• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ثمرات الأسرة الصالحة

عوضية أحمد يوسف

ثمرات الأسرة الصالحة
◄عني الإسلام عناية فائقة بحقوق الأسرة المسلمة، ودعا الناس إلى القيام بها خير قيام، وأول تلك الحقوق حقوق الآباء لأنهم الأصل في وجودنا، والأبناء هم الوارثون لهم من بعدهم والمحيون لذكراهم وآثارهم. وقد اقترن بر الوالدين والإحسان إليهما بعبادة الله وتوحيده جلَّ وعلا في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (النساء/ 36). وهاهم رسل الله تعالى يضربون أعظم المثل في برّ الوالدين حيث جاء ذلك في كثير من آيات الذكر الحكيم.. فقال عن يحيى: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) (مريم/ 14)، وعن عيسى: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم/ 32)، وعن إسماعيل: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات/ 102). وروي أنّ رجلاً جاء إلى رسول الله (ص) فقال: "إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه" فقال (ص): "هل بقي من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد" رواه أبو يعلي والطبراني بإسناد جيِّد.   بر الوالدين وإن كانا مشركين: وكذلك أوجب الإسلام بر الوالدين وإن كانا مشركين، ويروى في ذلك مثال رائع لإحدى عظيمات النساء أم المؤمنين السيدة أم حبيبة (رض) حين زارها أبوها أبو سفيان زعيم قريش في دارها وأراد أن يجلس على فراش النبي (ص) فطوته عنه فقال لها: "يا بنيّة ما أدري أرغبت به عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟" فأجابت قائلة: بل هو فراش رسول الله (ص) وأنت رجل مشرك ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله (ص)، فقال لها: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر، فقالت: "بل هداني الله للإسلام، فأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها فكيف يغيب عنك الدخول في الإسلام وأنت تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر، هذا الموقف العظيم من رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها يبين برها بوالدها، فقد استقبلته ولم توصد الباب أمامه ثمّ دعته إلى الإسلام وبَيّنت له مكانته في سيادة قريش ولا يسود إلا عاقل حكيم فكيف يغيب عن صاحب الحكمة والعقل الدخول في الإسلام. وهذه أسماء بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما تستفتي رسول الله (ص) في أمر أمها التي قدمت عليها وهي مشركة طامعة في برها... سألته عليه أفضل الصلاة والسلام أفَأَسِلُ أمي؟ قال: "نعم صلي أمك" رواه الشيخان. وفي بر الوالدين تكفير للذنوب وبركة لا تنتهي بل ويعتبر النظر إليهما نوعاً من العبادة، روي أنّه (ص) قال: "خمس من العبادة: النظر في المصحف، والنظر إلى الكعبة، والنظر إلى الوالدين، والنظر في زمزم وهي تحط الخطايا، والنظر في وجه العالِم"، رواه الدار قطني. وقد حث الله تعالى على الدعاء للوالدين وأوجب لين الجانب لهما فقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء/ 23-24). أما الأبناء فهم قرة عين الآباء وزينة الحياة الدنيا، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ...) (الفرقان/ 74). ومن واجب الآباء نحو أبنائهم تأديبهم وتعليمهم والعدل بينهم وتعويدهم التمسك بالآداب الإسلامية وأمرهم بالصلاة والأخلاق الحميدة وأن يكون الآباء خير مثال وقدوة حسنة للأبناء في السلوك والعمل قولاً وفعلاً وكذلك أوجب الله تعالى النفقة عليهم لأبنائهم ذكراً كان الابن أو أنثى، قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...) (البقرة/ 233)، وفي الحديث الصحيح أنّ رجلاً جاء إلى رسول الله (ص) فقال: "إنّ معي ديناراً فقال: أنفقه على نفسك، فقال: معي آخر: فقال: أنفقه على ولدك" رواه أبو داوود والنسائي.   دور المرأة في تكوين الأسرة: وإذا كان البيت والشارع والمدرسة والمجتمع هي ركائز التربية الأساسية فإنّ الأسرة هي المؤثر الأول وهي أقوى تلك الركائز التي ينبغي أن تقوم على جوانب اجتماعية وخلقية وروحية لأهميتها في حياة المسلم الذي يتلقى أول دروس الحياة منها ويلعب الآباء فيها دوراً كبيراً في تنشئة الجيل المسلم الذي يحمل نور الهداية إلى العالم أجمع. فنحن اليوم في حاجة إلى نساء فضليات يربين الرجال على حمل الأمانة ويبين المجتمع النظيف ويقمن الأسس الثابتة في البناء الاجتماعي الصالح ويشهد لهنّ التاريخ بهذا الدور تقديراً وإكباراً، فقد روي أنّ رسول الله (ص) لما ماتت فاطمة أم عليِّ بن أبي طالب (ع) ألبسها قميصه واضطجع في قبرها، فقال له أصحابه: ما رأيناك صنعت بأحدٍ ما صنعت بها فقال (ص): "إنّه لم أجد بعد أبي طالب أبر بي منها وإني ألبسها قميصي لتكسي حلل الجنة، واضطجعت في قبرها ليهون عليها.." تلك هي المرأة الفاضلة التي يعرف الإسلام قيمتها وقدرها وفضلها. وقد كان السلف الصالح – رضوان الله عليهم- يحرصون على أن تكون بيوتهم إسلامية في كل شيء مظهراً وجوهراً.. فالزوجة تحرص دائماً على طاعة زوجها ولا يمنعها الحياء من التفقه في الدين لتنشأ عالمة دينها، عارفة ربها، مدبرة شؤون بيتها راعية أولادها، تضع البذرة الصالحة في الأرض البكر ليكون الحصاد أمة صالحة جديرة بأن تكون خير أمة أخرجت للناس. قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97). وقال رسول الله (ص): "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته فكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته".   صلة الأرحام وروابط الأسرة: وهناك جانب هام في حياتنا وهو صلة الأرحام وهم الأقارب الذين أوجب الله تعالى برهم ووصلهم لأنّ بهم يكمل الجانب الإنساني في حياة المسلم، قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ) (النساء/ 1). وقال (ص): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" رواه البخاري ومسلم. وصلة الأرحام بركة في الرزق والعمر ومرضاة للرب عزّ وجلّ وموجبة لرحمته ومحبته كما أنها تزيد قوة الروابط الأسرية وتنمي التقارب والألفة قال (ص): "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"... ابن عساكر. وعن أنس – رضي الله عنه – أنّ رسول الله (ص) قال: "من سره أن يبسط الله تعالى له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه" رواه الشيخان والترمذي. وعن عائشة (رض) أنّ النبي (ص) قال: "الرحم متعلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله" رواه البخاري ومسلم. فإذا كنّا مطالبين أن نحسن معاملة الأجانب فإنّ أقرب الناس إلينا أحق بذلك وأولى. أما الأحاديث في حقوق النساء فهي كثيرة وقد أوصى الرسول الكريم بهنّ خيراً، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله (ص): "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم" رواه الترمذي. وقد كان رسول الله (ص) خير الناس معاشرة لأزواجه وأحسن الناس رفقاً بهنّ وتسامحاً معهنّ.. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ...) (الأحزاب/ 21).   ثمرات الأسرة الصالحة: فالأسرة التي تقوم على الاحترام والخلق القويم تكون نواة صالحة لمجتمع سليم يدعمه الإيمان وتزينه التقوى وتحفه الرحمة وتحيط به البركة والسعادة لأنّه يسير على هدي القرآن الكريم ويترسم خطى السنة الشريفة فلا يضل بعدهما أبدا... وتلك هي الأسرة التي يريدها الإسلام تماسكاً وتكاملاً وترابطاً ومحبة وسيراً على نهج المعلم الأكرم، والمربي الأعظم رسول الله (ص) الذي قال: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم..." رواه ابن حبان وذلك هو الكلم الطيب والحكمة والموعظة الحسنة، والرفق الذي ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه.. فرفق الأب بأبنائه ورحمة الأبناء بالآباء ومحبة الرجل لزوجه وصلة الأرحام لذويهم وترابط الناس ببعضهم، تلك هي أواصر المجتمع الثابت والجذور الضاربة في أعماق الإيمان، حتى الكلمة البسيطة تخرج من لسان المسلم طيبة فهي صدقة يجزى عليها الخير الوفير، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم/ 24-25).   المصدر: مجلة الضياء/ العدد 31 لسنة 1993م

ارسال التعليق

Top