إنّ الرسول (ص) كان يتمتع بوحي نفسي، وما القرآن إلا من استنباطه العقلي، وإدراكه الوجداني عبّر عنه محمد بأسلوبه، وبيانه، ولغته، ومكنه من ذلك ذكاؤه، وفراسته، وقوة فطنته، وعمق تأملاته، ورفاهة أحاسيسه استخدمها كلها في تلفيق الأخبار، وسرد الغيبيات، وتبيان الحقائق العلمية.
ـ تفنيد هذه الشبهة:
يمكننا تفنيد هذه الشبهة بعدة أمور هي:
أولاً: إن الرسول (ص) لم يعرف عنه أنه كان يتمتع بالوحي النفسي، وقومه يعرفونه حق المعرفة، والقرآن الكريم يتعدى، ويتجاوز كل ما نسبوه إلى الرسول (ص) من صفات، وخوارق، بل يتعدى كل استنباط عقلي، أو إدراك وجداني.
وكذلك لم يعرف عن النبي (ص) قبل البعثة أنه أُوتي خوارق الأخبار، والغيبيات، والعلوم، كما أنه لم يحدث عن أساطير الأولين، وهو المشهور بصدق الحديث الصادق الأمين.
ثانياً: فبالنسبة لأخبار الأمم، وقصص الأنبياء مع أقوامهم، فإن ما جاء به القرآن فوق طاقة العقل البشري، ومهما أوتي من ذكاء، أو فطنة، أو فراسة، مما يثبت أن تلك الأخبار، والقصص إنما وردت، وبكل يقين للنبي (ص) عن طريق التلقي، والتلقين، والإيحاء ممن يعلم الغيب. وهذا مصداق قوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إنّ العاقبة للمتقين) سورة هود آية 49.
وقد ربط الله تعالى بين التنزيل القرآني، وسرد القصص على مسامع النبي (ص) مصداق قوله تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) سورة يوسف آية 3.
وقد تناول القرآن قصص الأنبياء، والرسل، وأخبار الماضين بتفصيل لحقائقها، وتبيين لوقائعها بشكل واضح تعجز عنه العقول، والتنبؤات، وبشكل يخرص الألسنة، ويسكت الأقلام، ويفند الافتراءات، فالقرآن يضرب فى أغوار التواريخ، ويخبر عن أقدم الأخبار في خلق الأمم مما يتجاوز حدود إعمال الفكر بحيث يستحيل على النبي (ص) أو غيره أن يعرفها، أو يطلع على أخبارها. والقرآن نفى ذلك عن الرسول (ص).
فهذه آيات قرآنية تفصل أحوال موسى، وفي أخباره مع أهل مدين. قال تعالى: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين * ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين) سورة القصص آية 44 ـ 45.
وهذه آيات قرآنية تخبر عن كفالة زكريا لمريم، وولادة المسيح منها كلمة من الله تعالى. قال تعالى: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون * إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يُبشِّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين) سورة آل عمران آيات 44 ـ 45.
وهذه آيات قرآنية تسهب في سرد قصة يوسف مع إخوته. قال تعالى: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) سورة يوسف آية 102.
وقد تناولت الحكمة الربانية في سرد القصص، ورواية الأخبار بين جميع الأنبياء، والرسل أيضاً. قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى) سورة يوسف آية 109. وقد أصل القرآن الكريم عظمة الاعتبار من سرد القصص، وشواهد تثبيت معالم الألوهية لهذا القرآن. قال تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) سورة يوسف آية 111.
وقد تناول الإعجاز الإلهي في سرده للقصص أرقاماً حسابية وحقائق عددية تثبت ألوهية هذا القرآن، وتنفي عنه صفة الوحي النفسي البشري.
القرآن يذكر مدة مكث نوح (ع) في قومه، وهي: ألف سنة إلا خمسية عاماً.
قال تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسية عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) سورة العنكبوت آية 14.
والقرآن يذكر مدة لبث أصحاب الكهف في كهفهم، وهي: ثلاث مائة وتسع سنوات. قال تعالى: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً) سورة الكهف آية 25.
ثالثاً: وبالنسبة للغيبيات المستقبلية: فقد أعجزهم القرآن، وأثبت أن ذلك ليس في مقدور البشر حتى والأنبياء منهم، فقد أخبر القرآن غيبيات كثير من الأمور، والحوادث التي ستقع مستقبلاً، ومنها:
أ ـ انهزام المشركين في غزوة بدر، مصداق قوله تعالى: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) سورة القمر آية 45. فسورة القمر مكية، وانهزام المشركين حصل في بدر في المدينة بعد هجرة النبي (ص) إليها بسنتين.
ب ـ غيبية انتصار الروم على الفرس في بضع سنين مصداق قوله تعالى: (الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون) سورة الروم آيات 1 ـ 4.
ج ـ غيبية أداء عُمرة القضاء، ودخول المسجد الحرام محلقين رؤوسهم ومقصرين مصداق قوله تعالى في سورة الفتح: (لقد صدق الله رسوله الرياء بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون) سورة الفتح آية 27.
د ـ غيبية انشقاق القمر: مصداق قوله تعالى في سورة القمر: (اقتربت الساعة وانشقَّ القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) الآية 1 ـ 2.
رابعاً: وبالنسبة للحقائق العلمية فما ورد في القرآن يؤكد ألوهية التنزيل القرآني. والجميع على علم بأمية محمد (ص)، ولا شأن له بحقائق العلم الغيبية، والتي أوردها القرآن، والتي لا يزال العلم يكتشفها، ويؤكد حقيقتها كآيات ربانية تنفي عن النبي (ص) قرآنية الاستحداث الغيبي، أو الافتراء العلمي، أو الإيحاء النفسي كما يزعمون.
ـ أمثلة على هذه الحقائق:
الأولى: حقيقة خلق الإنسان من طين. مصداق قوله تعالى فى سورة ص: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين) الآية 71.
الثانية: حقيقة خلق الإنسان أطواراً، مصداق قوله تعالى في سورة المؤمنون: (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة خلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأته خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) الآيتان 13 ـ 14. ومصداق قوله تعالى في سورة نوح: (وقد خلقكم أطواراً) الآية 14.
الثالثة: حقيقة خلق كل شيء من ماء، مصداق قوله تعالى في سورة الأنبياء: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) الآية 30.
الرابعة: حقيقة دوران النجوم، والكواكب في أفلاكها. مصداق قوله تعالى في سورة يس: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) الآية 40.
ولنا القول: بأن شبهة تمتع الرسول (ص) بالوحي النفسي لا تقوم على دليل، وتفقد كل مسوغ. بل هي في حد ذاتها من قبيل الهذيان النفسي الذي انتاب نفراً من الضعفاء الحاقدين من أهل الكفر الذين لم يستطيعوا بأي حال من الأحوال أن ينكروا نبوة محمد (ص)، أو الوحي الإلهي بالقرآن له مصداق قوله تعالى في سورة الأعراف: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إليَّ من ربي) الآية 203. والرسول (ص) بشر من الناس اختصه الله بالنبوة، فلم العجب، والأنبياء والرسل كلهم من البشر!! قال تعالى في سورة الكهف: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) الآية 110. وإنه (ص) بشر لا يملك لنفسه نفعاً، ولا ضراً، ولا يعلم الغيب إلا بإيحاء من الله تعالى مصداق قوله تعالى في سورة الأعراف: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير) الآية 188.
وإنه (ص) يشهد على نفسه بالبشرية مصداق ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن: «سمع رسول الله (ص) خصومة بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمنن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها، أو يتركها».
ولعل من المفيد أن نختم الرد على هذه الشبهة بما قاله المفكر المسلم محمد عبدالله دراز في كتابه «النبأ العظيم» حيث يقول: «هذا الرأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم (الوحي النفسي) زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاؤونا برأي علمي جديد، وما هو بجديد، وإنما هو الجاهلي القديم، لا يختلف عنه في جملته، ولا في تفصيله، فقد صوروا النبي (ص) رجلاً ذا خيال واسع، وإحساس عميق، فهو إذن شاعر، ثم زادوا، فجعلوا وجدانه يطغى كثيراً على حواسه، حيث يخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصاً يكلمه. وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة خيلته ووجدانه، فهو إذن الجنون أو أضغاث الأحلام. على أنهم لم يطيقوا الثبات طويلاً على هذه التعليلات، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة الوحي النفسي حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلية، فقالوا لعله تلقفها من أفواه العلماء في أسفاره للتجارة، فهو إذن قد علمه بشر. فأي جديد ترى في هذا كله؟!! أليس كله حديثاً معاداً يضاهون به قول جهال قريش!! وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة متسخة، بل ممسوخة منه في أقدم أثوابه، وكان غذاء هذه الأفكار المتحضرة في العصر الحديث مستمداً من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجرة في عصور الجاهلية الأولى مصداق قوله تعالى في سورة البقرة: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم) الآية 118. وإن تعجب فعجب قولهم مع هذا كله إنه كان صادقاً أميناً، وإنه كان معذوراً في نسبة رؤاه إلى الوحي الإلهي، لأن أحلامه القوية صورتها له وحياً إلهياً، فما شهد إلا بما علم، وهكذا حكى الله لنا عن أسلافهم، حيث يقول في سورة الأنعام: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) الآية 33. فإن كان هذا عذره في تصويره رؤاه وسماعه، فما عذره في دعواه أنه لم يكن يعلم تلك الأنباء لا هو ولا قومه من قبل هذا، بينما هو سمعها بزعمهم من قبل. فليقولوا إذن: إنه افتراه، ليتم لهم بذلك محاكاة كل الأقاويل. وهم يدعون التعقل، ألا فقد قالوها من حيث لا يشعرون».
المصدر: شبهات حول القران وتفنيدها
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق