• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصمت أفصح أحياناً

أ. د. محمود عباس

الصمت أفصح أحياناً

◄س: بعض الناس يحب الثرثرة، وتغالبه شهوة الكلام. فكيف ترون الصمت أفصح أحياناً؟

من المعروف أنّ شهوة الكلام لا تقل أثراً وخطراً عن شهوة الطعام فإذا كان فينا من يستهويه الطعام فيظل يأكل ويزدرد ويبتلع ولا يمضغ حتى تختنق أنفاسه فلا يبقى في بطنه موضع لشربة ماء ففينا كذلك من يستهويه الكلام ويحب الثرثرة فلا يصمت ولا يسكت حتى تضيق صدور الحاضرين والسامعين وتختنق أنفاسهم من هول ما يلقى إليهم حتى يقول السامع ليته سكت، فشهوة الكلام كشهوة الطعام خانقة مضرة مؤذية وقد توقع الإنسان فيما يسقط المروءة أو يدعو إلى الندم، (فمن كثر لغطه كثر غلطه) ولهذا حذرنا الإسلام بقرآنه وسنة نبيه (ص) من كبوة اللسان وكثرة اللغط وما يجره الكلام على الإنسان من سوء العاقبة (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور/ 24)، بل دعانا القرآن الكريم إلى أن نتحفظ عند كل مقال (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق/ 18)، كما حذرتنا السنة المطهرة من حصائد الألسنة التي تكب الناس في النار ومن ثمّ كانت دعوة النبي (ص) لأصحابه ولكل مسلم "امْلِكْ عَلَيْكَ لِسانَكَ"[1]، ويسأله أحد الحاضرين يا رسول الله: هل نحن مؤاخذون بما نتكلم؟ فقال (ص): "وَهَلْ يَكُبُّ الناسَ في النَّارِ على وُجوهِهِمْ أو على مناخِرِهم إلّا حَصائِدُ ألْسِنَتِهِمْ"[2]، وقد سرى هذا الأدب في سلوك الجماعة المسلمة فكان فيهم من يلوذ بالصمت إذا لم يجد في الكلام خيراً بل كان فيهم من يرى الصمت نجاة من كل سوء فلا يشارك في لغو باطل ولا ثرثرة فارغة ولا يدخل في جدل عقيم (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص/ 55)، هكذا وصفهم ربهم بحسن السلوك في السيطرة على اللسان والاستعانة بالصمت من شر الكلام. والمؤسف أن يكثر في عصرنا من يجعلون ألسنتهم حبلاً مرخى في يد الشيطان يصرفه كيف يشاء. فيخوض مع الخائضين، ويلهو بلسانه مع اللاهين. ويجادل بغير علم، ويكثر الثرثرة من غير ضرورة تدعو إليها ويقل فينا اليوم من يأخذ نفسه بالصمت حيث لا ضرورة إلى الكلام فشهوة الكلام عنده غالية والنفس أمارة قد تزين له حلاوة الكلمة وفصاحة المقالة فيعجب بالكلام ويغتر بالمقال في موضع لو صمت فيه لكان خيراً له. ولهذا علمنا أسلافنا وحكماؤنا كيف نقهر شهوة الكلام إذا كان الصمت خيراً لنا وكيف نقهر شهوة الصمت إذا كان الكلام ضرورة فقالوا: (إذا أعجبك الكلام فاصمت وإذا أعجبك الصمت فتكلم).

ومعناه إذا أصابك العجب بكلامك وحسن بيانك فاصمت حتى لا يصيبك الغرور وإذا لم يكن ثمة ما يستدعي الكلام فلا تستجب لشهوته فإنّ الصمت أفضل، أما إذا أعجبك الصمت واستهواك السكوت في موقف يستدعي النطق بكلمة الحق فاعلم أنّ الصمت سلوك سلبي يجب أن تقاومه بالكلام، فالساكت عن الحق شيطان أخرس. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) (المائدة/ 29).

س: ربى الإسلام أتباعه على حسن العمل وخوفهم فضول الكلام. كيف انعكست هذه التربية على سلوك الأخيار من أوائلنا؟

لقد ربّى الإسلام أبناءه على حسن العمل وخوفهم فضول الكلام وكثرة الجدل فكان الواحد منهم يسأل نفسه قبل أن يتكلّم فإن وجد داعياً إلى الكلام تكلم وإلا فالصمت أولى، بل كانوا يرون أنّ الإعراض عن الكلام حيث لا ضرورة إليه عبادة وكانت لديهم قناعة بأن (مقتل المرء بين لحييه وفكيه)، وقد علمهم رسول الله (ص) أنّ الجنة مضمونة لمن يحفظ فرجه ولسانه إذ يقول (ص): "مَن حَفِظَ ما بَيْنَ لحيَيْهِ وفخِذَيْهِ فَلَهُ الجَنَّةُ"[3]، ولهذا كان أبو بكر (رض) يأخذ بطرف لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد، أي أوقعني في المهالك، وعلى هذا الأدب والسلوك الحضاري الراقي نشأ المسلمون فعرف الواحد منهم متى يتكلم ومتى يصمت حتى كان فيهم من يؤثر الصمت الطويل ويؤثر السمع على الكلام ليفهم ويتعلم، فهذا أعرابي كان يجالس الشعبي ساكتاً لا يتكلم فسئل عن طول صمته فقال: "أسمع فأعلم وأسكت فأسلم" والإنسان الذي لا يحسن السمع ليتعلّم من الصعب عليه أن يحسن الكلام لأنّ الحق جل في علاه جعل السمع للإنسان من وسائل المعرفة والعلم (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل/ 78)، والإنسان الذي تطغى عليه شهوة الكلام فلا يحب أن يسمع أو يصمت، ولا يعرف متى يتكلم ومتى يسكت هو إنسان معجب بنفسه وطلاقة لسانه وهذا شر ما يعطى الإنسان كما يقول (ص): "ما أعطي العبد شراً من طلاقة اللسان" فجميل أن تكون صاحب بيان أو فصيح اللسان حين تخطب أو تتكلم وجميل كذلك أن تكون صاحب قلم سيال، ولكن احذر أن يداخلك الغرور بما تقول أو يسيطر عليك العُجب بما تكتب فإن شعرت بشيء من هذا فامسك (وقل أعوذ بالله من شر نفسي)، وتمثل سلوك عمر بن عبدالعزيز كان إذا خطب على المنبر فخاف العُجب قطع الكلام وعدل إلى غيره مما لا عجب فيه، وإذا كتب كتاباً فخاف العُجب في كتابته مزّقه وقال: "اللّهمّ إني أعوذ بك من شر نفسي"، فنعوذ بالله أن نكون ممن قال الله فيهم (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) (محمد/ 30).

  الهوامش

[1]- أخرجه أبو داود (4/ 124)، برقم (4343) من حديث عبدالله بن عمرو (رض).

[2]- أخرجه الترمذي (5/ 11)، برقم (2616) من حديث معاذ بن جبل (رض).

[3]- أخرجه الطبراني في الكبير (6/ 190)، برقم (5970) من حديث سهل بن سعد (رض).

 

المصدر: كتاب القرآن وقضايا العصر

   

ارسال التعليق

Top