يُعَدُّ التأديب الذاتي من المهمات الشائكة جدّاً، نظراً لالتصاقه بالنفس وما يستوجبه من مجاهدتها والوقوف وجهاً لوجه مع متطلباتها التي قد تلح إلى حدِّ تسجيل الغلبة على القوى العقلية الضابطة لحركة النفس واللاجمة لاندفاعاتها. ومنشأ الصعوبة في تأديب المرء لنفسه يكمن في توحد النية والإرادة والعمل، وهذه خصيصة لا يتفق وجودها في حالات وصور التأديب الأخرى، يضاف إلى التوحد عدم تخلف عملية التغيير عن العزم والإرادة. بينما لا يقع التوحد وعدم التخلف في تأديب الآخر الخارج عن الذات. هذا الاختلاف البيِّن لا يلغي حقيقة علميّة ثابتة مفادها تصور المثل المراد معرفته وإلا لا يبقى ما يضمن الوصول إلى الغاية والهدف المرجوين.
وقبل المباشرة في رسم صورة الإنسان المتأدب أو المؤدِّب نفسه بالإسلام، نقول بأنّ الحديث عن التأديب هو في الواقع حديث عن مؤدى العملية وهي الغاية المرجوة، وحديث عن الطريق الموصل إلى نفس العملية الواسعة. فبلورة ملامح الصورة مع أهميتها لا تكفي دون التطرق إلى الكيفية التي تتمثل بها الصورة، وهذه الإلفاتة تدفعنا إلى تسليط الضوء على المدلول اللغوي للأدب فضلاً عن المعنى المراد هنا.
الأدب لغة:
جاء في لسان العرب أنّ الأدب هو الذي يتأدب به الأديب من الناس، وسمّى أدباً لأنّه يأدب الناس إلى المحامد، وينهاهم عن المقابح. وأصل الأدب الدعاء. وأدبه فتأدب: علمه، وفلان قد استأدب بمعنى تأدب.
قال سيبويه: المأدبة كما قالوا المدعاة، وفي الحديث عن ابن مسعود: إنّ هذا القرآن مأدبة الله في الأرض فتعلموا من مأدبته، يعني مدعاته. قال أبو عبيد يقال مأدبة فمن قالها أراد بها الصنيع يصنعه الرجل فيدعو إليه الناس. وقد لجأوا إلى تأويل الحديث السابق تبعاً للمعنى المشار إليه، فشبه القرآن الكريم بصنيع صنعه الله للناس لهم فيه خير ومنافع ثمّ دعاهم إليه.
وذكر في تاج العروس ما يقرب من المعنى السابق، حيث ورد أن معنى الأدب، محرّكة، الذي يتأدب به الأديب من الناس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح. وأصل الأدب الدعاء. ونقل الزبيدي صاحب التاج عن شيخه عن تقريرات شيوخه، أنّ الأدب ملكة تعصم من قامت به عمّا يشينه. وذكر أنّه تعلم رياضة النفس ومحاسن الأخلاق.
ونقل الخفاجي في العناية عن الجواليقي في شرح أدب الكاتب: الأدب في اللغة؛ حسن الأخلاق وفعل المكارم، واطلاقه على علوم العربية مولد. وقال ابن السيد البطليموس؛ الأدب أدب النفس والدرس.
وقد أورد الطريحي في مجمع البحرين معنى آخر حيث قال: "أدبته أدباً – من باب ضرب: علمته رياضة النفس ومحاسن الأخلاق، وأدبته تأديباً مبالغة، وتكثيراً، وفي الحديث: "خير ما ورث الآباء لأبنائهم الأدب". قال مسعدة يعني بالأدب العلم، وفيه: كان علي (ع) يؤدب أصحابه أن يعلمهم العلم ومحاسن الأخلاق".
- الأدب عرفاً:
هو علم كل ما يحمدُ المرءُ عليه ويحسِّن في الخلق، والتأدب هو نفس العملية التربوية التي تهدف إلى زرع مفاهيم الخير ومحاسن الأخلاق في النفوس، والإنسان المتأدب هو الذي تتحول فيه المفاهيم إلى سلوك أو الذي هو في مدارج التحول، أما المؤدب فهو من ترسخت في نفسه ملكة الأخلاق الحسنة وباتت تعصمه عن الانحراف أو عمّا يشينه. إذاً التأدب رياضة نفسانية تصهر المفاهيم الأخلاقية المتصورة في قالب سلوكي مقنن.
وأما تحديد "الطباطبائي" من أنّ الأدب "هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليه الفعل المشروع إما في الدين أو عند العقلاء في مجتمعهم" ومن أنّه "لا يكون إلّا في الأمور المشروعة غير الممنوعة فلا أدب في الظلم والخيانة والكذب ولا أدب في الأعمال الشنيعة والقبيحة، ولا يتحقق أيضاً إلّا في الأفعال الاختيارية التي لها هيئات مختلفة فوق الواحدة حتى يكون بعضها متلبساً بالأدب دون بعض كأدب الأكل مثلاً في الإسلام، وهو أن يبدأ فيه باسم الله ويختم بحمد الله ويأكل دون الشبع إلى غير ذلك"، هو في الواقع تحديدٌ باللازم السلوكي لعملية التأديب وليس لنفس الأدب. ولهذا لا يقال للإنسان هذا أدبٌ وإنما هذا متأدبٌ.
فيتحصل من مجموع ما تقدم، أنّ الاختلاف بين التحديدات اللغوية والعرفية ليست في الحقيقة والواقع إلّا اختلاف في مصب النظر، وهي متفقة على معنى واحد وتعريف محدد في المصب المشترك. وإذا تبلور المراد من الأدب والتأديب يتضح معنى التأدب الذي هو فعلٌ ذاتي غير مقوّم بطرفين خارجيين، وإن كان بالدقة متقوماً بطرفين هما عقل الإنسان ونفسه تتوسطهما الإرادة. هذا التقريب للمراد من موضوع المعالجة التي بين أيدينا، يدفعنا لإثارة قضية ما يستلزمه التأديب الذاتي المعروف بالتأدب.
- مستلزمات التأدب:
لما كان الأدب المركوز في الذهن هو خاص الحسن دون غيره عُدَّ الحسن من مقومات معنى الأدب وإن "كان مختلفاً بحسب المقاصد الخاصة في المجتمعات"، فهذا ينتج ضرورة اختلاف الآداب الاجتماعية الإنسانية "فالأدب في كل مجتمع كالمرآة يحاكي خصوصيات أخلاق ذلك المجتمع العامة التي ربتها فيهم مقاصدهم في الحياة، وركزتها في نفوسهم عوامل اجتماعهم وعوامل مختلفة أُخر طبيعية أو اتفاقية".
وإذا كان الأدب هو العاكس للأخلاق في كل مجتمع، فهذا يعني أنّ الأدب غير الأخلاق؛ فالأخلاق هي الملكات الراسخة الروحية التي تتلبس بها النفوس، وهي من مقتضيات الاجتماع البشري المعين بخصوصه وبحسب غايته، بينما الأدب هيئات حسنة مختلفة تتلبس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان وعن صفات نفسية مختلفة. إذاً الآداب متفرعة عن الأخلاق ومن منشآتها. فالغاية المطلوبة للإنسان هي الأخلاق التي تحدد بل تشخص أدبه في أعماله وترسم لنفسه خطاً لا يتعداه. وإذا كان الأدب يتبع في خصوصيته الغاية المطلوبة في الحياة، كما تقرر، فالأدب الإلهي الذي أدَّب الله سبحانه به أنبياءه ورسله هو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينية التي تحاكي غرض الدين وغايته وهو العبودية.
ولما كان غرض الإسلام التعرض لمختلف أوجه الحياة بحيث لا يشذّ شيء من شؤون الحياة "فلذلك وسع الحياة أدباً، ورسم في كل عمل هيئة حسنة تحاكي غايته. وليس له غاية عامة إلّا توحيد الله سبحانه في مرحلتي الاعتقاد والعمل جميعاً،...، فالأدب الإلهي – أو أدب النبوة – هي هيئة التوحيد في الفعل".
فالتأدب في الإسلام، يبدأ اعتقاداً بأنّ للإنسان إلهاً واحداً، منه بدء كل شيء وإليه منتهى كل شيء، ويُتابع بمعايشة تفصيلية تحاكي بنفسها عبودية كل شيء لله تعالى، وبذلك يسري التوحيد في باطن الإنسان وظاهره وتظهر العبودية في أقواله وأفعاله وسائر جهات وجوده ظهوراً لا ستر عليه ولا حجاب يغطيه.
إذاً قبل المباشرة بالتأدب الذاتي، يفترض بناء التصور التوحيدي الشامل للحياة بما فيها البعد الاجتماعي وحتى الذاتي، وشحذ إرادة التغيير وفق البناء السابق وبروحية الاقتراب من الله بتحقيق غرضه في الخلق وهو العبودية التامة له.
- معرفة الذات وطريق صلاحها:
الإنسان من حيث كونه ممكناً، عنده استعداد الوقوع في عالم البليات الدنيوية من جانب، وعنده استعداد السير في معارج الكمال من جانب آخر، فنفس إمكانه يعني قصوره الذاتي وحاجته المستمرة للعون والهداية. وقد شاء الله تعالى أن يدبر الخلق باخراجهم عن مكمن الإمكان إلى عالم السمو والروح الذي هو روح العالم ومظهر اسم الله وخليفته.
فوجود الإنسان لم يحدث من الله تعالى إلّا بعد استيفاء الطبيعة جميع درجات الأكوان وطيها منازل النبات والحيوان، ويجتمع في ذاته جميع القوى الأرضية والآثار النباتية والحيوانية وهذا هو أوّل درجات الإنسانية التي يشترك فيها جميع أفراد الناس ثمّ يرتقي البعض إلى عالم السماء ومجاورة الملكوت الأعلى بتحصيل العلم والعمل، وله أن يستكمل ذاته بالمعرفة الكاملة والعبودية التامة ويفوز بلقاء الله، حينئذٍ يكون رئيساً مطاعاً في العالم العلوي مسجوداً للملائكة وسارياً حكمه في الملك والملكوت.
على ضوء ما تقدم يمتاز الإسلام بتصورٍ خاص في الأخلاق والسلوك ونمط التفكير والاجتماع الإنساني والكوني، والتأدب يتم بامتلاك المعارف المتصورة وتحويلها إلى ملكة تعصم الإنسان عن كل ما يشينه ويرده إلى أسفل السافلين، ومحور فكرة الأخلاق التي هي مادة التأدب التوحيد، فهو المقياس والضابط للنظرة والسلوك. فإذا كان الميزان هو ما ذكرنا، فأولى مهمات التأديب الذاتي ربط النفس بالمحور الاعتقادي الذي هو التوحيد ومن ثمّ تعليمها وتزويدها بالمعارف لتكون على بصيرة من مختلف المظاهر التوحيدية، وبالتالي مراقبة عنصر الانسجام بينها وبين تلك المظاهر، حتى لا يكون من (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف/ 104).
فعلى مستوى ملامسة الفطرة التي في الحفاظ على سبيلها تمسكٌ بالعبودية للخالق وبالبعد الإنساني في شبكة العلاقات التي يقيمها الإنسان مع غيره. لأنّ الفطرة لا ترشد إلى أكثر من وحدة النظرة إلى الناس في معاشرتهم، فتدعو إلى احترام "الضعفاء والأقوياء على حد سواء والاكثار والمبالغة في حق أهل العلم والتقوى منهم"، فإنّها لمّا ابتنت على أساس العبودية لله والتوحيد تفرع تسوية الحكم في الغني والفقير والصغير والكبير الرجل والمرأة والمولى والعبد والحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والسلطان والرعية وإلغاء تمايز الصفات واختصاص الأقوياء بمزايا اجتماعية، فيصبح الناس على وفق معاييرها سواء، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...) (الحجرات/ 13)، هذا من ناحية النظرة إلى الآخر، أمّا التعاطي مع الذات فتنعدم، بنظرها، مرجحات التمايز الطبقي والجسدي والنفسي، فلا ينظر الإنسان إلى نفسه في حال امتلاكه وتنعمه وسعادته على أنّه غير الفاقد والمحروم والشقي، فيتعطل عنده الشعور الإنساني، بل يتبدل في حال التأدب بالأخلاق التوحيدية الاستكبار والمباهاة تواضعاً للحق ومسارعة إلى المغفرة والرحمة وتسابقاً في الخيرات وجهاداً في سبيل الله وابتغاءً لمرضاته.
وإذا أردنا الغوص أكثر في صورة الإنسان التي لابدّ من أن ينسبق الذهن إليها كي يتعاطى الإنسان مع نفسه ويتفاعل معها على ضوئها، يمكن القول إنّ الإنسان الكامل هو "العالم الصغير ومظهر اسم الله الجامع لمظاهر الأسماء كلها، وهو خليفة الله في أرضه، ومثال نور الله في سمائه، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، قال سبحانه: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة/ 31-32).
ليس على الله بمستنكرٍ **** أن يجمع العالم في واحد.
وكما أنّ كل موجود من الموجودات التفصيلية في الكون مظهر من مظاهر اسم الله تعالى، فأجزاء العالم فيها أجناس وأنواع وأشخاص وجواهر وأعراض والأخيرة بمقولاتها التفصيلية أيضاً، وكذلك في الأسماء الإلهية، توجد أسماء جنسية ونوعية وجوهرية وعرضية، كمية وكيفية وغيرها، وفي الإنسان الكامل، الذي هو المظهر الجامع، يوجد أيضاً ما يوجد في عالم الأسماء وفي مظاهر الآفاقية، وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين علي (ع):
وأنت الكتاب المبين الذي **** بآياته يظهر المضمر
وتزعم أنك جرم صغير **** وفيك انطوى العالم الأكبر
وعلة هذا التناسب المشار إليه الذي قرر بأنَّ كل ممكن من الممكنات هو مظهر اسم خاص، مرجعها – أي العلة – إلى أنّ المناسبة يجب أن تكون ثابتة بين المفيض والمفاض عليه، فتعدد الكمالات وكثرة صور المعلومات يدل على تحقق تلك المعاني الكلية والخيرات في أسبابها وعللها على وجه أعلى وأتم، من غير لزوم تكثر وتجسم في علتها الأولى.
والنظرة السالفة إلى علو مرتبة الإنسان الكامل تستلزم لا بل تستوجب قبل مباشرة مهمة التأديب الذاتي أو نظم العلاقة بين المرء ونفسه، معرفة النبي والإمام لتتاح المؤمن فرصة توظيف ما يعرفه في النبي أو الإمام في نظم عملية التأدب أو اختيار سبيل الرشد للنفس. لقد اختار الله تعالى الإنسان الكامل الذي هو المعصوم مثالاً له تعالى "ذاتاً ووصفاً وفعلاً، ومعرفة هذه الفطرة البديعة، والنظم اللطيف، والعلم بهذه الحكمة الأنيقة والأسرار المكنونة فيها، سر عظيم من معرفة الله، بل لا يمكن معرفته تعالى، إلا بمعرفة الإنسان الكامل، وهو باب الله الأعظم، والعروة الوثقى، والحبل المتين، الذي به يرتقى إلى العالم الأعلى، والصراط المستقيم،... فيجب على كل أحد معرفة ما في هذا الكتاب المكنون وفهم هذا السر المخزون، وهذا معنى وجوب معرفة النبي، ومعرفة الإمام عليهم السلام، من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، لأنّ حياة الإنسان في النشأة الدائمة، إنما هي بمعارف الحكمة الإلهية، والإنسان الكامل تنطوي الحكمة كلها...".
ومعرفة الإنسان الكامل تقود إلى تمييز كل ما يردي المرء إلى الأسفل ويركسه، فدون الصورة المثال يعسر النظر والتحقق في المجافي والمخالف للفطرة والتكوين الصحيح للإنسان، ولهذا سميت الأنواع التي قد يصطحبها في تركيبه وخلقته، بالشوائب لخروجها عن حد الفطرة وابتعاد الإنسان بها عن الصراط وهي الصفات السبعية والبهيمية والشيطانية والربانية ففي خروجه بالغضب عن الحد الطبيعي يتعاطى الإنسان أفعال السباع من العداوة والبغضاء والتهجم على الناس بالضرب والشتم. وفي خروجه بالشهوة عن الاعتدال يتعاطى أفعال البهائم من الشره والحرص والشبق وغيره. وبجموح نفسه في النزعة التسلطية يتصرف مع الضعفاء والخاضعين لولايته بروحية جبروتية وقد يدعي لنفسه الربوبية ويحب الاستيلاء والاستعلاء والتخصيص والاستبداد بالأمور كلها، ومن حيث يختص عن البهايم بقدرة استنباط الحيل والشر قد تنمو فيه الروح الشيطانية فيصير شريراً يتوصل إلى أغراضه بالمكر والحيلة والخداع.
ولعل معظم الصفات غير الحميدة التي لم يمر ذكرها هي تفصيلات متفرعة عن تلك التي مرّت الإشارة إليها؛ فطاعة خنزير الشهوة يصدر منها صفة الوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والحرص والجشع والملق والحسد والشماتة، وأما طاعة كلب الغضب فينتشر منها إلى القلب صفة التهور والنذالة والبذخ والصلف والاستشاطة والتكبر والعجب والاستهزاء والغمز والاستخفاف وتحقير الخلق وإرادة الشر وشهوة الظلم وغيرها.
وأما طاعة الشيطان بطاعة الشهوة والغضب فيحصل منها صفة المكر والخداع والحيلة والدهاء والتدليس والغش.
ولو عكس الأمر وقهر الجميع تحت سياسة الصفة الربانية لاستقر في القلب من الصفات الربانية العلم والحكمة واليقين والاحاطة بحقايق الأشياء ومعرفة الأمور على ما هي عليه والاستيلاء على ذلك كله بقوة العلم والبصيرة.
ما تقدم مجموع الصفات المتفرعة عن جموح الصفات المذكورة عن حدّها الوسط، الأمر الذي يعني أنّ امكان الافراط والتفريط متحقق في حدود الصفات المشار إليها، وبالتالي فإنّ عقل وقلب الإنسان صالحان لقبول آثار الملائكة ولقبول آثار الشيطان قبولاً متساوياً، ويترجح أحدهما على الآخر إمّا باتباع الهوى والانكباب على الشهوات أو بمخالفة الهوى والارتباط بالله وتمتين العلاقة به تعالى. وقد صور "الكاشاني" حالة التجاذب بين القوى الملكوتية والأخرى الشيطانية بمعركة طويلة ومحتدمة تستمر "إلى أنّ ينفتح القلب لأحدهما فيسكن ولا يستوحش ويكون اجتياز الثاني اختلاساً، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201).
وقد صور النبي (ص) ذلك الواقع بتعبير خاص عندما قال "في القلب لمّتان: لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من الله فليحمد الله، ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير ومن وجد ذلك فليتعوذ من الشيطان ثمّ تلا: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) (البقرة/ 268).
إذا كان واقع الإنسان على الصورة التي تقدمت، وبالخطورة المتصورة والحاصلة أيضاً، أمكن تصور أهمية تعلم الإنسان ومعرفة نفسه، لأنّه هو الأقدر على صوغ البعد الجواني فيه من غيره، وإن لم يكن للمرء من نفسه واعظ فلا تنفعه المواعظ أبداً؛ وخصيصة القلوب والسرائر أنها "خزائن الأسرار ومعادن الجواهر، وقد طويت فيها جواهرها كما طويت النار في الحديد والحجر وكما أخفي الماء تحت التراب والمدر، ولا سبيل إلى استشارة خفاياها إلّا بقوادح السماع، ولا منفذ إلى القلوب إلّا من دهليز الأسماع. فالسماع للقلب محك صادق ومعيار ناطق، فلا يصل نفس السماع إليه إلّا وقد تحرّك فيه ما هو الغالب عليه".
يتبع...
المصدر: كتاب مجلة المنطق/ العدد 71 و72/ 1990م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق