• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النزعة الإنسانية في الحداثة الغربية

د. مصطفى الحسن

النزعة الإنسانية في الحداثة الغربية

وُجدت بذور النزعة الإنسانية في الفلسفة اليونانية القديمة، ونقرأ في السفسطائية نزعة إنسانية متطرفة. أما فلاسفة أثينا الثلاثة فإن حديثهم عن الماهيات يشير إلى اهتمامهم بالإنسان وشعورهم بمركزيته. وفي العصر الحديث بدأت النزعة الإنسانية مع بدايات عصر النهضة متزامنة مع وحدة الوجود المادية. وقد ظهر أول اشتقاق لصفة الإنساني في اللغات الأوروبية في القرن السادس عشر. أما كلمة النزعة الإنسانية على هيئة الاسم أو المصدر (Humanisme هيومانيزم)[1] فلم تشتق إلا في القرن التاسع، لكن مفهومها يرجع إلى ما قبل ذلك بكثير.

يُعِدّ كثير من الباحثين فرانسيسكو بيترارك (1304-1374م)[2] أوّل المفكّرين الإنسانيين، أي إن أدبيات النزعة الإنسانية تبلورت في القرن الرابع عشر وبلغت ذروتها في القرن السادس عشر، وكانت كلمة الإنساني تطلق على البحاثة المتبحرين في العلم، وبخاصة علوم الأقدمين (اليونان، الرومان)، فهي حركة تحرير للإنسان من طريق اكتشاف القيم الأخلاقية والفكرية في الأدبيات اليونانية. لذلك كان للمفكرين الإنسانيين اهتمام بالغ بالشعر والأدب. ومن هنا ارتبطت النزعة الإنسانية ارتباطاً وثيقاً باللغات واللسانيات. جاء في موسوعة لالاند الفلسفية: "ليست الإنسانوية حب العصر القديم وحسب، إنها عبادته، العبادة المدفوعة بعيداً جدّاً لدرجة أنها لا تكتفي بالعبادة، بل تبذل جهداً في سبيل التكاثر، وليس الإنسانوي هو الإنسان الذي يعرف القدامى ويستوحي منهم، إنّه ذلك الذي يكون منبهراً، منسحراً بنفوذهم وسحرهم لدرجة أنّه يقلدهم حرفياً، يحاكيهم، يكررهم، يتبنى نماذجهم، أمثلتهم، آلهتهم، روحيتهم ولغتهم. إن نزعة كهذه مدفوعة إلى أقاصيها المنطقية لا تنزع إلى شيء أقل من إلغاء الظاهرة المسيحية"[3]. ظهر الإنسانيّون في إيطاليا أوّلاً، ثمّ في جميع أنحاء أوروبا، وتؤمن النزعة الإنسانية أنّ الإنسان موضوع العلم، وأنّه مقياس كل شيء، وأنّه مركز الكون، وهي حركة متفائلة بالإنسان وبقدراته على العطاء والإبداع والتوصل إلى أقصى حدود الكمال، يقول غوته: "إنّ النزعة الإنسانية هي ذلك الجهد المتواصل والمبذول من أجل التوصل إلى أروع صيغة للوجود البشري"[4]. هذا وصف عام للنزعة الإنسانية، ويفضّل بعض الحداثيين العرب أن يراها بهذا المنظار حتى تبقى براقة جميلة تغري الحضارات الأخرى للحذو حذوها، يقول هاشم صالح: "لنحاول أن نقدم هنا مرة أخرى تعريفاً جديداً للحركة الإنسية أو الإنسانية (هيومانيزم)، يمكن القول بأنها تمثل أخلاقية النبل البشري، وكانت موجهة في اتجاه الدراسة النظرية والتطبيق العملي في آن معاً، إنها تعترف بعبقرية الجنس البشري، بل وتمجد عظمة الإبداع الإنساني وتواجه قوة الطبيعة الميتة بالقوة الحية للإنسان، إنّ النزعة البشرية هي ذلك الجهد الذي يبذله الإنسان لكي ينمي في داخله، وبواسطة النظام الصارم والمنهجي، كل الطاقات البشرية، فلا يترك شيئاً يضيع مما يعظّم الإنسان ويمجّده"[5]. لكنّ آخرين يرون هذه الرؤية جزئية واختزالية ولا تساعد الباحث في التعمق فيها ولا تعطيه القدرة على نقدها. يشير عبدالوهاب المسيري إلى أن ثمة ما يشبه الإجماع على أنّ الحداثة مرتبطة ارتباطاً تاماً بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أنّ الإنسان هو مركز الكون وسيده[6]، فليس من الممكن الحديث عن فلسفة الحداثة من دون الحديث عن النزعة الإنسانية، بل من الممكن جدّاً أن نزعم أن فلسفة الحداثة تتمحور حول النزعة الإنسانية وتتشكل وفق مبادئها. ولئن كان المشروع التحديثي "يبحث عن المعنى ويفترض وجوده، كما يفترض وجود ذات عاقلة وعقل قادر على التمييز، ووجود نظام في الطبيعة وثنائية تكاملية بينهما ووجود لغة رشيدة يمكننا من خلالها التواصل والحوار من أجل الوصول إلى حقيقة كلية"، ولئن كان يفترض "وجود منظومات معرفية وأخلاقية ثابتة ودرجة عالية من اليقين ومعيارية ما وإيماناً بأنّ التاريخ يزودنا بمعرفة تزيد من وعي الإنسان وتساعده على التقدم"[7]، فلابدّ من أن نبحث في النزرعة الإنسانية ونتساءل: هل سمحت هذه النزعة باستمرار هذا المشروع أم أنها غيرت وبدلت في مساره؟ إذا عدنا للاستنارة وتناولنا تعريف ديكارت لها حين يتحدث عن النور الطبيعي فيصفه بأنّه "مجمل الحقائق التي يتوصل إليها الإنسان من طريق استخدام العقل فقط[8]، أو تعريف كانط المشهور لها: "إنّ التنوير هو خروج الإنسان عن حالة قصوره التي يتسبب فيها بنفسه، والقصور هو عجزه أن يكون لنفسه عقلاً من دون مساعدة من سواه"[9]، نجدهما يؤكدان أنّ الاستنارة تتمركز حول الإنسان، وما التنوير الأوروبي إلا إعلان لتفوق النزعة الإنسانية. والتعريفان السابقان يشيران إلى تهميش أي مرجعية غيبية، فكل الحقائق يستطيع الإنسان أن يتوصل إليها بعقله، ولابدّ من أن يستخدم عقله فقط كي يحقق لنفسه التنوير، أي أن يبتعد عن أي مرجعية غيبية، فهو قادر على توليد منظومات أخلاقية من خلال عقله لا غير. ولا شك أنّ هذه الرؤية تعطي الإنسان مركزية كبرى وتجعله يثق بنفسه ويتفاءل بها، لأنّه قادر على توليد قيمة من ذاته. لم يلحظ دعاة الاستنارة التناقض الكامن في هذه التعريفات. ولأنّ التناقض لا يظهر إلا من خلال النظر في مآل هذه النظرية فقد اكتفى التنويريون بظاهرها النظري. لكن آخرين تحدثوا عما أسموه "الاستنارة المظلمة"، وهو مصطلح يشير إلى أنّ الظلمة تكمن في ما يعتقد أنّه منبع النور، ذلك أن في فلسفة التنوير ما يؤدي إلى تفكيك الإنسان وتهميشه بدلاً من وضعه في مركز الكون. فحين تخلى الإنسان عن مرجعيته الغيبية واكتفى بذاته، ثمّ جعل القوانين الطبيعية الأصل الذي يحكم الكون، وجعل نفسه ضمن هذه المنظومة، فهو قد أزاح نفسه بنفسه، "ولذا بدلاً من حلم الذات الإنسانية التي تدرك الواقع وتوصغه وتهيمن عليه، ظهرت الذات التي يتم تفكيكها وردها إلى عناصر مادية في الواقع"، لأن دعاة التنوير "ببساطة شديدة ينزعون الخصوصية والقداسة عن الإنسان ويردونه إلى قوانين الطبيعة/ المادة، وهي قوانين الحركة العامة التي لا تعرف خصوصية أو قداسة، والتي لا يمكن للإنسان الإمساك بها"[10]. وتبعاً لهذا ظهر دعاة الإصلاح لتفادي هذه الكارثة، والذين اعتقدوا بإمكانية إصلاح وتعديل هذه الفلسفة وإبعادها عن مآلها المظلم أمثال دور كهايم وهابرماس[11]، وظهر آخرون يبكون على هذه المأساة التي لا يمكن تفاديها مثل ماكس فيبر. وظهر من يعتقد أن هذا واقع لا مفر منه وأن على العالم أن يتقبل هذه الفلسفة مثل جاك دريدا[12].   الهوامش:
[1]- النزعة الإنسانية (هيومانيزم): تختلف ترجمة هيومانيزم من كاتب إلى آخر، ففي موسوعة لالاند الفلسفية ترجمت بـ"الإنسانوية" و"الإنسانية"، انظر: أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، ط2 (باريس؛ بيروت: منشورات عويدات، 2001)، مجلد2، ص566، وكذلك ترجمت في أطلس الفلسفة بـ"الإنسانية"، انظر: بيتر كونزمان، فرانز – بيتر بوركارد وفرانز فيدمان، أطلس الفلسفة، ترجمة جورج كتورة (بيروت: المكتبة الشرقية، 2001)، ص97، وأيضاً عند هاشم صالح في كتبه، كما ترجمها محمد أركون في كتبه بـ"الإنسية"، وترجمها طه عبدالرحمن بـ"الأنسنة" و"التأنيس". انظر: طه عبدالرحمن، روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006)، 178، ولا علاقة لاختلاف الترجمات باختلاف المفاهيم عند المترجمين، وقد آثرت أن أترجمها بـ"الإنسانية". [2]- فرانسيسكو بيترارك: عاش بين 1304-1374م. يعد من رواد النهضة الأوروبية والإيطالية بخصوص. ويُعدّ أوّل الفلاسفة الإنسانيين. كان لشعره تأثيراً بالغاً على فرنسا وإسبانيا، وكان فيلسوفاً، وعالم لغة، ورجل دين وسلطة، انظر: هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوروبي (بيروت: دار الطليعة، 2005)، ص92. [3]- لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، مجلد2، ص566. [4]- انظر: صالح، المصدر نفسه، ص82. [5]- المصدر نفسه، ص82. [6]- انظر: عبدالوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006)، ص34. [7]- المصدر نفسه، ص49. [8]- صالح، مدخل إلى التنوير الأوروبي، ص139. [9]- كونزمان، بوركارد وفيدمان، أطلس الفلسفة، ص103. [10]- المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، ص27. [11]- يورغن هابرماس: فيلسوف وعالم اجتماع ألماني، ولد سنة 1929م، أراد استئناف مشروع ماركس في نقد المجتمع، بشرط أن تكون نظرية نقدية كبرى، ودعا إلى فلسفة أنوار جديدة، انظر: جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة، ط3 (بيروت: دار الطليعة، 2006)، ص687.

[12]- جاك دريدا: فيلسوف فرنسي. ولد في الجزائر، عاش بين 1930-2004م. يهتم بتفكيك بناء الفلسفة والمذاهب الفلسفية. شكّل عام 1975م مجموعة البحث حول تعليم الفلسفة، لتطوير نقد التعليم الفلسفي الراهن، وعُهِد إليه عام 1983م بإدارة معهد الفلسفة، انظر: المصدر نفسه، ص283.

المصدر: الدين والنص والحقيقة (قراءة تحليلية في فكر محمد أركون)

ارسال التعليق

Top