• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التقوى والحرية

حسين يزدي

التقوى والحرية
◄لابدّ للمرء حينما يريد الخروج عن نطاق حياته الحيوانية والعيش في إطار الحياة الإنسانية، أن يتحرك على ضوء بعض المبادئ المحددة. ولابدّ له حينما ينطلق على أساس هذه المبادئ، أن يتحرك في إطارها وأن لا يخرج عن حدود هذا الإطار. ولابدّ له أن يصرّ على البقاء ضمن الإطار ويحافظ على نفسه فيه حينما تحفزه بعض محفزات الهوى الآنية على كسر حاجز هذا الإطار. وهذه الحالة التي يحافظ من خلالها على حركته ضمن ذلك الإطار وعدم الانصياع لمحفزات الهوى، هي: "التقوى" ويجب أن لا نتصور انّ التقوى هي من خصوصيات التدين والطقوس الدينية كالصلاة والصوم، وانما هي ضرورة إنسانية، فالإنسان إذا ما أراد الانفلات من قبضة الحياة الحيوانية ونمط حياة الغاب، لابدّ له من الاتسام بالتقوى، ونرى استخدام اصطلاح التقوى الاجتماعية والتقوى السياسية في يومنا هذا، إلا أنّ التقوى الدينية لها قدسية ورصانة ورفعة من نوع آخر. ولا يمكن تحقيق تقوى راسخة وقوية إلا على أساس الدين، ولا يمكن تشييد بناء رصين وأساسي يمكن الاعتماد عليه إلّا على أساس الإيمان بالله تعالى...

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ...) (التوبة/ 109).

فالتقوى سواء كانت دينية إلهية أو غيرها، ضرورية للإنسانية، وتفرض بذاتها عليه التخلي عن بعض الأمور وتجنبها.

وعلى هذا الضوء ولا سيما وقد عبّر أئمة ديننا عن التقوى بالحصن والسور وغيرهما، فمن الممكن أن يتصور بعض من تطبّع على اسم الحرية ويشمئز من كلِّ شيء يبعث رائحة المحدودية، انّ التقوى هي أحد أعداء الحرية ونوع من الاغلال التي تكبّل الإنسان.

 

تحديد أم وقاية:

ولابدّ من أن نوضح هنا انّ التقوى ليست تحديداً للإنسان وانما وقاية له، وهناك فرق بين التحديد والوقاية. وحتى لو أطلقنا على هذه الوقاية اسم التحديد أو المحدودية، فهو تحديد بمثابة وقاية.

أمثلة على ذلك: الإنسان يُقبل على بناء البيوت والغرف والأبواب والنوافذ المحكمة، ويطوقها بالجدران والأسوار. فلماذا يقوم بذلك؟ للوقاية من لسع برودة الشتاء وعضّ حرارة الصيف، وللاحتفاظ بما لديه من أسباب الحياة في محيط آمن لا يقع إلا تحت تصرفه لا تصرف غيره. وهذا يكشف لنا عن انّ الإنسان يطوق نفسه غالباً بأربعة جدران ويحددها بهذه الحدود. فماذا يمكن أن نسمي عمله هذا؟ فهل يُعد البيت تحديداً للإنسان وامراً يتعارض مع حريته أم انّه وقاية له؟ وكذلك الأمر بالنسبة للباسه، فهو يضع في قدميه الحذاء وعلى رأسه القبعة وعلى جسمه الثوب فيحفظ بها أجزاء بدنه من الأوساخ والبرد والحر. فأي اسم يمكن أن نسمي به هذا العمل؟ وهل يمكن تسمية مثل هذه الأعمال الوقائية سجناً وقيداً ونعرب عن الأسف لأنّ في قدمه حذاء وعلى رأسه قبعة وعلى جسده ثوباً، ونتمنى أن يتحرر منها؟! وهل بامكاننا أن نطلق على البيت تحديداً وتناقضاً مع الحرية؟!

والتقوى للروح مثل البيت للحياة والثوب للبدن. وقد عبر القرآن الكريم عن التقوى باللباس، فقال في الآية 26 من سورة الأعراف: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ).

ولا يمكن اطلاق اسم التحديد على شيء ما إلا إذا حرم هذا الشيء الإنسان من موهبة أو سعادة. اما ذلك الأمر الذي يدرأ الخطر على الإنسان ويقيه من كلِّ ما يمكن أن يهدده فإنما هو وقاية وصيانة، لا تحديد وتقييد. والتقوى هي هكذا بالضبط. وقد اضفى الإمام عليّ (ع) طابع الصيانة عليها حينما قال: "ألا فصونوها وتصوّنوا بها"[1].

وللإمام عليّ (ع) كلام أسمى من هذا أيضاً عدّ فيه التقوى الإلهية عاملاً مهماً من عوامل الحرية وليست مجرد عامل لا يحدد الحرية ولا يحول دونها. وقد ورد هذا الكلام في الخطبة 228 من نهج البلاغة وقال فيه: "فإنّ تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كلِّ ملكة، ونجاة من كلِّ هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتُنال الرغائب".

فالتقوى تحرر الإنسان بالدرجة الأولى وبشكل مباشر على صعيد الأخلاق والمعنويات، فتحطم عنه اغلال العبودية والهوى والشهوات، وتكسر اصفاد الجشع والطمع والحسد والشهوة. كما انها تلهم الإنسان الحرية على صعيد الحياة الاجتماعية. فالعبوديات الاجتماعية انما هي من نتائج العبودية المعنوية. فذلك الذي يعبد المنصب والمال والمقام لا يمكن أن يكون حراً على الصعيد الاجتماعي. ولهذا ما أصدق وصف الإمام عليّ (ع) للتقوى بأنها "عتق من كلِّ ملكة"، أي انها تمنح الإنسان كافة أنواع الحرية. وهذا يعني انها ليست قيداً أو عاملاً محدداً، وإنما هي ذات الحرية والتحرر[2].

 

برنامج الأنبياء (عليهم السلام):

الحرية المعنوية، تُعد أعظم برامج الأنبياء، وتزكية النفس تعني بالأساس الحرية المعنوية: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10). والخسارة الكبرى في عصرنا الراهن أن يتحدثوا عن الحرية دائماً، إلا انّهم لا يعنون سوى الحرية الاجتماعية. فهم يلتزمون الصمت ازاء الحرية المعنوية، ولهذا لا يبلغون حتى الحرية الاجتماعية. وقد حدثت في عصرنا جريمة كبرى في قالب الفلسفة والأنظمة الفلسفية، وتتمثل في تجاهل الإنسان والشخصية الإنسانية وكرامة الإنسان المعنوية. انهم يتجاهلون الحقيقة التي أشار إليها الله تعالى حول الإنسان بقوله: (نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (الحجر/ 29). انّهم ينكرون هذه الحقيقة ويقولون انّ الإنسان ليس موجوداً من طبقتين: عليا ودنيا، بل انّه لا يختلف بالأساس عن الحيوان، وانما هو حيوان. والحياة ليست سوى تنازع على البقاء، ولا شيء آخر سوى هذا التنازع. أي انّ الحياة ليست سوى سعي الفرد وصراعه من أجل نفسه ومصالحه، لا غير! أتعلمون كم ألحق هذا الكلام من أضرار بالبشرية؟! انّهم يقولون انّ الحياة ليست سوى حرب وميدان حرب! وهناك كلمة أخرى يتصور البعض انها صحيحة ومعقولة، تقول: "الحقّ يؤخذ ولا يُعطى"، في حين أنّ الحقّ يؤخذ ويُعطى. فحينما يُقال أنّ الحقّ يجب أن يؤخذ ولا يُعطى من قبل أحد، إنما يُقال لك من خلاله عليك أن تأخذ الحقّ لا أن تعطيه، وعلى صاحب الحقّ أن يأتي ليأخذ الحقّ منك بالقوة، فإن استطاع أن يأخذه أخذه، وإن لم يستطع، لم يستطع! بينما لم يأت الأنبياء للتحدث بمثل هذه الفكرة، إنما قالوا: الحقّ يؤخذ ويعطى على حد سواء؛ أي انهم أوصوا المظلوم وصاحب الحقّ المنتهك بالانطلاق لاستعادة حقه، وحملوا الظالم على الانتفاض عن نفسه وإعطاء الحقّ لصاحبه. وقد أفلح الأنبياء في مهمتهم هذه[3].

وللإمام عليّ (ع) كلمة قيمة في التقوى مثل سائر كلماته، ينظر إليها البعض على انها قديمة جدّاً! وهي: "إنّ تقوى الله مفتاح سداد وذخيرة معاد وعتق من كلِّ ملكة ونجاة من كلِّ هلكة"[4]. فتقوى الله، مفتاح كلّ طريق قويم، ولا يمكن للمرء الانطلاق في الطريق القويم بدون أن يكون لديه مفتاح التقوى. انما سيسير بدونها في طريق الضلال. وليس لدى الإنسان ما يحمله معه إلى الآخرة بدونها أيضاً، كما ليس لديه الحرية لأنّها "عتق من كلِّ ملكة"، أي انها تعتق الإنسان من كلِّ عبودية.

 

الحر الحقيقي:

لابدّ للإنسان أن يكون حرّاً في وجوده وروحه كي يكون قادراً على إعطاء الحرية للآخرين. فمن هو الرجل الحر الحقيقي في العالم؟ انّه الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) ومن هم من طرازه، وأولئك الذين تخرجوا من مدرسته، لأنهم تحرروا في بادئ الأمر من عبودية النفس.

وقد قال عليّ (ع):

"أأقنع من نفسي بأن يُقال أمير المؤمنين؟"[5].

"وكيف أظلم أحداً لنفس يُسرع إلى البِلى قفولها ويطول في الثرى حلولها"[6].

فذلك الذي هو مثل عليّ أو يتابع علياً على الأقل، بامكانه أن يكون حراً وملهماً للحرية. كان (ع) يحاسب نفسه وروحه، ويمسح بيده على لحيته الشريفة في محراب العبادة ويقول: "يا دنيا غري غيري"[7].

ويطلّق هذه الدنيا ثلاثاً، ويطرد عنه الصفراء والبيضاء، أي الذهب والفضة. وذلك الذي يحترم حقوق الناس وحريتهم عن حقيقة لاعن نفاق، إنما ينطلق في ضميره نداء سماوي يدعوه لذلك. ولا شك في انّ شخصاً لديه مثل هذه التقوى وهذه المعنوية وهذا الخوف من الله، حينما يصبح حاكماً على الناس والناس محكومين له، فالشيء الوحيد الذي لا يشعر به هو: انّه حاكم والناس محكومون.

فالناس وانطلاقاً من خلفياتهم الذهنية أخذوا يتحفظون منه، فقال لهم: "ولا تتحفظوا مني بما يُتحفظ به عند أهل البادرة". فحينما كان ذاهباً إلى حرب صفين أو حينما كان عائداً منها، مر بمدينة الأنبار – وهي مدينة عراقية في الوقت الراهن وكانت مدينة إيرانية من قبل – فخرج الإيرانيون الذين كانا فيها لاستقباله وهم يعتقدون انّه خليفة السلاطين الساسانيين، لهذا ما أن وصلوا إليه حتى أخذوا يهرولون أمام موكبه. فنادى عليهم الإمام (ع) وسألهم عن سبب ذلك. فأخبروه انّ هذا العمل تعبير عن الاحترام، وقد كانوا يقومون به لسلاطينهم وأمرائهم. فمنعهم (ع) من ذلك وأخبرهم انّ هذا العمل يذلكم. فلماذا تذلون أنفسكم أمامي وأنا خليفتكم؟ فأنا واحد منكم لا اختلف عنكم. هذا فضلاً عن انكم تسيئون إلي بهذا العمل ولا تحسنون، فقد يداخلني الغرور لا سمح الله فأتصور انِّي أفضل منكم.

فالرجل الحر هو ذلك الذي يتمتع بالحرية المعنوية، وأقبل على النداء القرآني (أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ) (فصلت/ 14)، فلم يعبد غير الله أحداً. فعلينا أن لا نعبد أحداً إلّا الله، ولا نعبد أي أحد أو قوة أو شيء غيره، لا نعبد الإنسان، ولا الحجر، ولا المدر، ولا السماء ولا الأرض، ولا هوى النفس، ولا الغضب، ولا الشهوة، ولا الطمع، ولا حب الرئاسة، إنما نعبد الله فقط، وحينئذ سيمنّ علينا بالحرية المعنوية.

وللإمام علي (ع) خطبة طويلة في حقوق الوالي على الرعية وحقوق الرعية على الوالي، في ودي أن أعرض عليكم مقاطع منها كي تعرفوا من هو الحر الحقيقي وما هي الروح التي يحملها. وهل بإمكانكم أن تجدوا شخصاً بمثل هذه الروح في العالم؟ إذا وجدتم فأخبروني من هو؟

بحث الإمام في هذه الخطبة بعض القضايا وتحدث ببعض الكلمات. فانظروا من هو الذي تحدث بهذه الكلمات؟ انّ الوالي والحاكم هو الذي تحدث بها. ونحن نجد في عالمنا المعاصر ان أقصى ما يمكن أن يقوله الآخرون للناس: لا تكونوا مع حكامكم بهذا الشكل، كونوا احراراً. في حين يقول عليّ (ع): "لا تكلموني بما تُكلَّم به الجبابرة". أي لا تستخدموا معي تلك المفردات والاصطلاحات التي كنتم تستخدمونها مع الجبابرة والتي تذلون بها أنفسكم وترفعونه إلى العرش.

وضع الفكر تسعة كراسي سماوية

كـي يقبـل ركـاب قـزل ارسلان

لا تخاطبوني بمثل هذه اللغة أبداً، فخاطبوني بنفس الكلمات التي تخاطبون بها الآخرين. ويؤكد عليهم أيضاً: "ولا تتحفظوا مني بما يُتحفظ به عند أهل البادرة"، إذا ما رأيتموني غضباً في يوم ما أو مستاءً وأطلقتُ كلاماً فيه شيء من الحدة، فلا يهزنكم ذلك، وانتقدوني انتقاد الرجال. وقال لهم أيضاً: "ولا تخالطوني بالمصانعة". أي لا تتعاملوا معي في إطار المداهنة فتقولوا لكلِّ ما أقول نعم ولكلِّ ما أعمل صحيح. "ولا تظنوا بي استثقالاً في حقِّ قيل لي" أي لا تتصوروا اني أستاء أو أنزعج من كلمة الحقِّ التي تفضون بها إليّ، وانتقدوني انتقاداً قائماً على الحقِّ، فذلك لا يغيظني أبداً وانما سأفتح لسماعه صدري. "ولا التماس إعظام لنفسي"، أي لا تتصوروا إني أحب أن أُعظم انطلاقاً من كوني خليفة وكونكم رعية، أبداً، فأنما امقت التملق والمدح.

ويعرض الإمام عليّ (ع) في آخر المطاف قاعدة عامة يقول فيها: "فإنّه من استثقل الحقَّ أن يُقال له أو العدل أن يُعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه".

 

عدم رباطة جأش أنوشيروان:

يقول كريستان سان: استدعى أنوشيروان بعض رجاله للتشاور معهم في قضية ما. وقد أبدى وجهة نظره في تلك القضية وسأل الآخرين أن يبدوا وجهات نظرهم أيضاً فقالوا: الرأي ما رأيت. غير انّ أحد الكتّاب البؤساء انطلى عليه الأمر وتصور انهم قد دعوا للإشارة حقاً فقال: لو سمحتنم لي بإبداء وجهة نظري. ثمّ عبّر عن وجهة نظره وأشار من خلالها إلى بعض مساوئ رأي أنوشيروان. فغضب أنوشيروان وقال له: أيها الوقح! أيها الصلف! ثم أمر بعد ذلك بمعاقبته، فأخذوا يضربون رأسه بالمقاليم حتى مات.

وهنا يتبين لنا مدى صدق عبارة الإمام عليّ (ع) السابقة والتي تؤكد صعوبة وثقل العمل بالحقِّ من قبل أولئك الذين يستثقلون سماع كلمة الحقِّ.

ويوصي الإمام في آخر خطبته الناس: "فلا تكفوا عن مقالة بحقِّ أو مشورة بعدل"[8].

فالإمام عليّ (ع) نموذج كامل للرجل الحر على الصعيد المعنوي، والذي يمنح الحرية الاجتماعية للآخرين وهو يشغل منصب الحاكم.

الهوامش:


[1]- نهج البلاغة، الخطبة 189.

[2]- عشرة أحاديث، ص27-30.

[3]- الحرية المعنوية، ص40 و41.

[4]- نهج البلاغة، تحقيق فيض الإسلام، الخطبة 221.

[5]- نهج البلاغة، فيض الإسلام، الكتاب 45.

[6]- المصدر السابق، الخطبة 215.

[7]- المصدر السابق، الحكمة 74.

[8]- نهج البلاغة، فيض الإسلام، الخطبة 207، ص686. 

المصدر: كتاب الحريّة عند الشهيد المطهري

ارسال التعليق

Top