إنّ أساس القبول لأي عبادة هو إخلاص القلوب لله تعالى. فإنّ حقيقة العبادة ليست شكلاً يتعلق بالمظهر، ولا رسماً يتصل بالجسد. ولكنها سر يتعلق بالقلب، وإخلاص ينبع من الروح، فإذا لم يصدق قلب المسلم في عبادته. ولم يخلص لله في طاعته، وأدّاها رسوماً خالية من الروح. كما ينطق الأبله بالألفاظ الخالية من المعنى. فهناك يردها الله عليه، كما يرد الصيرفي النقاد الدراهم الزائفة. قال تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ» (البينة/ 5)، «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ» (الزمر/ 2)، «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ» (الزمر/ 11)، «قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي» (الزمر/ 14). ومما لا شك فيه أنّ الإسلام شريعة، فهو يخضع المؤمنين به لأعمال شعائرية.
ومع ذلك.. فإنّ معين التعاليم الإسلامية الأولى، وهو القرآن يعتبر صراحة: أنّ الأعمال بالنيات، ويعد النية معياراً للقيمة الدينية: ويرى أنّه إذا لم تقترن دقة احترام الشريعة بأعمال رحمة وخير كانت قليلة القيمة. «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (البقرة/ 177).
وفيما يتعلق بشعائر الحج التي نظمها، من بين تقاليد الوثنية العربية استناداً إلى كلمة الله: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ» (الحج/ 34)، جعل الله أهمية كبرى لنية التقوى التي يجب أن تصحب هذه الشعيرة، حين يقول: «لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ» (الحج/ 37). والجزاء الأكبر للإخلاص – كما في سورة غافر – «فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (غافر/ 14)، و - للقلب السليم- كما في شورة الشعراء: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ* إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (الشعراء/ 88-89). وهذا الإقناع قد نما فيما بعد بفضل التعاليم المستخلصة من السنة، والتي ما لبثت أن شملت جميع نواحي الحياة الدينية، وبفضل نظرية النية والقصد والروح التي تلهم الأعمال، والتي اتُخذت معياراً لقيمة العمل الديني، فمجرد ظل لباعث من بواعث الأثرة أو الرياء يُجرِّد كلّ عمل طيب من قيمته. فالقلب هو الأساس في الإسلام، وهو موضع نظر الله تعالى، ومحل عنايته، وهو مستند القبول والفلاح في الآخرة. وفي هذا يقول الرسول (ص): «إنّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم.. ولكن ينظر إلى قلوبكم».
«ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب». ويقول القرآن: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ» (ق/ 31-34).
الإمام زين العابدين نموذج الشخصية الرسالية في الصبر والعلم والتواضع
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: «إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيراً» (الأحزاب:33). من أهل هذا البيت، الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)؛ هذا الإمام الذي كانت حياته حياة الرسالة، في أجواء المأساة في كربلاء، وفي أجواء الدعوة والعلم في مختلف جوانب الحياة الإسلامية، فقد عاش مع أبيه الحسين (ع) في كربلاء، وكان ـ حسب ما نستوحي من السيرة الحسينية ـ يتشاور مع أبيه في كلِّ القضايا التي كانت تحيط بالواقع هناك، وكان أبوه (ع) ينفتح عليه في كلِّ وصاياه وفي كلِّ تطلعاته، لأنّه كان الإمام من بعده، وقد أراد الله تعالى له (ع) أن يبقى حيّاً، لأنه لم يستطع القتال في كربلاء بسبب مرضه الشديد، وكانت عمته السيدة زينب (ع) تمرّضه.
الصابر المحتسب
وعاش الإمام زين العابدين (ع) كلّ المأساة، وكان يوجّه البقية الباقية من عوائل أهل البيت (ع)، ولاسيما السيدة زينب (ع)، في إدارة المسألة بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) والصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، ولم يُعهد عنه أنه تحرك في كربلاء بتأثير المأساة بحالة انهيار عاطفي أو انفعال نفسي بالحزن، بل كان الصابر صبر الأنبياء، لأنه كان الإمام الذي يملك القيمة الإسلامية في الصبر، وكان يعي أهداف حركة الإمام الحسين (ع). ولذلك كان موقفه موقفاً قوياً في مجلس ابن زياد عندما قال له: «هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم... فانظر لمن الفلج». وهكذا كان موقفه في الشام، ليؤنّب يزيد والمجتمع الذي ساعده على قتل الحسين (ع).
لم يُعهد للإمام السجّاد (ع) أنه كان يعيش الضعف في كلِّ تلك المسيرة، حتى في مجلس يزيد، ونحن ننتقد ما يحاول أن يثيره بعض خطباء المجالس الحسينية لتصويره بأنه كان يستشعر الذل والخضوع، لأنّه انطلق في كلِّ مسيرة حياته من خلال العزة؛ عزة المؤمنين التي أرادها الله تعالى لكلِّ مؤمن، فكيف بإمام المؤمنين.
وعندما كان (ع) يُظهر الحزن على مأساة كربلاء، كان لا يخضع لحالٍ من الحزن الذي يُسقط الموقف، ويُضعف الإرادة، بل كان يريد لهذه المأساة أن تبقى ذكرى تذكّر الناس بما أطلقه الإمام الحسين (ع) من مواقف وشعارات، وبما خطط له من حركة الإصلاح في أمة جده (ص). كان يقف ليستشعر الحزن بين الناس من أجل أن تبقى هذه الذكرى، كما درج عليها الأئمة من أهل البيت (ع) الذين خططوا لبقائها لتتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، ليعتبروا بها، ويستفيدوا منها، ويحملوا شعاراتها.
مرجعية إسلامية
كان الإمام زين العابدين(ع) في المجتمع الإسلامي آنذاك موقع تقدير للأمة كلها، لم يختلف عليه أيّ مسلم، بل كان العلماء يأتون إليه عندما يكون في مسجد النبي(ص) في المدينة، ليسألوه عن كلِّ قضايا الإسلام، وليحلّ لهم كلّ مشكلاتهم، وليوضّح ما التبس عليهم من أمور، بحيث كان المرجعية الإسلامية لكلِّ الفقهاء وكلِّ الناس، وقد أخذ عنه المؤرخون والفقهاء العلم، باعتبار أنه كان يحمل عِلم رسول الله(ص) من موقع الحقيقة والصفاء، وهو بالفعل كان يجسّد القيمة الروحية الأخلاقية التي لا تتوقف عند أي حالة من حالات ردّ الفعل ضد أعدائه. فنحن نقرأ في تاريخه، أنه عندما ثارت المدينة على يزيد، وواجهت جيشه وطردته، جاء مروان بن الحكم إلى علي بن الحسين(ع)، وكانت عائلته كبيرة، ليطلب منه أن يستضيف عياله بعد أن رفض بعض الصحابة أن يستضيفوهم، ونحن نعرف أنّ مروان هو مَن حرّض والي المدينة على قتل الإمام الحسين (ع) عندما رفض البيعة، فقال له الإمام (ع): «ضمّ عيالك إلى عيالي»، وكان عياله يبلغون الأربعمئة، وأعطاهم (ع) كلّ الرعاية، حتى قالت بعض نساء مروان: «إننا لم نجد الرعاية عند أبينا كما وجدنا عند علي بن الحسين».
إرادة التغيير
لكي يمضي الإنسان بمشروعه وأهدافه في الحياة، يجب أن يكون ذا إرادة وتصميم وعزيمة لا تلين. ويتجسّد دور الإرادة وأهميّتها في الموقف البشري في عمليّة الصِّراع، وعمليّة التحدِّي ومواجهة الصِّعاب والإخفاقات، والإنسان الذي يحمل الإرادة القوية الصادقة يحقِّق أهدافه، ويكرِّس جهده وإهتمامه وطاقاته من أجل تحقيق الأهداف.
إنّ مهمّة التغيير في الأُمّة لهي مهمّة صعبة، وتحتاج إلى إرادة وعزيمة، فالأُمّة التي لا تحمل إرادة التغيير، ولا تحمل روح الرفض للواقع المتخلِّف، وترضى بالعيش تحت الظروف التي ألفتها من الظلم والفساد والفقر، ولا تنزع إلى وضع أفضل،
ومستقبل زاهر، لهي أُمّة فقدت إرادة التغيير، ولا يمكن أن تحقِّق النهوض والتحرّر من التخلّف والظلم والفساد السياسي والاجتماعي، ولن تحقق التنمية الاقتصادية والتقدّم العلمي. إنّ التغيير الذي ينشده الإسلام، هو التغيير الجذري الشامل الذي يبدأ من أعماق النفس البشرية، منطلقاً من تغيير المحتوى الذاتي للإنسان، فتغير الوضع الفكري والروحي والسلوكي للإنسان، هو منطلق التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرّعد: 11).
فبإرادة التغيير والعزم عليها يحدث التغيير، وإيجاد هذه الإرادة يحتاج إلى عمل متواصل من قِبَل الطليعة ذات الإرادة والعزيمة. وقد وصف الله سبحانه إرادة المصلحين والمغيِّرين بالعزيمة، وبذا وصف صفوة الأنبياء بأنّهم ألو العزم، لأنّهم ألو إرادة قويّة لا تلين ولا تتراجع. حملوا الرسالات بقوةّ. وتحمّلوا مشاق التغيير والصراع بأشدّ صورها. وبذا خاطب سيد المرسلين محمّداً (ص) فقال: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» (الأحقاف: 35).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق