• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تنمية المعرفة.. ضرورة حيوية

أ.د. عبدالكريم بكّار

تنمية المعرفة.. ضرورة حيوية

لم تعرف البشرية في تاريخها الطويل ديناً أو فلسفةً أو مذهباً، أعطى كل هذا القدر من الإهتمام والإحترام لمسألة العلم، كدين الإسلام. وأدبياتنا في هذا أوضح من أن تحتاج إلى شرح أو تذكير. وما ذلك إلا لأنّ الإنسان لا يكتمل، ولا يترقّى في مدارج الإنسانية إلا بمقدار ما يتعلَّمه، وما يستفيده من أنواع الإدراك والخبرة في جوانب الوجود المختلفة.

لم يعد ما لدى الإنسان من ذكاء واستعدادات فطرية كافياً للعيش في هذا الزمان المعقَّد المتحوِّل. وقد كان في إمكان الأُمّي فيما مضى أن يعيش بكرامته، وضمن الحد المقبول من الفاعلية والسيطرة على شؤون الحياة المختلفة، لأنّ الوسط الذي يعيش فيه كان كذلك. أمّا اليوم، فإنّ طفولة الإنسان صارت هي الأصل، وبالإمكان أن يصبح المرء هرماً، دون أن يكتسب النضج الكافي للعيش الجيِّد في هذا الزمان المنقطع النظير! ما يحتاجه الإنسان من زاد معرفي ليعيش حياة طيِّبة يختلف بإختلاف العصور وسيظل بإستمرار شيئاً نسبياً. وفي ظل التواصل الكوفي الذي تتصاعد وتيتره على نحوٍ مدهش، صارت أهميّة المعرفة ضعيفة الإرتباط بالمكان، حيث لم يبق هناك عوالم مختلفة، وإنّما عالم واحد: أجزاء منه متقدِّمة، وأجزاء أخرى متخلِّفة. وكل تقدّم معرفي أو حضاري تحرزه الأجزاء المتقدِّمة سيزيد من صعوبة الحياة في الأجزاء المتخلِّفة، لكن ذلك قد يتم بصورة غير منظورة. ولا تظهر إنعكاسات الفجوة بين مَن يعلم وبين مَن لا يعلم إلا عندما يحاول هذا الأخير حل مشكلاته المتراكمة؛ آنذاك فقط تدرك الأجزاء المتخلِّفة مدى إرتهان إرادتها ومصيرها في أيدي الذين يقودون الحضارة، ويصنعون المعرفة! إنّ من المؤسف حقّاً أن تتحوّل أُمّة العلم والبحث والتجربة إلى أُمّة تغلَّب عليها الأُميّة الهجائية والأُميّة الثقافية، وأن تحتاج إلى مَن يشرح لها مدى حاجتها إلى العلم مع أنّها تتلو كتاب ربّها الذي يمجد العلم، في كل آن! إنّنا على قناعة متزايدة أنّ الإستثمار في العلم هو أفضل أنواع الإستثمار، وأنّ المخ البشري هو منحة الله – تعالى – العظمى للفقراء الذين حُرمت أرضهم من الموارد. ويتعاظم الإعتقاد بأنّ التقدُّم العلمي ومحاولة دمجه في الجهود البدنية قد يكون هو الفرصة الوحيدة أمام الفقراء للخلاص ممّا هم فيه. إنّ خلود الرسالة وارتباطنا المصيري بها، يجعلنا في حاجة مستمرة إلى الإجتهاد والتدبُّر وتوليد الأفكار من النصوص والأُصول، إلى جانب توظيف المبادئ الإسلامية، وإيجاد الشروط الموضوعية لعملها في حياة الناس. وهذا كلّه يحتاج إلى وعي تام، يستند إلى العلم والمعرفة والخبرة الحسنة. ولا يخفى أنّ ساحات الحياة المختلفة مزدحمة بالمذاهب والأفكار والخبرات ذات الطابع العلماني البحت مما يجعل دعاة الإصلاح يواجهون منافسات حادة، ولابدّ لهم من أن يكونوا على مستوى المواجهة، والمعرفة والرؤية الشاملة هي عتادهم الأفضل في ذلك. وإنِّي لأذهب إلى أبعد من ذلك، إذ أقرر أنّ إستيعاب الإسلام الحضاري يحتاج إلى درجة من التثقُّف والفهم والتمدُّن، ومن ثمّ فإنّه لم يكن من المستغرب أن تنتشر الصحوة الإسلامية الحديثة في المدن أكثر من القرى، وفي قطاع المثقفين أكثر من قطاع العُمّال أو التُجّار. إنّ المعرفة هي السبيل الأكثر نجاحاً اليوم لإكتساب منظور واسع للقضايا المختلفة، من خلال إدراك خصائص الشؤون المختلفة وعلاقاتها. ولا يستطيع المرء أن يشعر بالقدرة على الإختيار إلا من خلال العمق المعرفي بكل الخيارات المطروحة على الصعد النظرية والعملية، وإنّ الذين يشعرون بالإنحسار والحيرة هم الذين لا يعرفون إلا قليلاً، فيخشون كل شيء، ويدفعهم الإحتياط الزائد إلى موقف (لا أدري) مُبهَم ومُغلَق. وفي هذا وذاك يقول - جلّ وعلا - : (ويَرَى الذينَ أُوتُوا العِلمَ الذي أُنزِلَ إليكَ مِن رَبِّكَ هوَ الحَقُّ ويَهدِي إلى صِراطِ العَزيزِ الحَمِيد) (سبأ/ 6). وقال سبحانه: (قالَ الذي عِندَهُ عِلمٌ مِنَ الكِتابِ أنّا آتِيكَ بِهِ قَبلَ أن يَرتَدَّ إليكَ طَرفُكَ) (النمل/ 40). وقال جلّ وعلا: (بَل كَذَّبُوا بِما لَم يُحِيطُوا بِعلمِهِ ولَمّا يَأتِهِم تأوِيلُهُ) (يونس/ 39). إنّنا نرى اليوم بأُمّ أعيننا أنّ الذين بأيديهم نواصي المعرفة هم أكثر الناس قدرة على التصرُّف في الطبيعة، وأعظم قدرة على إبداع النماذج وتطويرها، فقد استطاع العلماء أن يصنعوا من عناصر الأرض التي تزيد على المئة بقليل أكثر من مليوني نوع من المصنوعات! إنّ العلم يكشف القوانين، ويطلعنا على صرامتها، لكنه في الوقت نفسه يعلمنا كيفية الخلاص من ضروراتها ومحدوديتها، وذلك من خلال سنّة (المدافعة) التي أوجدها الخالق – جلّ وعلا – في هذا الكون، ومن خلال ما هو معروف من أنّ الشيء يطرأ على خصائصه تعديلات وتغيُّرات حينما يوضع في سياق جديد أو تركيبة مختلفة. إنّ كثيراً من النزاعات العالمية ينشأ من خلال عجز مثقفي العالم عن رؤية ثقافة الآخرين من وجهة نظر أصحابها، والعجز عن رؤية ثقافتهم الخاصة من وجهة نظر مغايرة، مع أنّ الدمج بين رؤيتين سيخفِّف من التوتر، وسيثري كلتا الثقافتين. ولا يتم شيء من ذلك إلا بالمعرفة الموسوعية الرصينة. وإنّ ممّا لا يخفى أنّ الجهل المتبادل بحقيقة ما لدى الجماعات والحركات الإسلامية المختلفة، أدّى إلى تدابرها وتناحرها واستهلاك كثير من جهودها في رد بعضها على بعض. وكان بالإمكان الصيرورة إلى التسامح والتفاهم لو كانوا يملكون رؤية حضارية أوسع من أطرهم العملية والإجتهادية جميعاً، لكن ضحالة المعرفة تأبى إلا أن تتجلى في صورة سوء الفهم وتزكية النفس والبَرَم بالمخالفين وتتبع سبل الفتن والمعارك التافهة!! إنّ أسلحة العلم اليوم هي الأسلحة الأشدّ فتكاً، حيث صار من الممكن تحويل العدو إلى تابع مجنَّد لخدمة أغراضك بدل أن تتخلص منه بطريقة ما. وممّا كان يقال فيما مضى: الشرقي إذا أراد الخلاص من شخص شدخ رأسه، والغربي إذا أراد الخلاص من شخص فتح له كلية! ولم يكن هذا القول صادقاً في يوم من الأيام صدقه في هذه الأيام؛ ففي ظل استهجان الصراعات المكشوفة، وارتفاع نغمة (السلم العالمي)، أصبحت المعرفة هي السلاح الأساسي المستخدم في السيطرة على المستضعفين الذين لا يعرفون عن كل شيء إلا القليل! بعد أن تطوّرت تقنيات التحكُّم عن بُعد وتقنيات الإتصالات والهندسة الوراثية والأقمار الصناعية التي تصور كل شيء. صارت مصائر الشعوب المتخلِّفة مرتبطة بغيرها من الدول المتقدِّمة، حيث إنّك لا تجد البحوث الراقية إلا في جامعاتهم، ولا تستطيع تأهيل كفاءات متقدِّمة إلا عندهم، ولا تستطيع الكشف عن الثروات المخبوءة في أرضك إلا بوساطة عتادهم.. وقد سبَّب ذلك نوعاً من الإستخذاء النفسي لدى الشعوب التي لا تتعامل مع المعرفة إلا بمقدار الضرورة، وبرؤوس الأصابع! وقد علَّمتنا التجربة أنّ العدو الجاهل ينفخ فيك روح المقاومة والإستبسال من خلال حماقاته وقصر نظره؛ فهو يجدد دماء الشباب في عروقك من حيث أراد هزيمتك! أمّا العدو المتعلِّم، فإنّه يصطادك بشباك من حرير ويجعلك تخدمه، وأن تشعر له بالإمتنان! وويل للذين يريدون إسقاط طائرة بمسدس، والذين يريدون نشر أفكارهم عن طريق نشرة سرّية، وعدوهم يستخدم البث الفضائي! إنّ العناء الذي يكابده رواد المعرفة لن يكون بدون ثمن؛ فطلب العلم – إذا خلصت النيّة – أفضل من النوافل، بالإضافة إلى أنّ المعرفة أكبر مصدر من مصادر المباهج الروحية، كما أنّها مصدر مهم للأمن النفسي؛ فهي تؤمن نوعاً من الطلاقة للروح والمتعة للعقل، وكم تكون سعادة العالم كبيرة حين يلوح له مخرج من نفق مظلم، أو بداية طريق ظليلة في صحراء مهلكة؟! ومهما ذكرنا من وصف السعادة الغامرة التي تنشرها المعرفة الأصيلة، فإنّ الحقيقة ستظل أكبر؛ فهذه الملذّات تتأبى على النعت، إذ ليس لها سوى الذوق إفشاء!.   المصدر: كتاب (مدخل إلى التنمية المتكاملة.. رؤية إسلامية)

ارسال التعليق

Top