◄بسم الله الرحمن الرحيم
(إنّا أنزَلناهُ في لَيلَةِ القَدرِ * وَما أدرَاكَ ما لَيلَةُ القَدرِ * لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن ألفِ شَهرٍ * تَنَزَّلَ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإذنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمرٍ * سَلامٌ هِيَ حتّى مَطلَعِ الفَجرِ).
تذكر السورة المباركة إنزال القرآن في ليلة القدر. وتعظم الليلة "بتفضيلها على ألف شهر" و"بتنزُّل الملائكة والرُّوح فيها" ويحتمل كون السورة مدنيّة ومكيّة، ولا يبعد من بعض الروايات في سبب نزولها كونها مدنيّة.
وبالعودة إلى السورة، فإنّ ضمير الهاء في (أنزلناه) في قوله تعالى: (إنّا أنزَلناهُ في لَيلَةِ القَدر) يعود هذا الضمير إلى القرآن الكريم. وظاهر الضمير كلّ القرآن لا بعض آياته، ويؤيِّده التعبير بـ"الإنزال" (الظاهر في اعتبار الدفعة الواحدة) دون "التنزيل" الذي يظهر منه اعتبار التدريج.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: (والكِتابُ المُبين إنّا أنزلناهُ في ليلة مباركة) (الدخان/ 3)، حيث يظهر أنه سبحانه أقسم بجملة الكتاب المبين، ثمّ أخبر عن إنزال ما أقسم به جملة.
فمدلول الآيات إنّ للقرآن نزولاً "بالجملة" على النبي (ص) غير نزوله التدريجي الذي تمّ في مدّة ثلاث وعشرين سنة، كما يشير إليه قوله تعالى: (وقرآناً فرّقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلاً) (الإسراء/ 106)، وكذلك قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نُزِّل عليه القرآنُ جملةً واحدةً كذلك لنثبت به فؤادك ورتّلناه ترتيلا) (الفرقان/ 32).
وليس في كلامه تعالى ما يُيبيِّن تحديد الليلة غير قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن) (البقرة/ 185)، فإنّ هذه الآية بإنضمامها إلى آية القدر تدل على أنّ الليلة هي من ليالي شهر رمضان.. وأمّا تعيينها أكثر من ذلك، فمستفاد من الأخبار.
وقد سمّاها الله تعالى ليلة القدر، والظاهر أنّ المراد بالقدر "التقدير"، فهي ليلة "التقدير" يُقدِّر الله فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها من قابل: من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وغير ذلك، كما يدلّ عليه قوله في صفة الليلة: (فيها يُفرق كلّ أمرٍ حكيم أمراً من عندنا إنّا كنّا مرسلين رحمة من ربّك) (الدخان/ 6)، فليس فرقُ الأمر الحكيم إلا إحكامَ الحادثة الواقعة بخصوصيتها بـ"التقدير".
ويستفاد من ذلك أنّ الليلة متكرِّرة بتكرُّر السنين، ففي شهر رمضان من كلِّ سنة قمرية ليلة تُقدر فيها أُمور السنة من الليلة إلى مثلها من قابل، إذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها أو ليالٍ معدودة في طول الزمان تُقدَّر فيها الحوادث الواقعة التي قبلها والتي بعدها وإن صحّ فرض واحدة من ليالي القدر المتكررة أُنزل فيها القرآن جملة واحدة.
على أنّ قوله (يُفرق) -وهو فعل مضارع- ظاهر في الاستمرار، وقوله: (خير من ألف شهر) و(تنزّل الملائكة) إلخ... يؤيد ذلك الاستمرار.
فلا وجه إذن لما قيل إنها كانت ليلة واحدة بعينها نزل فيها القرآن من غير أن تتكرر، وكذا ما قيل: إنها كانت تتكرَّر بتكرُّر السنين في زمن النبي (ص)، ثمّ رفعها الله، وكذا ما قيل إنها واحدة بعينها في جميع السنة، وكذا ما قيل إنها في جميع السنة غير أنها تتبدَّل بتكرُّر السنين.. فسنة في شهر رمضان وسنة في شعبان وسنة في غيرهما.
وقيل: القدر بمعنى المنزلة وإنما سُمِّيت ليلة القدر للإهتمام بمنزلتها أو منزلة المتعبدين فيها، وقيل: القدر بمعنى الضيق وسميت ليلة القدر لضيق الأرض فيها بنزول الملائكة.
فمعنى الآيات -كما ترى- أنها ليلة بعينها من شهر رمضان من كلِّ سنة فيها إحكام الأُمور بحسب التقدير، ولا ينافي ذلك وقوع التغيُّر فيها بحسب التحقُّق في ظرف السنة، فإنّ التغيُّر في كيفية تحقق المقدَّر أمر، والتغيُّر في التقدير أمر آخر، كما أنّ إمكان التغيُّر في الحوادث الكونية بحسب المشيئة الإلهية لا ينافي تعيُّنها في اللوح المحفوظ، قال تعالى: (وعنده أُمُّ الكتاب) (الرَّعد/ 39).
على أنّ لاستحكام الأُمور بحسب تحققها مراتب من حيث حضور أسبابها وشرائطها تامة وناقصة، ومن المحتمل أن تقع في ليلة القدر بعض مراتب الإحكام ويتأخّر تمام الإحكام إلى وقت آخر، لكن الروايات لا تلائم هذا الوجه.
قوله تعالى: (وما أدراك ما ليلة القدر) كناية عن جلالة قدر الليلة وعظم منزلتها ويؤكد ذلك إظهار الاسم مرّة بعد مرّة، حيث يقول: "ما ليلة القدر ليلة القدر خير"، ولم يقل: وما أدراك ما هي هي خير.
قوله تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر) بيان إجمالي لما أُشير إليه بقوله: (وما أدراك ما ليلة القدر) من فخامة أمر الليلة.
والمراد بكونها خيراً من ألف شهر تفوُّقها عليها من حيث فضيلة العبادة على ما فَسَّره المفسِّرون وهو المناسب لغرض القرآن وعنايته بتقريب الناس إلى الله.. فإحياؤها بالعبادة خير من عبادة ألف شهر، ويمكن أن يستفاد ذلك من لفظ "المباركة" المذكور في سورة الدخان في قوله: (إنّا أنزلنا في ليلة مباركة).
قوله تعالى: (تنزّل الملائكة والرُّوح فيها بإذن ربّهم من كلِّ أمر) تنزّل أصله تتنزّل، والظاهر من الروح هو الروح الذي من الأمر، قال تعالى: (قل الروح من أمر ربي) (الإسراء/ 85)، والإذن في الشيء الرخصة فيه وهو إعلام عدم المانع منه.
و"مِن" في قوله: (مِن كلِّ أمر) قيل: بمعنى الباء، وقيل: لإبتداء الغاية وتفيد السببية أي بسبب كلّ أمر إلهي، وقيل: للتعليل بالغاية أي لأجل تدبير كلّ أمر من الأُمور. والحقّ أنّ المراد بالأمر: إن كان هو الأمر الإلهي المفسَّر بقوله: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) (يس/ 82).. فمن للإبتداء وتفيد السببية، والمعنى "تتنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بإذن ربّهم مبتدأ تنزلهم وصادراً من كلِّ أمر إلهي".
وإن كان هو الأمر من الأُمور الكونية والحوادث الواقعة، فمن بمعنى اللام التعليلية والمعنى "تتنزل الملائكة والروح في الليلة بإذن ربِّهم لأجل تدبير كلِّ أمر من الأُمور الكونية".
قوله تعالى: (سلام هي حتى مطلع الفجر)، قال في المفردات: السلام والسلامة التعري من الآفات الظاهرة والباطنة فيكون قوله: (سلام هي) إشارة إلى العناية الإلهية بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه وسد باب نقمة جديدة تختص بالليلة ويلزمه بالطبع وهن كيد الشياطين، كما أشير إليه في بعض الروايات.
وقيل: المراد به أنّ الملائكة يُسلِّمون على مَن مرّوا به من المؤمنين المتعبدين ومرجعه إلى ما تقدم.
والآيتان أعني قوله: (تنزل الملائكة) إلى آخر السورة في معنى التفسير لقوله: (ليلة القدر خير من ألف شهر).
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد 11-12 لسنة 1409م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق