• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التحدّي القرآني

أحمد بسام ساعي

التحدّي القرآني
◄كان تنزّلُ القرآن منجّماً على مدى ثلاثةٍ وعشرين عاماً ظاهرةً جديدةً لم تحدث لكتابٍ سماويٍّ من قبل، فقد كانت تلك الكتب تنزل على الأنبياء دفعةً واحدةً كما هو معلومٌ لدى أهل تلك الكتب الكريمة.  

ولكنّ الأهمّ من ذلك أنّه لم يحدث لأيٍّ من تلك الكتب أن تحدّت من تنزّلت إليهم من الشعوب، ولم مرّة واحدة، بأن يأتوا بمثلها، أو بمثل جزءٍ صغيرٍ منها على الأقل، كما فعل القرآن الكريم في آياتٍ عديدة، وهو ما يضفي عليه جوانب أخرى من الفرادة والخصوصيّة والتميّز. وانظر كيف تدرّج التحدّي من (الإتيان بكتابٍ مثله) حتى وصل إلى (الإتيان بسورةٍ واحدة):

 

-        (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) (الأنعام/ 93).

 

-        (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (الطور/ 34).

 

-        (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء/ 88).

 

-        (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) (هود/ 13).

 

-        (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (البقرة/ 23).

 

-        (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) (يونس/ 38).

 

ولو وقفنا عند السوَر واحدةً واحدة، وعرفنا أنّ عدد المواقع القرآنية الجديدة، والنقاط المتفرّدة المكتشَفة، يزيد في كلّ سورةٍ على عدد كلمات هذه السّورة، وأنّ في سورةٍ قصيرةٍ، كالفاتحة مثلاً، مكوَّنةٍ من (29 كلمة) ما لا يقلّ عن 58 من هذه "المستجدّات"، وفي سورة الناس (20 كلمة) ما لا يقلّ عن 33، وفي سورة الفلق (23 كلمة) ما لا يقلّ عن 38، وفي الإخلاص (15 كلمة) ما لا يقلّ عن 22، وهكذا في سائر السور، أدركنا حجم المفاجأة أو الصدمة التي أحدثها القرآن، بشخصيّته اللغويّة المتفرّدة، في نفوس العرب آنذاك، وتفهّمنا تأثير هذه الصدمة على عُتبة بن ربيعة حين سمع الرسول (ص) يقرأ عليه، أوّل مرّة، ثلاث عشرة آيةً، فلم يستوعب منها، وهو المذهول ممّا سمع، إلّا آخر آيةٍ قُرئت عليه.

 

هذه "الصدمة" اللغويّة التي أصابت العربي الأوّل كانت أشبه بالصدمة الكهربائية التي يُجريها الأطباء اليوم على مريضٍ توقّف قلبه عن الخفقان رجاء إعادة الحياة إليه. وكأنّ الله، تعالى شأنه وجلّت حكمته، أراد أن يعيد بهذه الصدمة اللغويّة الصاعقة الحياة إلى القلب الجاهلي الميّت في نفوس العرب أوّلاً، قبل أن يعودوا إلى القرآن فيسمعوه من جديد، ويستوعبوا معانيه، ويتحقّقوا من جِدّته وتميُّزه، ويسلّموا بإعجازه.

 

لقد لانت قلوب كثيرٍ منهم للّغة الجديدة واستسلمت حال سماعها للآيات الأولى من الوحي فاعتنقت الإسلام، بل إنّ قلوب بعضكم كانت أضعف من أن تتحمّل صدمةً بهذه القوّة، فما أن سمعوا آياتٍ من القرآن الكريم حتى شهقوا شهقةً فارقوا معها الروح. ويتحدّث السيوطيّ عن قائمةٍ صُنّفت في أولئك الذين ماتوا حال سماعهم للقرآن[1].

 

لا تعجبوا لهذا، فلعلّكم تستطيعون أن تتصوّروا معي حالةً من حالات الوفاة هذه. فماذا يمكن أن يحدث لأحدنا لو أنّ زميلاً له أخبره بأنّه حين يعود إلى بيته سيجد شخصيّةً كبيرةً تنام في فراشه – وليفترض أحدكم هذه الشخصية: قد تكون رئيس دولته أو ملِكها، أو ربّما رئيس أكبر دولةٍ في العالم –. فإذا عاد إلى منزله في المساء، وفتح الباب، وخطا إلى الداخل، وهو ما يزال ينفي عن ذهنه تماماً تصديق تلك المزحة السخيفة، يفاجأ برائحة عطرٍ غريبٍ لم يعتدها من قبل في بيته، فتبدأ الشكوك تساوره، ثمّ يمدّ رأسه من باب غرفة نومه ويفاجأ مرّةً أخرى بأنّ هناك كتلةً تتكوّم تحت غطاء سريره، فتتسارع نبضات قلبه، ويمدّ يده المرتجفة ليكشف الغطاء وإذا برأسٍ بشريّةٍ تشبه حقّا رأس تلك الشخصيّة، فيتبادر إلى ذهنه، وهو ما يزال يصُرُّ على أنّها مزحةٌ سخيفة، أنّ الرأس التي أمامه ما هي إلّا لعبةٌ أو تمثالٌ وضعه له أحدهم لإكمال المزحة، ولكنّه يصعق ويرتدّ إلى الوراء وهو يرى يداً بشريّةً تمتدّ من تحت الغطاء لتصافحه، ويفاجأ بصوتٍ، هو حقّاً الصوت الذي يعرفه لتلك الشخصية، يقول له: أنا فلان، يسعدني أن أراك يا بسّام؟..

 

تُرى كم منّا من يملك قلباً له من القوّة ما يكفي لتحمّل مثل تلك المفاجأة؟

 

فكيف بنا لو كانت المفاجأة مع الله؟ كيف سيكون شعور من سمع بأنّ فلاناً يدّعي أنّه نبيٌّ، وأنّ لديه ما يزعم أنّه كلامٌ بَعَث به إليه، ومع ملاكٍ عجيب، خالقُ السماء والأرض؟ قد يصرّ أوّلاً على استحالة وقوع أمرٍ كهذا، ثمّ يهبّ إلى ذلك "المدّعي" ليسمع منه ويدحض "أكذوبته" الكبيرة، فيسمعه يردّد الآية الأولى فتتسارع نبضات قلبه وهو يحسّ بشيءٍ غير عاديٍّ فيها، ولكنّه يصرّ على المكابرة، ثمّ يسمع الآية الثانية فيرتعش ويرتجف، وهو ما يزال يحاول إقناع نفسه بأنّها لا يمكن أن تكون لغة الله، ثمّ يسمع الثالثة فالرابعة، وتتوالى عليه الصدمة إثر الأخرى، حتى يبدأ بالانهيار ويجد نفسه فجأةً، وهو في محنة مواجهة اللغة الجديدة المحيِّرة، وجهاً لوجهٍ مع الله؟

 

هل استطعت أن أقرّب لكم صورة الصدمة اللغويّة الهائلة التي تلقّاها العربي الجاهلي عند سماعه لكلمات الوحي الأولى؟ وهل تتوقّعون أن تكون قلوب جميع العرب، على ما منحتها البادية والصحراء من قسوةٍ وتحمّل، قادرةً بالدرجة نفسها على تلقّي تلك الصدمة؟

     

الفن الأدبي الجديد – أدب السورة:

 

هذا "الفن الأدبيّ" الجديد الذي تنزّل على العرب فجأةً من السماء، لم يكن ينضوي تحت فنّ الخَطابة، وقد عرفه العرب تماماً وأبدعوا فيه، ولم يكن ينتمي إلى سجع الكهّان، وقد عرفه العرب أيضاً وتركوا لنا منه نماذج قليلةً وإن لم نكن متأكّدين من صحّة أيٍّ منها، ولم يكن ينتمي إلى فنّ الرسائل، وقد عرفه العرب في نطاقٍ محدودٍ جدّاً بسبب ندرة من يكتب بينهم، كما لم يكن ينتمي إلى فنّ الشعر، وقد عرفوه حقّ المعرفة، ووصل إلينا من إبداعاتهم فيه أكثر من عشرين ألف بيت. لم يكن الفنّ القرآني الجديد ينتمي إلى أيٍّ من هذه الفنون، بل كانت له شخصيّته الفنّية الخاصّة التي تقترح علينا أن نطلق عليه اسم "أدب السورة".

 

كان لـ"أدب السورة" الجديد مقوّماته الفنّية المختلفة، وألفاظٍ ومصطلحاتٍ وإيقاعاتٍ وسجعاتٍ (فواصل) وروابط لغويّةٍ وطرائق مستقلّةٍ في القراءة والتجويد.

 

الهوامش:

 

[1]- السيوطيّ، جلال الدين. الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص238.

المصدر: كتاب المعجزة (إعادة قراءة الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم)/ ج1

ارسال التعليق

Top