قال تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا). (الفتح/ 29).
توطئة
الحديث عن النبيّ الأكرم محمّد (ص) هو حديث الروح التي لا تنفك مرتبطة بتلك الشخصية العظيمة التي لا يرقى لها أحد من الخلق فهو أشرف الخلق وأعظمهم خلقاً، وفي هذا المجال فإنّ علينا أن نستعرض طبيعة هذا الخلق السامي الذي حرك القلوب وفتح العقول في ظرف كانت الجاهلية فيه هي السائدة، فلقد انفتح النبيّ (ص) على الجماهير وواجه المصاعب من أجل تحقيق أهدافه السامية التي حملت الخير للناس بعد أن عاش الناس في ظل الجهل والتخلف والظلم والقهر، وعاش المفسدين في الأرض في ظل الكفر والشرك والعدوان.
ولقد جهد النبيّ (ص) من أجل تنظيم الحياة وبسط النظام وتنظيم شؤون الإدارة والحُكم وبذل قصارى جهوده للقضاء على ظواهر الفساد بشتى أشكاله وصوره، وأهتم بتربية الجيل الأوّل من المسلمين، وشجع على التربية والتعليم وكان الرائد في بناء الدولة العصرية وهيكلة النظام الإداري والحكومي لأجهزة الدولة الإسلامية التي شرع لها أن تقود الحياة، وتميز بأنّه آثر غيره على نفسه في جميع شؤون الحياة المادّية وهكذا فِعلُ الأنبياء في تدبيرهم وحكمتهم، فهم قادة وأولياء، وهم المرشدون الراشدون حقّاً.
تفصيل
يتبيّن من الآية الكريمة التي رفعناها شعاراً لهذا الموضوع بعض من الملامح العامّة لصفة النبيّ في القرآن الكريم:
صفة النبي في القرآن كريم
أوّلاً: النية الحسنة.
ثانياً: العبادة.
ثالثاً: العمل الجماعي المنظم.
رابعاً: وحدة الجماعة التي يسودها مبدأ المودة والتعاون.
خامساً: القوّة والشدة والشجاعة.
سادساً: نشر فكرة التوحيد في صفوف الناس والدفاع عنها.
سابعاً: ربط العمل الجهادي بالهدف السامي الذي يتمثل بالحصول على الثواب.
المحيط العائلي والعشائري والاجتماعي حول الرسول
شرف العائلة الهاشمية
فالنبيّ يحمل اسم وشرف العائلة الهاشمية وهم سادة العرب الذين يتمتعون بخصال الشرف والهيبة والعقل. والنبيّ شخصية أمينة وحيوية قادرة على النجاح في إدارة المال وكان ذلك متوفراً في شخصيته (ص).
أوّلاً: خديجة بنت خويلد: وهي أُم للمؤمنين، وزوج النبيّ محمّد بن عبد الله (ص)، وهي أوّل مَن آمن من النساء، وثاني مَن آمن من الناس بعد الإمام عليّ بن أبي طالب (ع).
ثانياً: أبو طالب وتأثيره على تكوين شخصية النبيّ: إنّ شخصية مهمّة كشخصية أبي طالب عم النبيّ (ص) لها مقوماتها الخاصّة فهو رجل لامع من رجالات قريش ينتمي إلى بني هاشم، وله دور بارز ومهم في حياة الرسول.. كان دوره أشبه وأقرب ما يكون إلى دور مؤمن آل فرعون الذي ورد ذكره في القرآن والذي كان يكتم إيمانه خوفاً من فرعون وقومه وهو نهج طالما اتبعه الأشخاص الذين يقدمون العون والإسناد للمستضعفين.
الصادق الأمين
فالنبيّ يتمتع بحُسن السيرة والأخلاق والصدق والأمانة، وهي صفات يندر أن تجدها عند الناس، فالناس تتفاوت أماناتهم ودرجة نزاهتهم ولكنّها كانت متجسدة تمام التجسّد والوضوح في شخصيته (ص)، إضافة الى ما كان يتمتع به من دماثة الخُلق وحُسن التصرّف مع الناس .
خُلقه العالي مع الناس
وفي رحلة النبيّ إلى الشام وبمرافقة مَيْسَرَة غلام خديجة لاحظ ميسرة مميزات خاصّة ظهرت له في شخصية النبيّ منها خُلقه العالي مع الناس وحُسن تصرّفه معهم وقد نقل هذه الملاحظات إلى خديجة وقد أدى ذلك الى ارتفاع منزلة ومكانة الصادق الأمين في قلب خديجة لما ظهر لها منه من النزاهة والإخلاص جعلتها تنظر إليه كرجل له مكانة خاصّة في نفسها وفكرت لأن يكون زوجاً لها من دون بقية الرجال إذ لم تجد كفؤاً آخر لها بينهم.
ولقد جمعت بينهما عوامل عديدة منها علو شرف كلّ منهما بين القبائل ومكانتهما الرفيعة بين الناس بسبب القيم الاعتبارية في المجتمع كالجدّية في الحياة والتوجه نحو اهتمامات تصلح لبناء الشخصية كالتجارة والمنازل الخلقية الرفيعة التي يتمتع بها كلّ منهما.
أوّلاً: الانفتاح على الجماهير في موسم الحج: أدى النبيّ (ص) دوره الرسالي أثناء موسم الحج فانفتح على الناس وعرض عليهم أفكار وعقائده الجديدة لعلّه يدخل في قلوب العقلاء منهم وقد نجح في خطوته هذه ووجد صدى في نفوس بعضهم وإن كانوا قلة أثناء هذا الموسم.
ثانياً: الانفتاح على الجماهير في أوساط التجار
كما فكر النبيّ (ص) جيِّداً في الانفتاح على طبقة التجار وهم أصحاب عقول وعرض عليهم أثناء تجمعهم في سوق عكاظ مبادئه الجديدة والتي لاقت تقبلاً عند البعض منهم وتولد عن ذلك علاقات متينة خصوصاً مع أهل يثرب.
عنصر المواجهة عند النبيّ
أوّلاً: خُلق النبيّ وتعامله بالحكمة في مواجهة الجاهلية والتعصب
لقد تحرّك النبيّ (ص) بحكمة بالغة في البداية لما كان عليه الناس من جاهلية وتعصب وكانت بداية التحرّك أصعب مرحلة من مراحل الدعوة لأنّها تعتبر مرحلة تأسيس واختيار للجماعة الصالحة من الناس وبلورة العمل المنظم الذي يمكن أن يقف بوجه التحديات التي تواجه الدعوة.
ثانياً: مواجهة الظروف الاجتماعية المعقدة بين المهاجرين والأنصار
تألفت الجماعة المسلمة من شريحتين أساسيتين من المهاجرين والأنصار، ولما كان المهاجرون في وضع صعب ومعقد للغاية بسبب غربتهم عن دُورِهِم وأماكن عملهم بعد الهجرة إلى مكة اتّخذ النبيّ قراراً بعقد مؤاخاة بينهم وبين الأنصار من أهل يثرب وقد لقي النبيّ (ص) صدوراً رحبة مملوءة بالإيمان والمحبّة لدى الأنصار في يثرب الذين عاهدوا الله والنبيّ مشاركتهم في حياتهم وأعمالهم وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فغمرت الفرحة قلوب الجميع.
تنظيم النبيّ للعلاقات الاجتماعية
أوّلاً: تنظيم العلاقة بين القبائل: صحيفة لتنظيم العلاقة بين القبائل: وكانت أوّل الإجراءات التي قام بها النبيّ (ص) هي تنظيم العلاقة بين القبائل فوضع آلية لحفظ العلاقات بينها من أجل رعاية الحقوق وضمّن ذلك في صحيفة حُرِّرَت لأجل هذا الغرض.
ثانياً: أخلاقه مع اليهود: تنظيم معاهدة مع اليهود: يعتبر اليهود من أشد الناس عداوة للمسلمين من أهل الكتاب لأسباب عديدة منها مركزهم الديني والسياسي والتجاري ويعتبرون أنّهم شعب الله المختار، ولقد اشترك اليهود في المكائد والدسائس في بداية الدعوة.
ولكن وبعد أن تعاظمت قدرات المسلمين لم يكن أمامهم سوى الإذعان للوجود الجديد لذلك قبلوا بقيام تعهد مع المسلمين ووضع حل وسط يحترم فيه كلّ منهم الآخر، وبذلك يكون النبيّ (ص) قد نظّم العلاقات العامّة مع محيطه الداخلي.
الشروط الصعبة في تحقيق الذات الصالحة.. بعض من وصايا النبيّ
وصية النبيّ (ص) لجابر بن يزيد
وعن جابر بن يزيد عن الباقر (ع) قال: قال النبيّ (ص) لجابر بن عبد الله: يا جابر هذا شهر رمضان مَن صام نهاره وقام ورداً من ليلته وصان بطنه وفرجه وحفظ لسانه لخرج من الذنوب كما يخرج من الشهر، قال جابر: يا رسول الله (ص) ما أحسنه من حديث، فقال رسول الله (ص): وما أصعبها من شروط.
أخلاقيته في ظروف الحرب والقتال
دور الإيمان في القتال
اهتم النبيّ (ص) بعناصر النجاح وتَصرَّفَ كقائد مشرف من جهة، وكنبيّ له صلة بالله من جهة أخرى، فقد شجع مقاتليه وبث فيهم روح العزيمة والصبر والثبات، في الوقت الذي كان يدعو لهم عند الله بالنجاح والتوفيق، لذلك أيده الله عندما دعا الله على المشركين وأن يُعميَ أبصارهم.
اشراك النبيّ للإمام الحسن (ع) في ألأمور السياسية كما في بيعة الرضوان
عاش الإمام الحسن (ع) سبع سنوات في كنف رسول الله (ص) ينهل منه ويتعلّم ويتربّى ويتزوّد من طاقته الروحية ومن نفحات النبوّة، واهتم الرسول (ص) بالإمام الحسن (ع) وأشركه في بيعة الرضوان وكان ذلك ضمن المواقف السياسية المهمّة في حياته وتواجده مع النخبة، إذ ليس من المعقول أن يصطحب النبيّ صبياً لو لم يكن ذلك الصبي مؤهلاً لهذا الحضور.
العوامل الأساسية في تربية الجيل الأوّل من المسلمين
أوّلاً: الصدق وظاهرة النفاق وآثارهما السيئة في حياة المجتمعات والشعوب: النفاق هو غصن شجرة الأخلاق السيئة المرتبط بالكذب والخيانة ونقض الوعود والعهود، ولا عجب من وجود تناقضات عند الناس على الرغم من تنوعها الديني والمذهبي ونقصد بالمذهب هنا ماتجاوز الدين إلى كلّ مذهب من المذاهب الفكرية والسياسية.
ثانياً: ظاهرة الكذب وآثارها الخطيرة في المجتمعات: وقال رسول الله (ص): "إياكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار" صححنا هذين الحديثين على (جامع الاخبار): الباب 12 الفصل 7 " .
وقال (ص): "المؤمن إذا كذب من غير عذر لعنه سبعون الف ملك، وخرج من قلبه نتن حتى يبلغ العرش، فيلعنه حَمَلة العرش، وكتبَ الله عليه بتلك الكذبة سبعين زنية، أهونها كمن زنى مع أُمه" صححنا هذين الحديثين على (جامع الأخبار): الباب 12 الفصل 7 ".
ثالثاً: جاء فيه في ذم البغي: قال رسول الله (ص): "إنّ أعجل الشّر عقوبة البغي".
رابعاً: جاء في ذم الغيبة: وقال رسول الله (ص): "المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه". والغيبة تتناول العرض. قال (ص): "إياكم والغيبة، فإنّ الغيبة أشد من الزنا، فإنّ الرجل قد يزني ويتوب فيتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه". وقال (ص): "مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبرئيل، مَن هؤلاء؟ قال الذين يغتابون الناس، ويقعون في أعراضهم". وخطب (ص) يوماً حتى أسمع العواتق في بيوتها، فقال: "يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنّ مَن تتبع عورة أخيه يتتبع الله عورته حتى يفضحه في جوف بيته ".
الاهتمام بالتعليم
اهتم النبيّ (ص) بالتعليم في مجتمعه، وأبدى حرصاً خاصاً للقضاء على الجهل، وكانت خطوة تعليم الكتابة والقراءة إحدى هذه الخطوات التي شكّلت منطلقاً مهماً في حياة المسلمين، وقد استفاد النبيّ من وقوع عدد كبير من الأسرى المشركين فجعلهم معلمين للصبيان وذلك مقابل إطلاق سراحهم، وبذلك يكون النبيّ قد شجّع الأسرى على العمل وساهم في عملية إطلاق سراحهم والسماح لهم بالاتصال بعوائلهم.
ولم يكتفِ النبيّ في معالجة شؤون الأسرى بالتعليم، بل أعطاهم فرصة ثمينة أخرى لأطلاق سراحهم تتم مقابل دفع مبلغ من المال كان يسيراً عليهم دفعه، وبتصرّف النبيّ في هذا الأمر استطاع أن يحل قضية الأسرى بشكل نهائي ويكون قد أعطى درساً جيِّداً للإنسانية في طريقة تعاملها مع الأسرى، والمساهمة في حل مشلكتهم ومشكلة عوائلهم المرتبطة بهم. جاء في أعلام الهداية ج 1 خاتم الأنبياء ص 155 – 156 ما نصه: "وبشأن الأسرى أعلن رسول الله (ص) أنّ مَن علّم من الأسرى عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة (مجمع الزوائد 4: 96 باب الأمر على تعليم القرآن) فذلك فداؤه، مظهراً بذلك سماحة العقيدة الإسلامية وحثّها على التعليم وبناء الإنسان المتحضّر، وأمّا الباقي من الأسرى فداء كلّ واحدٍ منهم أربعة آلاف درهم (تاريخ الطبري 2: 161 أحداث السنة الثانية من الهجرة غزوة بدر)، وشمل هذا القرار أبا العاص زوج زينب بنت رسول الله (ص) من دون تمييز له عن غيره من المشركين.
النبيّ يحبّ لغيره ما يحب لنفسه
ولم ينسَ النبيّ مشاعره في مسألة الأسرى كإنسان، لذلك شجّع الجماعة المؤمنة ودفعها إلى التنازل عن بعض الشروط الملزمة تجاه بعض الحالات الإنسانية لمن ليس لديهم المال الكافي في دفع الفداء وهذا ما حدث لإحدى نساء الأسرى حيث رُدَّتْ لها زينتها الشخصية برضا المسلمين.
ولادة النظام الإداري والحكومي لأجهزة الدولة الإسلامية
ساعد وجود الجماعة المسلمة في يثرب على بناء الجهاز الإداري والتنفيذي للدولة الإسلامية الفتية بمؤسساتها المدنية والعسكرية خصوصاً بعد بناء المسجد وعقد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وبناء العلاقات بين القبائل وإجراء معاهدة مع اليهود مما أسرع في نماء القدرات ورسوخ عوامل الاستقرار للقيام بعدها بالحركة نحو مكة ومن حولها من المدن والدول وأسهم ذلك في انتشار الإسلام بصورة سريعة.
خاتمة
إنّ التفاف الجماعة المسلمة وانصهارها في بودقة الأخوة الصادقة التي تم بنائها على أُسس ومبادئ رفيعة أعطت مثالاً راقياً لما يجب أن يكون عليه أهل الإصلاح في أُمتنا الإسلامية وما أحرانا ونحن نمرّ بظروف كَثُرَ فيها الفساد والظلم والأعداء أن نتكاتف ونتآخى ونتآزر لحل مشاكلنا المعاصرة ولنكون قدوة للعالم الحديث.. وفق الله العاملين المخلصين الذين بذلوا جهدهم في سبيل إعلاء كلمة الله وإنّ الله لمع المتقين.
المصادر
- أعلام الهداية ج 1 المجمع العالمي لأهل البيت (ع)
- المعصومون الأربعة عشر - الجزء الأوّل من منشورات حسينية الإمام الرضا (ع) جنوب أسبانيا طبع عام 2007م.
- موقع السراج في الطريق إلى الله لسماحة الشيخ حبيب الكاظمي في تدقيق الآيات الكريمة
www.alseraj.net
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق