◄تعدّ قضية حرّية الفكر، من القضايا المهمّة في كلّ العصور، ولدى كلّ الشعوب. فكلّ شعب يمرّ بفترات عديدة يناقش فيها حرّية الفكر، ومداها، وشروطها. وفي الآونة الأخيرة، ظهرت هذه القضية بصورة ملحة. بل تحوّلت إلى إحدى مناطق الألغام، التي تنفجر عندها صراعات السياسة والثقافة.
فمن جانب، يرى العلمانيون، أنّ حرّية الفكر شرط ضروري للتقدم، وحقّ أصيل للإنسان، وأنّ التيار الإسلامي جملةً يعارض حرّية الفكر، لذلك فهو تيار جمودي ورجعي ومعادٍ لحقوق الإنسان. أمّا التيار الإسلامي، فبعضه يأخذ مواقف صارمة، تحدّ بالفعل من حرّية الفكر، والبعض الآخر يقر بأهمية هذه الحرّية، وإن كان له بعض المحاذير.
وحرّية الفكر، ليست سلوكاً محدّداً، ولكنّها منظومة متعدّدة الجوانب. فالمقصود بها، أن يستطيع عقل الإنسان تدبّر أمور الحياة، وموقفه منها، بدون قيود صارمة، وقوالب مفروضة. معنى ذلك أنّ حرّية الفكر، مولّدة للإبداع بالضرورة، فالأخير لا يجوز كلّما زادت القيود والقوالب. وللحرّية والفكر، توابع هامة، لأنّها مفضية للنشر، وحرّية الدعوة لهذا الفكر أو ذاك، وبالتالي فهي تشمل حرّية التعبير، وحرّية الرأي. مما يجعلها تغطي العديد من المجالات، العلمية والفكرية والسياسية والفنية.
بهذا المعنى المتكامل، تمثّل حرّية الفكر، آلية عمل العقل ومعالجته لأمور الحياة، بكلّ ما يشمله ذلك من تشكيل للوعي الجمعي للأُمّة، وصناعة الثقافة. فالحرّية المقصودة هنا، ليست حرّية الفرد، فيما يخص نفسه، وأفكاره الخاصّة، بل هي حرّية المبدع والمثقف والفنان والكاتب والعالم، فيما يخص دورهم في حياة الأُمّة.
والواقع، أنّ مناقشة قضية حرّية الفكر، تدخلنا مباشرة في صراع بين فريق يؤمن بها، وفريق يفرض عليها قواعد الحلال والحرام، فيقضي على حرّية الفكر تماماً. ولكن هذا الصراع المفترض ـ في تصوّرنا ـ أحد تجلّيات القضية، ولكنّه ليس كلّ شيء. بل هو في الواقع تصوّر متحيز، يجعل الحرّية منطوقاً علمانياً، ومنعها منطوقاً إسلامياً، وهذا غير صحيح.
فالحرّية المعنية هنا، هي التحرر من القوالب المفروضة. والواقع أنّ المفروض علينا الآن علماني أكثر من كونه إسلامياً. فالواقع الثقافي الراهن، يشهد طغياناً للفكر العلماني الغربي، لدرجة جعلته قوالب مفروضة علينا، لا يجوز الخروج عليها؛ فالخروج هنا يواجه بتهم تبدأ بالتخلُّف، وتنتهي بالإرهاب.
وليس في ذلك مبالغة، فالباحث العربي يفرض عليه علم غربي، له صفة مؤسسية، أي أنّه مدعوم بالنظام، ومفروض بالسلطة. وعندما يحاول الباحث العربي، إبداع علمه الخاص، النابع من التراث، فإنّه يواجه بموقف يخرجه من رحم الموضوعية والعلمية.
فإذا كنّا بصدد مناقشة حرّية الفكر، فأولى بنا أن نبدأ بإقرار حقّ طليعة التراث في إبداع أفكارها، وهو حقّ يتصدّر الحقوق الأخرى؛ لأنّه حقّ نابع من ثوابت الأُمّة. فالملتزم بثوابت الأُمّة، والمعترف بقيمها هو الأحق بأن تُتاح له حرّية الفكر والإبداع. وكذلك، هو الأحق بأن تُتاح له الإمكانات والمؤسسات التي ترعى فكره وتساعده. فمن المنطقي أن نؤكد أنّ الإبداع النابع من التراث، له حقّ تاريخي في ممارسة دوره داخل أُمّته.
بهذا، نعكس القضية أوّلاً، ونطالب العلمانيين برفع قيودهم وقوالبهم الفكرية، وفتح المجال أمام الإسلاميين، ليقدّموا إسهامتهم. فمن الأصوب أن نعترف أوّلاً بحرّية عمل المشروع الحضاري الإسلامي، قبل أن نناقش أطروحات وكلاء الغرب الثقافيين.
ومن خلال الاعتراف بأنّ للأُمّة انتماءها الحضاري، نعرف ضمناً أنّ هذا الانتماء لا يعني فكراً واحداً، ولا يجب أن يعني ذلك. فمن خلال الحضارة الإسلامية كإطار مرجعي، تخرج أُطر وتيارات متعدّدة، لكلّ منها رؤيته الخاصّة، ولكنّها جميعاً تنبع من سياق المرجعية الحضارية الإسلامية. وتعدّد هذه الرؤى، ليس حقّاً، بل هو فرض، وأيضاً واجب.
فأية رؤية إسلامية، دينية أو حضارية، تحاول أن تقدّم نفسها باعتبارها الحقّ الوحيد ـ هي رؤية تخرج عن قيم هذه الأُمّة. فالأصل أنّ التعدّد ليس فقط مقبولاً، بل هو أيضاً طبيعي، وبالتالي، فإنّ الفكر الواحد غير طبيعي، ومنافٍ للفطرة. ومن هنا تظهر أهمية حرّية الفكر والإبداع، باعتبارها أدوات مولّدة للتعدد، المفضي للإثراء، والمحقق للازدهار.
ولكن بعض الفصائل الإسلامية جنحت نحو الفكر الأحادي، الذي يرى الكلّ غيره باطل، وهو الحقّ الوحيد. وفي ذلك بعض المعاني المهمّة. لأنّنا نتصوّر أنّ لكلّ فرد رؤية فكرية، واتهام غيرها بالضلال، هو آلية محققة لحالتين: حالة التدهور، حيث تتراجع قيم الأُمّة عن النهوض، وتعم الفوضى، ويصبح فرض الفكر من السلطة، نوعاً من التماسك الأخير للأُمّة، وهو تماسك مفروض وغير فطري ومنافٍ لطبيعة الأُمّة، ولذلك ينتهي الأمر بالانهيار. والحالة الآنية هي حالة التفكك، ومنها حالة التغريب. فبعد أن تنهار الأُمّة، وتعم قيم غربية عليها، تخرج جماعات تتمسك بفكر محدود، وتصف نفسها بالإيمان والنقاء والحقّ، في مواجهة الفكر والضلال، وهي بذلك تدافع عن نفسها، وعن مقدسات الأُمّة، لأن تعرض قيم الأُمّة للانهيار، وللهدم المقصود، لا يفضي إلى مناخ متسامح يسمح بحرّية الفكر، بل يفضي على عكس ذلك لحركات تؤمن بأنّ حرّية الفكر هي الغطاء الحقيقي لهدم قيم الأُمّة.
لذلك فالجمود الفكري، المعادي لحرّية الفكر، في جانب مهم منه، ينبع من استخدام حرّية الفكر كمظلة للهجوم على قيم الأُمّة. وهو واقع معاش اليوم، في أُمّة العرب. فتحت مظلة حرّية الفكر، بوصفها أداة للتقدّم، وقيمة إنسانية، يتم تغريب الأُمّة ثقافياً، وتشويه تراثها، وسحق هُويّتها. ولا نظن أنّ في مواجهة ذلك، نتوقع حركات تنبع من الأُمّة، وتطالب بالمزيد من حرّية الفكر. فالحرّية هنا، هي السلاح المُستخدم في مواجهة الأُمّة، وهي الشعار البارز لتمرير عملية سحق الأُمّة. لذلك فحركات الاحتجاج والعنف، تعادي حرّية الفكر، لأنّ الأخيرة أصبحت تعادي الأُمّة. فالحركات التي تخرج للدفاع عن مقدسات الأُمّة، تعادي الاتجاهات التي اعتدت على هذه المقدسات.
بهذا المعنى، نؤكد أنّ الجمود المعادي لحرّية الفكر، ينتج من الهجوم المستمر على تراث الأُمّة. وفي نفس الوقت، فإنّ هذا الجمود، سلوك دفاعي، لا يقيم نهضة. فإذا ركّزنا نظرنا على النهضة الحضارية الإسلامية، نجد أنّ آليات حرّية الفكر والتعدّدية، هي جوهر هذه النهضة. لذلك فالجمود الفكري، المدافع عن تراث الأُمّة، هو حرب ضد العلمانية الغربية، وضد الهجوم على التراث، وضد التغريب، وضد ضياع قيم الأُمّة ومقدساتها، وفي نفس الوقت، هو فعل معيق للنهضة.
وما يحدث في الواقع، يبدو من قانون التاريخ. فالحملة ضد الأُمّة وتراثها، وحالة التدهور والانهيار التي وصلت لها الأُمّة، تدفع لظهور حالة الدفاع عن النفس، التي تحوّل التراث إلى أسلحة في وجه القوى المعادية له. ولكن مرحلة الدفاع عن النفس، لا تشيد أُمّة ناهضة، بل هي مرحلة تسبق النهضة. وحتى ندخل إلى مرحلة النهضة، نحتاج إلى وقف عملية الهجوم على التراث، وكذلك وقف عملية الدفاع المصاحبة له.
فليس الأمر كما يظن وكلاء الغرب، أنّ حرّية الفكر سوف تتحقق من خلال سيادة أفكارهم، بل على العكس، فإنّ سيادة النمط الغربي، هو الذي ولّد الحرب ضد حرّية الفكر، بعد أن اُستخدمت ضد مقدسات الأُمّة. والمناخ المنتج لحرّية الفكر، هو المناخ النهضوي، أي عندما تقوم طليعة الأُمّة بدورها في غنى نهضة الأُمّة، ورفع شأن قيمها ومقدساتها. لأنّ النهضة هي فعل قوّة، وكلّما تحققت للأُمّة قوّتها تسامحت، وكلّما ضعفت تشددت. والحملة العلمانية الغربية، تضعف الأُمّة فتجعلها تتشدد. وفعل النهضة من شأنه أن يقوي الأُمّة، فيجعلها تتسامح.
بهذا نؤسس مناخ الحرّية الفكرية، فهو مناخ النهضة النابعة من التراث، وهو أهم أدوات ازدهارها، وكذلك فهو أحد قيمها الأصلية، لأنّه يحقق التعدّدية، التي هي الشرط الرئيسي في النهضة الحضارية الإسلامية. بهذا المعنى، تصبح طليعة الأُمّة، منتمية لتراثها، وتمارس حرّية الفكر والإبداع، لأنّه فُرضَ عليها.
فماذا عن العلمانية الغربية؟! فالمشكلة الرئيسية في الصراع العلماني الإسلامي، هي حول حرّية عمل الآخر المنتمي لحضارة أخرى. فالعلماني يؤمن بالحرّية في إطار غربيته، والإسلامي يؤمن بها في إطار إسلاميته، فهل يصح أن يسحب كلّ طرف حقّ الآخر في الحرّية؟ لا.. بالطبع لا..
إنّ الرؤية العميقة التي تنشد النهضة، تعرّفنا أنّ القيود على حرّية الفكر والتعبير والإبداع معطلة للنهضة. كما أنّ تصوّر حرّية الفكر بأنّها مجال يحدّده القانون، يفرض قوالب، أياً كانت حدودها، تعطّل الحرّية. والأهم من ذلك، أنّ حرّية الفكر أصلية من حيث هي نتاج حرّية الاختيار. فإذا كانت النهضة الإسلامية تواجه بالقوى العلمانية، فإنّ أي تصوّر يستخدم القانون ضد حرّية الفكر، لا يواجه العلمانية، بل يواجه النهضة نفسها.
لذلك نتصوّر أنّ الحرّية الفكرية، باعتبارها ممارسة للإبداع، عمل وحقّ أصيل، لا تجوز مناقشته. ولكن المشكلة التي نمرّ بها، أنّ أية أُمّة يمارس أبناؤها حرّيتهم، من داخل رحم هذه الأُمّة. فالإبداع حر، ولكن كلّ أشكال الإبداع، تعبّر دائماً عن أُمّتها، وتقوم بوظيفة اجتماعية، تجاه هذه الأُمّة. والفكر حر، لأنّه محاولة لفهم الأُمّة، وطرح رؤى لها ومنها، وتصوّر بدائل لمستقبلها. وعندما تمارس طليعة الأُمّة حرّيتها، فإنّها تنتج أفكاراً مقبولة وأخرى مرفوضة، والأُمّة هي التي تقرر من خلال الاتفاق والاجتماع. وبذلك يتم فرز الأفكار والرؤى، النافع منها والضار. ولكن ما نواجهه اليوم، هو نُخبة تبدع لصالح حضارة أخرى وبالتالي فإنّ حدودها، ومعاييرها، ليست منا، بل معادية لنا.
وأمام هذا الموقف، نتصوّر أنّ حُكم الأُمّة، هو المرجع الأوّل والأخير، ويجب أن يظلّ كذلك. فإذا رأى أي شخص نفعاً في حضارة أخرى، فله أن يدعو لفكرها، ويواجه بالفكر فقط، والأُمّة تحكم في النهاية على الصالح لها من غيره.
أي أنّنا نُنادي بطرح حر شريف، للنموذج الغربي في مواجهة النموذج العربي الإسلامي دون استخدام للترهيب والعنف والسلاح والسلطة والنفوذ وغيرها، وعلى الأُمّة أن تختار ما ينفعها. وليس صحيحاً أنّ الطرف الإسلامي، يفرض فكره بالسلاح، فبعضه فقط يفعل ذلك في حين أنّ الطرف العلماني يفرض فكره مُسلحاً بالسلطة، وقوّة الحكومة، وجيوش الأمن، والدعم الغربي، والتهديدات الخارجية والداخلية، وقوانين استثنائية من الطوارئ حتى المحاكم العسكرية.
وما نعتقد به، أنّ ممارسة حرّية الفكر، يطرح مسموح به لكلّ طرف، دون أن يتوحّد الفكر مع السلطة. ويصبح الفكر سائداً ومؤثراً، بدعم الأُمّة وجماهيرها، واختيارها. وبهذا، تصبح الأُمّة مصدر الرؤية الفكرية الحاكمة، والقادرة على تغييرها. وذلك فيما نظن هو المناخ النهضوي.
ولكن حتى يتحقق ما سبق، نحتاج إلى تنحية المواقف المعادية لحرّية الفكر، ولن نتمكن من ذلك إلّا بتنحية المواقف المعادية للأُمّة وقِيمها وتراثها. فلا يمكن أن نمنع ردّ الفعل، دون أن نمنع الفعل. فإذا كان فرض الفكر الأحادي، ورفض التعدّدية، تحت شعار ديني، مرحلة دفاع عن النفس، نحاول تجاوزها، فإنّ ذلك لن يتحقق إلّا بتجاوز مرحلة الهجوم على الأُمّة، ومحاولة تدمير قِيمها ومقدساتها وهُويّتها.
وعندما يظن البعض أنّ محاولة تدمير الذات العربية والإسلامية، هي ممارسة لحرّية الفكر، فإنّهم بذلك لا يتجاوزون الحرّية فقط، بل وأيضاً كلّ الشروط الإنسانية. فكلّ ما تعتقد الأُمّة فيه، وترى أنّه أساسي في حياتها، يصبح من مقدساتها، التي لا يجوز الهجوم عليها، والتحقير من شأنها. وما نتكلم عنه هنا، هو الفعل الهجومي ضد التراث والأُمّة، وهو الفعل الذي يقوى بالسلطة، ويتحوّل إلى قانون، ويفرض على الجميع. فعندما تكون ممارسة الحرّية من قبل النُّخبة، مانعة لحرّية الأُمّة نفسها، فإنّ ذلك يسحب من النُّخبة حرّيتها.
لذلك، فعندما يقف الهجوم على التراث، سينتهي العنف المادّي والمعنوي، الذي هو دفاع عن التراث. وبذلك نؤسس مناخاً يسمح بالنهضة، عندما نعيد للأُمّة اعتبارها، ونسمح لطليعتها بممارسة دورها. فعندما نحقق للأُمّة حرّيتها في وطنها، يمكن أن نتحدّث بعد ذلك عن حرّية وكلاء الغرب!. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق