• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العلاقة الأخلاقية بين الله والإنسان

توشيهيكو إيزوتسو/ ترجمة: د. هلال محمّد الجهاد

العلاقة الأخلاقية بين الله والإنسان

◄*  إله الرحمة:

إنّ أبرز ميزات التفكير الديني الذي نشأ في العالم السامي، سواء منه الخاص باليهودية أو المسيحية أو الإسلام، أنّ مفهوم الإله أخلاقيٌّ، بشكل جوهري. ومادام الله ذاته في هذه النظرة إلهاً أخلاقياً من ناحية الجوهر، فإنّ العلاقة بين الله والإنسان لابدّ من أن تكون ذات طبيعة أخلاقية أيضاً.

وبتعبير آخر، إنّ الله يتصرّف تجاه الإنسان على نحو أخلاقي، أي بوصفه إله العدل والخير. والمتوقع من الإنسان بناءً على ذلك أن يستجيب لهذه المبادرة الإلهية بطريقة أخلاقية أيضاً. وهي لحظة حاسمة ودقيقة في بنية دين مثل الإسلام أن يستجيب الإنسان حقّاً بالطريقة الأخلاقية الصحيحة. إنّها ليست مجرد مسألة الخير أو الشر الإنساني كما كانت في العصر "الجاهلي". فالأخلاق الآن جزء متمم للدين، والدين كلّه متأصل فيها، ويعتمد بالتأكيد على استجابة الإنسان الأخلاقية.

ومن وجهة النظر هذه، يتكشّف إله القرآن عن وجهين مختلفين يناقض أحدهما الآخر بصورة أساسية، وهذان الوجهان بالنسبة إلى الذهن المؤمن الورع ليسا سوى جانبين مختلفين للإله نفسه، لكنهما سيبدوان للعقل المنطقي العادي متناقضين. والواقع أنّ العديد من المفكِّرين عانوا كثيراً من أجل التوفيق بين هذين الوجهين، والمشكلة معروفة في كلٍّ من القرآن والعهد القديم.

يُبيِّن الله ذاته في أحد هذين الوجهين إلهاً للخير والكرم المطلقين، إلهاً للحبّ والرحمة التي لا تنتهي، الإله الرحمن الرحيم الغفور. ويشار إلى وجه الله هذا في القرآن بكلمات مفتاحية، مثل: "نعمة" و"فضل" و"رحمة" و"مغفرة"، وما يماثلها.

وقد نوقشت هذه المشكلة وبحثت بتفصيل متعمق من قبل كلّ الذين درسوا القرآن والإسلام من وجهة النظر الدينية، حتى إنِّي لا أجد شيئاً أضيفه إليها تقريباً.

وثمة نقطة واحدة فقط ينبغي الإشارة إليها، وهي ذات صلة مباشرة أكثر بهدف هذه الدراسة. فحقيقة أنّ الله يتصرّف تجاه الإنسان بطريقة رحيمة للغاية، ويبدي نحوه كلّ أنواع الخير والرعاية اللطيفة على شكل "آيات"، هذه الحقيقة الأساسية تحدد مسبقاً طريقة الاستجابة الصحيحة الوحيدة الممكنة من جانب البشر. وتلك الاستجابة هي "الشكر" على كلّ النعم التي وهبها الله لهم. لكن هذه الاستجابة لا يمكن تصوّرها إلّا على أساس الفهم والتقييم الصحيحين لـ"الآيات" الإلهية. ولن يكون "الشكر" بهذا الفهم ممكناً إلّا عندما يستوعب الإنسان معنى "الآيات".

ومن هنا، أصبح "الشكر" مفهوماً دينياً لأوّل مرّة في تاريخ الأفكار عند العرب. وستتبيّن الأهميّة البالغة لهذا المفهوم الجديد من حقيقة أنّه - أي الشكر - يمثل القسيم الإنساني، إذا جاز القول، للخير الإلهي الجوهري، وهو على هذا النحو يرتبط من دون انفصال مع واحد من أكثر الأوجه تمييزاً للطبيعة الإلهية. كما تتضح أيضاً من خلال حقيقة أنّ بين "الشكر" و"الإيمان" مسألة خطوة واحدة لا أكثر، إلى حدّ أنّ "الشكر" في مواضع كثيرة من القرآن مرادف تقريباً لـ"الإيمان".

إنّ نقيض "الشكر" هو "الكفر" الذي يعني بدقة "الجحود" أو "إنكار الفضل". ومن دون الحاجة إلى مزيد من التوضيح، سيكون من السهل تماماً فهم الكيفية التي اكتسب بها مفهوم "الجحود" - هذا الذي لم يكن له شأن بالدين مطلقاً قبل الإسلام - أهميّة دينية خصوصية في النظام القرآني.

لكن بنيته المفهومية نفسها كانت موجودة وراسخة بقوّة في "الجاهلية"، وذلك قبل أن يصير مفهوماً بهذا المعنى الديني. ولا عجب، فحتى في العلاقات الدنيوية العادية بين الناس تتطلب الأخلاقُ الإنسانية في كلّ مكان تحقق هذه البنية فعلياً. فعندما يُفضِلُ عليك شخص ما، أعني عندما يهبك "نعمة"، فإنّ ردّ فعلك الطبيعي تجاهها ينبغي أن يكون الشكر والامتنان. إنّ هذا واحد من القوانين الأساسية الحاكمة للعلاقات الأخلاقية بين البشر. ولكن ثمة أيضاً حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أنّ هناك ردّ فعلٍ اختيارياً ينتهك هذا القانون الأخلاقي الأساسي عيناً.

ولسوء الحظ، فإنّ الطبيعة الإنسانية تحرِّض الإنسان وتحثّه على التصرّف غالباً على هذا النحو، كما يقول القرآن نفسه: (إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (العاديات/ 6)، (إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) (الزخرف/ 15).

عليه، فإنّ "الجحود" أو "إنكار الفضل"، سواء أكان دينياً أم غير ديني، اسم لهذه الطريقة من استجابة الإنسان للخير الذي يقدِّمه له شخص آخر، وهذه البنية تظلّ كما هي، بغض النظر عمّا إذا كانت النعمة الممنوحة دنيوية الطبيعة أو دينيّتها. وقد اعتاد العرب "الجاهليون" أيضاً على العيش وفقاً لما تمليه القاعدة الأخلاقية العليا المتمثلة في "شكر النعمة".

والبيت التالي لشاعر هُذليّ يكشف عن هذه البنية المفهومية بشكل واضح ومختصر جداً:

فإن تشكروني تشكروا ليَ نعمةً ***** وإن تكفُروني لا اكلِّفكم شُكري

ويقول سَلَمة بن الخُرشُب مشيراً إلى فرس ذات قوائم خارقة في سرعتها أنقذت حياة رجل من خطر الموت:

فاثنِ عليها بالذي هيَ أهلُهُ ***** ولا تَكفُرَنها، لا فلاحَ لكافرِ

ويقول عنترة على نحو أكثر إحكاماً:

فَلا تَكفُرِ النُعمى واثنِ بِفَضلِها ***** وَلا تَأمَنَن ما يُحدِثُ اللهُ في غَدٍ

وقد أخذ القرآن هذه البنية كما هي تماماً، وارتقى بها إلى المستوى الديني، مثلما فعل في كثير من الحالات الأخرى. فقد ظلت البنية أو الصيغة المفهومية نفسها بالضبط، لكنّها الآن دفعت للعمل على المستوى الأرقى للعلاقة الروحية بين الله والإنسان. فأصبحت "النعمة" في هذه الحالة النعمة الإلهية التي يستجيب لها الإنسان إمّا على نحو صحيح بـ"الشكر" أو على نحو خاطئ بـ"الكفر".

وطبيعي تماماً أن يتطوّر مفهوم "الشكر" في هذا الحقل الدلالي الخاص إلى مفهوم "الإيمان" بسهولة. وتبعاً لذلك، يتحوّل مفهوم "الكفر" نفسه، إذ يفقد بسرعة معناه الدلالي الأصلي "الجحود"، إلى مفهوم "عدم الإيمان". ومن هنا يصبح في تضاد مفهومي مباشر مع "الإيمان": (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ) (آل عمران/ 86)، و(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (الأعراف/ 76).

إنّ التحوّل الدلالي لـ"الكفر" من "الجحود" إلى "عدم الإيمان" كان أكثر تأثراً، وبصورة كلية، من تحوّل "الشكر" من "الامتنان" إلى "الإيمان"، ذلك لأنّ وجود كلمة "الإيمان" ذاتها في هذه الحالة الأخيرة، جعل من غير الضروري، أو بالأحرى أعاق نموّ الكلمة الأخرى التي كانت ستحلّ محلّها، بينما في حالة "عدم الإيمان" لم يكن ثمة كلمة كهذه للمفهوم سابقة الوجود. ومن هنا دخل "الكفر" فوراً، إذا جاز التعبير، واحتل المقعد الشاغر.

 

 * إله العقاب:

لأولئك الذين يختارون "الكفر" بدلاً من "الشكر" أو "الإيمان"، أعني الذين يرفضون بعنادٍ التواضعَ أمام الله، أيضاً لأولئك العابثين اللامبالين بطبيعتهم، الذين يقضون حياتهم في اللهو واللعب والضحك والعربدة، غير عابئين إطلاقاً بالحياة الآخرة، وباختصار "الغافلون"؛ لأولئك الناس، يظهر الله وجهه الآخر.

إنّ الله هنا هو إله العدالة الصارمة التي لا تضعف، وإله "الحساب العسير" في يوم القيامة "الشديد العقاب" و"ذو الانتقام" الذي يصيب "غضبه" كلَّ مَن يقع عليه بالدمار.

وقد تمّ بحث هذا الوجه من الله أيضاً، وبشكل تام، من قبل كلّ مَن درس القرآن من وجهة النظر الدينية، إلى درجة أنّي لا أجد أيّة ضرورة حتى للإشارة إليه الآن. إذن، ساتناول هنا الجانب الإنساني من المسألة فقط، أعني الكيفية التي ينبغي على الإنسان أن يستجيب بها لهذا الوجه وفقاً للقرآن.

إنّ النقطة الحيوية لكلّ هذا هي المفهوم الأخروي "يوم القيامة"، إذ يهيمن الله على كلّ شيء بوصفه الحاكم الصارم الدقيق العادل الذي لا يقف البشر أمامه إلّا صامتين منكّسي الرؤوس. ويجب أن تكون صورة اليوم الفاصل قائمة دوماً أمام عيون البشر، على ذلك النحو الذي يُفترض به أن يؤدي بهم إلى الجدّية في الحياة، بدلاً من الغفلة والطيش، وهذه هي السمة السائدة للتقوى الإسلامية. ولا يمكن لكلّ مَن يقرأ القرآن أن يخطئ أنّ سمة الجدّية المطلقة في الحياة، المتأتية من قرب مجيء يوم القيامة، كانت قوية على نحو خاص في المرحلة المكّية. وهذه هي "التقوى" في معناها الأصلي.

وقد فقدت كلمة "تقوى" طابعها الأخروي إلى حدٍّ كبير بمرور الزمن، وصارت في النهاية تعني ما تعنيه كلمة "وَرَع" فعلياً. لكنّها ظلت من حيث الأصل تتضمّن طابعاً خصوصياً جدّاً يرتبط بمفهوم يوم القيامة، مباشرة: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة/ 2).

إنّ اجتماع الكلمات الثلاث: "اتّقاء" و"الله" و"العقاب" في هذه العبارة القصيرة يكشف بوضوح بالغ البنية الأساسية لـ"التقوى" القرآنية، في شكلها الأصلي. إنّ "التقوى" بهذا المعنى مفهوم أخروي، يعني بما هو كذلك "الخوف الأخروي من الحساب الإلهي".

ومن هذا المعنى الأصلي، يُشتق معنى "الخوف الورع من الله"، ثمّ يأتي بعد ذلك في النهاية معنى "الورَع" الخالص البسيط.

والآن ماذا كانت كلمة "تقوى" (أو بالأحرى الفعل اتّقى) تعني في "الجاهلية"؟ علينا أن نلاحظ في المقام الأوّل أنّ الكلمة لم تكن شائعة الاستعمال بالمفهوم الديني في العصر "الجاهلي" على الإطلاق، ربّما باستثناء جماعات الحنفاء الخاصّة، وعند أولئك الذين كانوا تحت تأثير اليهودية بشكل واضح، مثل الشاعر زهير بن أبي سلمى. إنّ كلمة "متّق" (من تقوى)، أي "المؤمن الورع" بالمعنى التوحيدي ترد في شعر الشاعر الحنيف أُمية بن أبي الصلت، وكذلك في ديوان لبيد الذي اعتبره حنيفياً في نظرته الدينية تقريباً.

ويُقدِّم القرآن أيضاً مثالاً مثيراً استعمل فيه الفعل "اتّقى" بالمعنى المادّي نفسه بالضبط، وليس الروحي: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الزمر/ 24).

إنّ المضمون الساخر لهذه الآية أنّ يدي الكافر اللتين يحمي بهما نفسه عادة ضدّ الخطر مقيدتان إلى رقبته في ذلك اليوم، لذا فهو لا يملك إلّا وجهه ليحمي نفسه به. وقد تركت الجملة نفسها غير منتهية، والمعنى الكامل هو شيء ما كهذا: أيكون رجل كهذا مثل أولئك الذين هم بأمانٍ تامٍّ من العذاب؟

وفي هذا السياق، يعني "الاتّقاء" أن يحمي المرء نفسه من العقاب الإلهي الموشك على الوقوع، بأن يضع بينه وبين نفسه درعاً واقياً من الطاعة والإيمان الورع. وقد أكد هذا التفسير ما يذهب إليه مؤلفا تفسير الجلالين حيث يعني الفعل "اتّقى" وفقاً له: أن تحمي نفسك من العقاب الإلهي بأن تضع بينه وبين نفسك "ترس العبادة". إنّ هذه البنية الأساسية جليّة في آيات مثل هذه: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة/ 24)، (وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) (البقرة/ 48)، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ) (هود/ 103)، و(قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأنعام/ 15).

والآية التالية ذات أهميّة خاصّة في هذا الصدد، لأنّها تُبيِّن العلاقة الدلالية الصميمة القائمة بين الطابع النفساني للخوف والتقوى: (َهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) (الزمر/ 16).

لكن، ومع مرور الزمن، أصبح هذا الطابع الأخروي القويّ أكثر ضعفاً، حتى بلغ معنى "التقوى" في النهاية المرحلة التي لم يعد له عندها أيّة صلة واضحة بفكرة يوم القيامة والخوف منه. وصار المكافئ الأقرب لـ"الورع". وعند هذه المرحلة، لم يعد لـ"التقوى" شأن تقريباً بمفهوم "الخوف"، وهذا هو السبب في أنّ كلمة "متّقٍ" - صيغة اسم الفاعل من "الاتّقاء" - غالباً ما تستعمل في القرآن بمعنى "المؤمن الورع" في تضاده مع "الكافر".

لقد أُعطي "المتّقي" عند هذه المرحلة في القرآن نفسه تعريفاً لا يختلف من حيث الجوهر عن تعريف "المسلم" و"المؤمن". ففي سورة البقرة، عُرِّف بأنّه الرجل الذي "يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة بانتظام، وينفق ممّا أعطاه الله، ويؤمن بما أنزل على النبيّ محمّد (ص)، وما أنزل قبله، ولديه إيمان راسخ بالآخرة".

ومن المثير تماماً أن نلاحظ انعكاس هذا في الأدب غير القرآني، في المرحلة المبكرة للإسلام.

يقول عبدة بن الطبيب، أحد معاصري النبيّ (ص)، في قصيدة له:

أُوصيكُمُ بِتُقى الإلهِ فإنّه ***** يُعطي الرغائبَ مَن يشاءُ ويمنعُ

وهنا، لا شأن لـ"التقوى" على الإطلاق بالأخرويات والخوف من العقاب، كما نرى. ويتضح هذا من خلال الإشارة إلى الخير والنعمة الإلهية بوصفهما السبب الذي من أجله يجب على الإنسان الالتزام بـ"تقوى" الله.

 

* الوعد والوعيد:

لقد رأينا في ما سبق أنّ الله في القرآن يُظهر للناس وجهين مختلفين تماماً، وفق ما يكون عليه الناس، خيِّرين أم أشراراً، بالمعنى الديني:

1- وجه مبتسم يبشر بمستقبل مشرق وأُمور سارّة قادمة.

2- وجه غاضب ينذر بما هو مخيف ومهلك.

وبهذا المعنى، ترتبط المسألة مباشرة بالجانب التواصلي للعلاقة بين الله والإنسان.

إنّ الله يوصل إلى الإنسان من خلال هذين الوجهين المختلفين أمرين مختلفين يتعلقان بالمصير النهائي للإنسان. ويمكن تحليل البنية المفهومية للثنائي الأوّل (وعد – أوعد) بالطريقة التالية:

1- ثمة على المسرح شخصان (أ) و(ب) (أي كلمة علاقة بين شخصين).

2- (أ) يقول لـ(ب) شيئاً ما. هذا يعني أنّ المفهوم الذي نناقشه مفهوم لغوي، إلّا أنّه ليس مفهوماً لغوياً عادياً، بل هو صيغة مخففة لـ"القسَم".

3- إنّ مضمون هذه المعلومة يتعلق بشيء ما سيفعله (أ) وسيؤدي إلى وضع (ب) في موقف عصيب جديد، بشكل قسري محتوم. وتقدم هذه المعلومة بصيغة شرطية: إذا قام (ب) - أو لم يقم - بفعل كذا وكذا، عندها سيحدث له كذا وكذا.

4- وإذا حدث أن كان هذا الموقف الجديد ساراً ومبهجاً ومقبولاً من وجهة نظر (ب)، فالأمر عندها هو "وَعَدَ" (الصيغة الإسمية: "وَعْد"). وإذا كان على العكس، وكان شيئاً مؤذياً ومدمّراً وغير مقبول، فهو عندها: "أوعد" (الصيغة الإسمية: "وعيد").

الثنائي الأوّل، في السياق القرآني العياني يتعلق بفعل الله ذاته، بكلمة أخرى، إنّ (أ) الذي يعلم (ب) بكلّ هذا اتفق على أن يكون الله.

الثنائي الثاني ذو طبيعة مختلفة عن هذا تماماً، وإنّ تحليلاً مبسطاً لبنيته الأساسية سيجعله واضحاً على الفور:

1- ثمة على المسرح ثلاثة أشخاص (أ) و(ب) و(ج)، أي كلمة علاقة بين ثلاثة أشخاص.

2- وبقدر تعلق الأمر بـ(أ) و(ب)، فقد ظلّ الموقف العام هو نفسه بالضبط، إلّا أنّ (أ) في هذه الحالة لا يُعلم (ب) مباشرة بما سيحدث، أي ليس هناك علاقة مباشرة بين الاثنين. إنّ مهمة إقامة العلاقة تعطى لشخص آخر هو (ج). و(ج) يعرف الموقف الفعلي: أن يذهب إلى (ب) رسولاً من (أ) ويخبرهُ أنّ الشيء كذا وكذا سيحدث له حقّاً. و(ج) في القرآن هو النبيّ طبعاً. من هذا الوجه يظهرُ النبيّ على المسرح بوظيفة "البشير" أو "النذير" وفقاً لما يقوم بتبليغه لـ(ب) من أخبار حسنة أو سيِّئة. وهذه النقطة في التصوّر القرآني ذات أهميّة بالغة في ما يتعلّق بوظيفة النبيّ، إذ يؤكد القرآن باستمرار أنّ محمّداً (ص) ما هو إلّا "نذير" فقط: (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) (الحجر/ 89)، و(إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ) (هود/ 12).

إنّ وظيفته تكمن في إنذار الناس غير المؤمنين بأنّه سيكون ثمة حساب سيتبعه عقاب رهيب في الآخرة. ويصح الشيء نفسه على مفهوم "البشير"، إلّا أنّ هناك فرقاً دقيقاً بين "البشير" و"النذير". فطبقاً للتحليل الذي قام به ابن العربي (مؤلف كتاب أحكام القرآن)، ليست "البشارة" معلومة تُعطى حول شيء مرغوب فيه فقط، بل ينبغي أن يكون "البشير" الشخص الأوّل الذي يبلغ الأخبار الطيِّبة.. "أوّل مخبرٍ بالمحبوب"، على حين أنّ "النّذارة" معلومة تُعطى حول شيء غير سارّ. وكلّ مَن ينقل هذه المعلومة "نذير". فالمفهوم لا يتضمّن شرط أن يكون الإعلام من شخص أوّلٍ يقوم به.

البيت التالي لعنترة مثير للاهتمام، إذ يظهر الأهميّة البالغة للمفهومين المتعالقين وهما مجتمعان أحدهما مع الآخر في مكان واحد:

وكم من نذير قد أتانا محذِّراً ***** فكان رسولاً في السرور يُبشِّرُ

وما يريد أن يؤكِّده الشاعر هنا استحالة التنبؤ بالمستقبل. ولذا، فمن الحماقة التامة القلق على ما لم يأتِ بعدُ...

وبديهي أنّ الثنائي الثاني مرتبط بعمق بالثنائي الأوّل ويقوم عليه. والبيت التالي يكشف عن هذه العلاقة، بشكل جيِّد جدّاً:

وعظيمِ الملكِ قد أوعدَني ***** وأتتني دونَه منهُ النُّذُرْ

وفي ما يتعلق بالتضاد بين "وَعَدَ" و"أوعَدَ"، علينا أن نلاحظ أنّ التمييز بينهما في "الجاهلية" كان يحدد بدقة أحياناً، وأحياناً لا يحدد:

وإنِّي إنْ أوعدتُهُ أو وعدتُهُ ***** لأُخلِفُ إيعادي وأُنجزُ مَوعدي

فالفرق الأساسي بين الاثنين محدد في هذا البيت الذي ينسب إلى طرفة أيضاً، بينما يستعمل الفعلان في مواضع أخرى من دون تمييز بينهما غالباً كما في القرآن، إذ إنّ التمييز بينهما غير محكم إلى حدٍّ ما. وهذا مثال واحد فحسب: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ) (التوبة/ 68).

ويقول الكفار المكّيون للمسلمين تهكّماً، مشيرين إلى يوم القيامة: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يس/ 48).

وكما هو معروف، فإنّ هذا الفرق تطوّر في بدايات الإسلام إلى المشكلة الدينية ذات الأهميّة الفائقة، التي شاعت بظهور فرقة من مدرسة المعتزلة الكلامية عُرفت تحت اسم "أهل الوعيد" أو "الوعيدية"، وقد ترأسها الجبّائي.

وهذه المشكلة مثيرة للاهتمام من الناحية الدلالية، لكن علينا ثمة أن نترك الموضوع على حاله، لأنّ مناقشة مشاكل من هذا النوع ستجعلنا نتجاوز نطاق هذه الدراسة إلى حدٍّ بعيد.►

 

المصدر: كتاب الله والإنسان في القرآن

ارسال التعليق

Top