما مجتمعين.

ث‌-  الزهد بين النفس وربها، وإشعار القلب بالزهد، وهو: أن لا يتملكني الشيء، بل أنا المالك له، فمتى شئت أكلت أو شربت أو لبست أو نمت ومتى شئت جعت أو نزعت أو نهضت.

ج‌-    الذكر: وهو من أكثر الأغذية الروحية للقلب، لأنّه يجعل الإنسان على اتصال دائم مع الله تعالى، فلا يظلم ولا يفسد ولا يحيف ولا يكفر ولا يخطأ متعمداً، لأنّه نور يقذف في القلب، فلا يكون مظلماً بعد، قال أمير المؤمنين (ع): "استديموا الذكر فإنّه ينير القلب وهو أفضل العبادة"[17].

ح‌-    الرحمة: إنّ إشعار القلب بالرحمة، وتذكر رحمة الله تعالى عليك يجعلك واسع الصدر متسامحاً عفوّاً، لا تأخذ وإن أخذ منك، بل تعطي من أخذ منك حقك، لا عن ضعف بل عن قوة، قال الإمام عليّ (ع): "اشعر قلبك رحمة لجميع الناس والإحسان إليهم ولا تنلهم حيفاً ولا تكن عليهم سيفاً"[18].

 

ب- التغذية المادية Material Feeding:

ولنعد إلى التغذية المادية، ونقصد بالتغذية المادية الطعام الذي يساعد على عمل القلب عملاً مادياً باعتباره عضو دفع الدم إلى أعضاء الجسم، وأنّ هذا الغذاء المادي له فائدة مادية، أي عملية، على عمل القلب مادياً، أي القدرة على العمل بصورة منتظمة وبقوة تتناسب مع حجم الجسم وأعماله الجسدية، إضافة إلى عمله في تغذية الدماغ، فإنّ هذا العمل يعد من الأعمال المادية أيضاً وليس من الأعمال الروحية، فإنّ التفكير بالدماغ (المخ) ليس من الأعمال الروحية ولا من الأعمال العقلية البحتة، بل هو عمل من نتائج الطعام المادي، وأنّ التفكير الدماغي، وبالتحديد التفكير المخي هو عمل مادي لأنّه يعتمد على الأشعة التي يبعثها الدماغ أو المخ تحديداً وعلى كمية الغذاء المادي الذي يصل إلى الدماغ من خلال الدم وكذلك كمية الأوكسجين الواصل إلى الدماغ.

يحتاج القلب المادي إلى الغذاء المادي المكوّن من اللحوم والفواكه والخضر والنشويات والسكريات وغيرها من الأغذية بحسب اختلاف الظرف والعمر والعمل وسلامة وسقم القلب، كما أنّ أغذية القلب الروحية كثيرة، منها أغذية روحية بحتة، ومنها أغذية مادية لها مدخلية وتأثير على القلب الروحي.

الأغذية المادية مرة أخرى وبشكل مفصل قليلاً فنقول:

إنّ هذه التغذية لا تهمنا في هذا البحث، لأنّ البحث ليس بحثاً مادياً، بل هو بحث روحي، عقلي تسنده الأبحاث العلمية المادية، وأما الجانب المادي فبقدر تأثيره على عمل القلب روحياً، وبعبارة علمية مدى تأثيره على القلب عقلياً، لأنّ البحث عن علاقة العقل بالقلب وبالدماغ، لأننا نعتقد من خلال البحث المؤيد بالأدلة من القرآن والسنة النبوية وأقوال أهل البيت (عليهم السلام)، وبالأدلة العلمية والأدلة العقلية، أنّ العقل في القلب لا في الدماغ أو تحديداً في المخ.

 الهوامش:


[1]- الشفاء في الغذاء في طب النبي (ص) والأئمة (ع)، السيد حسين نجيب محمّد، ص232.

[2]- نفس المصدر، ص236.

[3]- إكمال غرر الحكم، الآمدي حرف الهمزة حكمة رقم 2852، وفي كتاب الشفاء في الغذاء يبوح بدلاً من ينزح، ص70.

[4]- مقتل الإمام الحسين (ع)، للخوارزمي، ج2، ص9.

[5]- الشفاء في الغذاء، السيد حسين نجيب محمّد، ص34.

[6]- نفس المصدر، ص34.

[7]- نفس المصدر، ص95.

[8]- نفس المصدر، ص218.

[9]- نفس المصدر، ص474.

[10]- إكمال غرر الحكم، للآمدي حرف الهمزة، حكمة 2504.

[11]- الشفاء في الغذاء، السيد حسين نجيب محمّد، ص474.

[12]- نفس المصدر ، ص483.

[13]- نفس المصدر ، ص529.

[14]- إكمال غرر الحكم، للآمدي حرف الألف، حكمة 3443.

[15]- نفس المصدر، حكمة 859.

[16]- نفس المصدر ، للآمدي حرف الهمزة، حكمة 2159.

[17]- نفس المصدر، للآمدي حرف الألف، حكمة 320.

[18]- نفس المصدر، للآمدي حرف الألف، حكمة 184.

المصدر: كتاب العقلُ بين القلبِ والدَّماغ

ارسال التعليق

Top