• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

توافق العلم والثقافة الإسلامية

أ. د. سعيد إسماعيل عليّ

توافق العلم والثقافة الإسلامية

◄إذا كان الإسلام باعتباره ديناً يشترك مع غيره من الأديان في القضايا التي هي موضوع الديانات عامة، فإنّ للإسلام نواحي ينفرد بها عن تلك الديانات، التي اشترك معها في القضايا الدينية بصفة عامة؛ إذ تكون له جهات اتصال بالثقافات والحضارات ليست لغيره من الديانات الأخرى، فهذه التي نسميها بالحضارة الإسلامية، أو تلك التي نسميها الثقافة الإسلامية، إنما هي سلاسل من الأحداث والأوضاع والكيفيات الاجتماعية والذهنية كان الإسلام مبدأ نشأتها وسبب تكوينها، فلم يقف الإسلام عند التعايش مع العلم، وإنما أصبح كلّ موضوع علمي ذا صلة بالعقيدة الدينية، وصار الارتباط بين الدين والمعرفة العقلية، أو بين علم الطبيعة وعلم ما وراءها ارتباط التفاعل والتمازج، ونشأ من ذلك اتجاه نحو الحياة والسلوك فيها، يدفع به العامل الديني الاعتقادي في كلِّ وجه من وجوهه، وسبيل من سبله، فصار الداعي الديني يتجلى فيما يصنع العالم، وما ينتج الأديب، وما يصوغ صاحب الفن.. وصارت المعرفة العلمية سنداً لكلام المتكلم، وفقه الفقيه، وتصوف الصوفي، وعلى الصورة التي ربطت عناصر المعرفة، وأخرجت كتب العقيدة الإسلامية جامعة للمعارف الطبيعية والرياضية والإنسانية، مع الحقائق الاعتقادية، يتجانس فيها العلم مع الدين ويتساند العقلي والنقلي[1].

ومن هنا يمكن أن نميز في الثقافة الإسلامية سمات ثلاثاً[2]:

أوّلاً: أنها ثقافة إيمانية، يحتل الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر مكان القلب من كلّ شعبها وروافدها، وتتداعى مع الإيمان معالم عديدة، في مجال الاعتقاد، ومجال السلوك الإنساني على السواء، فالإيمان بالله أمان من الاستعلاء الظالم على الآخرين، وأمان من تورط الأفراد والجماعات في العدوان والظلم والجور على الآخرين؛ لأنّ الإيمان يفجر في الإنسان الفرد وفي الجماعة المنظمة معنى "المراقبة"، ومراقبة الله عصمة للجماعات من صور الطغيان التي تخشى الإنسانية الويل من عودتها مع بدايات القرن الجديد في صور جديدة.

ثانياً: أنها ثقافة عقلانية، تقوم على العلم، وتعتبر العقل أداة للمعرفة، وإذا كان المسلمون قد قصروا في الالتزام بهذه السمة من سمات حضارتهم، وتصور كثير منهم، غلطاً ووهماً ونقص علم، أنّ العقل نقيض النقل، وأنّ انتصارات العقل لابدّ أن تمثل انتقاصاً من الإيمان – فإنّ من أوجب الواجبات أن ندير حوارات لتفنيد هذا الظن السيئ، حتى نعيد أمتنا من جديد، كما أرادها ربها، أمة علم ومعرفة وحكمة ونُهىً.

ثالثاً: أنها ثقافة إنسانية، ارتفعت من أول يوم في مسيرتها فوق عوارض الأصل واللون واللغة والاعتقاد... فالخلق كلّهم – في ظلها – عيال الله، والتكريم الذي قرره القرآن الكريم لبني آدم جميعاً، والمخالفون حتى ولو كانت مخالفتهم في الدين والعقيدة، لهم دينهم ولي دين، ولهم في مجتمع المسلمين حقوق لا يملك حاكم أو محكوم أن ينال منها[3].

رابعاً: أنها ثقافة عطاء قبل الأخذ، تعني بالواجبات عنايتها بالحقوق، بل قبل الحقوق، والحقوق في لغة القرآن الكريم تشير إلى الواجبات، وهي موجهة أساساً إلى الذي عليه الحقّ، يقول تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج/ 24-25)، ويقول: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) (الأنعام/ 141).

خامساً: الثقافة الإسلامية منفتحة على العالم، تعتبر التعددية سنة واجبة من سنن الله وليست أمراً محدثاً ابتدعه المتحدثون اليوم عن العولمة وعن ضرورة الحوار بين الحضارات، ذلك (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (المائدة/ 48).

لكن كلّ هذا لا ينبغي أن يجعلنا نغفل بعض الثغرات التي تمثل "ثقوباً" في جدار الواقع الثقافي الإسلامي المعاصر، مما يحتاج الأمر لتناوله إلى دراسة مستقلة، ولكننا نكتفي بأمثلة تقل عن أصابع اليد لابدّ من إدارة حوارات متعددة حتى يمكن لنا أن نواجهها مواجهة حاسمة:

ففي عملية تثقيف المسلمين اليوم، لابدّ أن نعرف ما ينبغي أن يقدم لهم، وما ينبغي أن يؤخر، وما ينبغي أن يُحذف من ثقافة المسلم[4].

ففي المعاهد الدينية، والجامعات والكليات الإسلامية، تدرس أشياء تستغرق من جهود الطلاب وأوقاتهم وتحصيلهم ما لو قضوا نصفه أو ربعه فيما هو أجدى عليهم في دينهم أو دنياهم لكان ذلك أولى وأحرى.

ويذكر الدكتور القرضاوي أنهم، في كلية أصول الدين بالأزهر، كانوا يدرسون من كتاب "المواقف" للإيجي، وشرحه للجرجاني بعض الفقرات، وليس الفصول، في "الطبيعيات" من الكتاب، وفي "المقدمات" ويتعبون في فهمها وهضمها، ويعاني شيوخهم في شرحها، وحول غوامضها، وكشف اللثام عن معانيها.

ولو أُنفق هذا الوقت وهذا الجهد في متابعة فلسفات العصر والرد عليها ردّاً علميّاً موضوعيّاً، أو في متابعة مصادر الإسلام الأساسية وشروح الأئمة الكبار عليها، أو في النبش عن الأفكار والمفاهيم الأصيلة في المدارس التجديدية في الإسلام – لعاد ذلك على الطلاب بالخير الكثير.

فطالب المعاهد الدينية في حاجة إلى أن يتسلح بعلم العصر وثقافته، ويقتبس من البراهين والآيات المبثوثة في الكون ما يشد أزر الإيمان، ويقطع دابر الإلحاد.

وعلم الفقه في حاجة إلى أن يُيسَّر للناس، وأن يُعرض عرضاً جديداً، ويُهتم فيه بما يهم الناس في هذا العصر، من شركات ومعاملات وأعمال بنوك، وعقود مستحدثة، وعلاقات دولية جديدة، وأن يترجم المعايير القديمة من نقود ومكاييل وأوزان على لغة العصر.

وإذا كان آباؤنا في العصر العباسي قد قابلوا التفاعل مع الفكر اليوناني والفارسي والهندي "بعلم الكلام"، وبذلوا ما بذلوا من جهد في تأكيد العقيدة والدفاع عنها وقام الحوار بينهم خصباً عن الأديان والمذاهب المعاصرة، ومن أجل ذلك ذهبت وفود إلى بلاد الروم وجاءت كتب ونشطت حركة الترجمة – فما أحرانا الآن بأن يكون لنا "علم كلام جديد" يقابل مشكلات العصر بفكر العصر، ويضع منجزات العلم في خدمة الدين، ويكون قريباً من فكر شبابنا وعقله[5]، ولعل النماذج توضح شيئاً من ذلك:

عالم النحل على سبيل المثال كان مجال دراسات مستفيضة من أبرزها دراسات العالم النمساوي "د. كارل فون فريتش"، ولقد بيّن بها أنّ النحل له لغة يتفاهم بها، لغة الرقص والحركة: هناك الرقصة الدائرية التي تتخذ صورة دوائر صغيرة متتالية في اتجاه عقرب الساعة ثمّ تعكس اتجاهها، وهذه يستخدمها النحل للدلالة على المسافات التي تقل عن مائة متر.

ورقصة الذنب، وهذه على شكل الرقم (8)، وهي لما زاد على مائة متر.

ولاحظ الباحث أنّ النحلة تستطيع أن تستعين باتجاه رأسها على تحديد مكان الهدف (الزهور) بالنسبة إلى الخلية، فإذا كان الرأس إلى أعلى كان الطعام في اتجاه الشمس، وإذا كان الرأس إلى أسفل كان الطعام عكس اتجاه الشمس.

ولاحظ أنّ النحلة لا تواجه الشمس دائماً بحركة رأسها في رفعها وتنكيسها، وإنما تنحرف أحياناً عن هذه المواجهة يميناً أو يساراً بزوايا انحراف متباينة وزاوية الانحراف هذه تثبت أن ضليعها:

-         الخط الوهمي الممتد بين الخلية واتجاه الشمس وهو الخط الأساسي عند النحلة.

-         الخط الوهمي الممتد بين الخلية ومكان الطعام أو الزهور.

فالنحل بهذا يستخدم الشمس في تحديد مكانه وتحديد زاوية انحرافه عنها، وهذه هي بوصلة الشمس التي يستخدمها النحل في صفو السماء وغيمها ويحدد بها سبيله.

ولنقرأ مع هذا قول المولى عزّ وجلّ: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا) (النحل/ 68-69).

ولنقف متأملين في قوله تعالى: (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ)، وما زالت الدراسات مستمرة، وعرف الإنسان بها جانباً من منطق الطير.

وهناك آفاق واسعة في عالم الحشرات والأسماك، بل الإنسان وبديع صنع الله فيه، وما يكشف العلم من قوى مذخورة[6].

فإذا ما أحسنا فهم العقيدة والإيمان وتمثلهما سلوكاً، كان علينا بعد هذا أن نربط بينهما وبين واقع الحياة. إنّ العقيدة بالنسبة للإنسان دافع إلى عمل، وعاصم من الانحراف، ومعيار للمستوى الأخلاقي الذي نمارس به الحياة، والدين ليس بديلاً للعلم ولا منافساً لتطوير الحياة، إنّه عصارة حية تسري في جسم المجتمع، إنّه (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) (البقرة/ 138).

في العلاقة بين العلم والدين يجب أن نعرف أنّ قول العاقل وعمله لا يختلفان، وإذا كان الكون صنع الله والدين كلامه – جلّ شأنه – فيستحيل أن يكون في المعارف الكونية ما يخالف العلوم الدينية إذ العلم ليس إلا وصفاً لما صنع الله في آفاق الأرض والسماء، وتقريراً لما بث فيها من قوى وخصائص، وهذا البيان لأفعال الله يستحيل أن يجيء في وحي الله ما يختلف عنه أو يصطدم به[7].

إنّ الدين الحقّ، والعلم الحقّ، هما تصوير متكامل للوجود، وقد أنزل الله آياته كي تنير الطريق للسالكين وتجلو معالمه للقاصرين، ونحن – باسم الإسلام – نعتبر تصديق الحقائق العلمية ديناً، ومن ثمّ نوجب على علماء الكون والحياة أن يروا تصديق الحقائق الدينية علماً[8].

الهوامش:


[1]- الفاضل بن عاشور: روح الحضارة الإسلامية، ص10.

[2]- نحو مشروع حضاري، ص145.

[3]- نحو مشروع حضاري، ص147.

[4]- القرضاوي: في فقه الأولويات، ص94.

[5]- عبدالعزيز كامل: الإسلام والمستقبل، ص33.

[6]- الإسلام والمستقبل، ص35.

[7]- محمد الغزالي: حقوق الإنسان، ص206.

[8]- حقوق الإنسان، ص207.

المصدر: كتاب الحوار منهجاً وثقافةً

ارسال التعليق

Top