• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

شمس المعرفة ودفء السلوك الإنساني

عبدالباقي يوسف

شمس المعرفة ودفء السلوك الإنساني
    ليس بوسعنا قول شيء يجدي عن المعرفة قبل وضعها تحت المجهر التاريخي والتأملي والحسي. ونحن نتأمل عوالم وجزئيات هذه الكلمة الدلالية الكبرى، تجلو أمام حواسنا ومدركاتنا معالم التدرّج التي تشكّل معيار التوازن في عمق الإنسان، هذا المعيار الذي يمكن للإنسان امتلاكه والتحكّم به وفقما يشاء بواسطة بناء علاقة معرفية عميقة معه، والذي يمكن له أن يستبدّ بصاحبه الذي يطلق العنان لأهوائه ونوازعه بكافة المستويات العدوانية التي تبعده عن قيمة الحكمة الإنسانية. فهذا المعيار هو منشأ الزلازل العصبية والغرائزية العدوانية الكبرى، وهو منشأ روح الحكمة والاستقرار النفسي والهدوء العصبي ويمكن ملاحظة معالم هذا المعيار في الوجوه التي تشرق بالاستقرار والطمأنينة، والوجوه المظلمة بالاضطراب، والمنطفئة بالتهابات الشر ولاأقول بأن شعرة المعرفة تفصل بين الوجهين، بل إنه جبل المعرفة الذي يفصل بينهما. المعرفة كلمة شاملة لانهائية تغري إنسان كل زمان ومكان للعوم في فضاءاتها اللامتناهية، والنهل من معينها الذي لانضوب فيه. دوماً يبرق وميض معرفة في مدركات إنسان غافل، ينبثق من غيب، فينتبه أن نوراً أضاء مساحة مظلمة في فضاء روحه. مادام الغيب يلبث مشرعاً في سلّم خطوات الإنسان، فإن المعرفة تلبث حاملة إليه نور لآلئها كل ساعة وكل هنيهة.   - نول المعرفة: يجد الإنسان نفسه مندفعاً بقوة غريزية نحو عوالم مغلقة، نحو كشف أسرار لايعرفها، كلمات لم يسمعها، يظل ملاحَقاً وملاحِقاً هذه الغريزة ليحقق أكبر قسط من مدركات معرفية، حتى غمضه الروح الأخيرة يدرك أنه علم شيئاً جديداً وهو في ذورة تلك اللحظات الوداعية الأخيرة للكون. المعرفة هي نظرة الإنسان نحو مستقبل غامض، مستقبل يخبئ مفاجآت متوقعة وغير متوقعة، إنها شمس لسوف تشرق بكل حيواتها، وليل سوف يخيِّم بكل سكونه. إنسان لم يتعرض لشمس المعرفة هو في النهاية لسوف يموت ارتجافاً من قوة البرد. يمكن الآن أن نتوسع في كلماتنا لتحملنا إلى أسئلة المعرفة ضمن فضاء فقهي مفتوح. أقول بقوة: إن المعرفة هي ثورة ذهنية جريئة على جمود العقل البشري ومدركاته الفكرية. لم تكن المعرفة في يوم منحصرة في أناس دون غيرهم، ولا في زمان دون غيره، وهي لاتقبل الذهاب إلى المقابر، أو تنطفئ في بطون كتب صفراء. إنها الشمس التي تسطع كل يوم فتأتي لبناء الإنسان بضوء جديد غير الذي أتاه بالأمس. أما كيف يشكّل الإنسان جزءاً من هذه المعرفة فهذا أيضاً أمر مفتوح كالمعرفة ذاتها لأن الطرق إليها متعددّة ومتفرعة وأحياناً تكون متشتتة فيلتبس الأمر على السائر ويتوه في تيه خطواته. ليست الكتب وحدها وسيلة للمعرفة، ولا الفضائيات وحدها، ولا التجارب البشرية وحدها، ولا الأسفار في الأرض، ولا تعلّم اللغات وحدها، ولا التقدم في السن، أو المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السلالية. فكل لون من هذه الألوان هو طريق إلى غصن من غصون شجرة المعرفة وكلما نهل المرء من ثمار غصن امتلأ بالحياة وأحس بالنضج وهكذا فهو يقطف ثمار المعرفة ويزداد استقراراً وانفتاحاً وامتلاء. وهكذا فإن صوت المعرفة هو صوت الأبدية. تبقى المعرفة هي التي تميز إنساناً عن غيره والإنسان يمكن له أن يرتقي في ألوان المعرفة حتى يغدو مرجعاً معرفياً في لون معرفي ما. أبواب المعرفة مشرعة أمام الجميع لاتنغلق أمام أي إنسان وفي أي وقت، ولكن على الإنسان أن يسعى إلى المعرفة ويطوّر نفسه فهي لاتطرق باب أحد ولكنها دائمة الانتظار لمن يطرق أبوابها. في الموروث الصوفي تعرّض كثير من المتصوفين لتعريف المعرفة في شبه إجماع على أن المعرفة لاتتحقق إلا بمعرفة النفس. قال التستري: "أول مقام في المعرفة أن يعطي العبد يقيناً في سره تسكن به جوارحه". وورد في كتاب "التعرف لمذهب أهل التصوف" لأبي بكر الكلاباذي: "العارف مَنْ كان علمه حاله". وأما النفري فقد تعرّض في كتابيه "الموقف" و"المخاطبات" للمعرفة وميّز ما بينها وما بين العلم، فرأى بأنّ المعرفة هي نظرة الإنسان إلى داخله، بينما العلم فهو نظرة الإنسان إلى الخارج. ومن هنا فإن المعرفة هي أعلى من العلم، كون الروح أسمى من المادة، والإنسان الذي لايتعرف على داخله يستحيل عليه أن يتعرف على مظهره.   - السلوك الإنساني: السلوك الإنساني يقود الإنسان نحو ممارسة سلوك يميِّزه، لقد كان الإنسان عبر تاريخه جاهلاً مظلماً إلى أن استيقظ فيه السلوك الإنساني فعلّمه وأنار ظلمته. هذه هي طبيعة الإنسان، فهو لايتعلم إلاّ من ذاته، فلو لم يمر بتجارب قاسية وتعلم منها للبث يمارس سلوكاً حيوانياً، ولما استطاع أن يحقق كل هذه الثورة العلمية والفكرية والثقافية التي تؤكد تميّزه وتأثره بما تلقاه من خبراته. ليس للإنسان أي مصدر لعلمه وثقافته سوى إنسانيته وأعماق إنسانيته ولم يكن ليتثقف لولا أن ثقّفه سلوكه الإنساني، إذ لايوجد شخص عبر التاريخ البشري كله ادّعى أنّ ثقافته أتتْ من كوكب آخر. السلوك الإنساني وعبر تاريخه الطويل أراد أن يرسخ قاعدة "الأخلاق" في ضمير الإنسان، ليتمتع هذا الكائن الجديدة على كوكب الأرض بالمشاعر الإنسانية على قدر اكتسابه للأخلاق. وعندها سيغدو الإنسان أكثر رقياً وأكثر حضارة وأكثر قيمة وأكثر قرباً من نفسه. لسوف ينفتح الإنسان على إنسانيته بصورة أوضح، ولسوف يتعرف الإنسان على ذاته كما لم يتعرف عليها من قبل، سيخطو خطوات هائلة نحو استثمار هذا العلم والانفتاح البشري الذي لم يكن يخطر ببال إنسان من قبل حتى في الحلم، وسينجز في قرن ما لم ينجزه أجداده في مليوني سنة. لم يكن ذلك من فراغ، فالإنسان هو الإنسان ذاته، بل ربما كان الإنسان الأقدم أكثر قوة وأطول عمراً، ولكنه لم يكن أكثر انفتاحاً لأنه لم يكن قد انفتح على ذاته وعلى طاقات الإنسان في ذاته. ثمة أمر على قدر من الأهمية هو أن السلوك الإنساني استطاع أن يقنع الإنسان بأنه منفصل عن الحيوان، وهو ليس حيواناً بأي شكل كما أن الحيوان ليس مطلوباً منه أن يمارس سلوكاً إنسانياً لأن السلوك الإنساني هو مغاير عن السلوك الحيواني، ولو تأنسن الحيوان ذاته لرأى تردداً في مسألة إباحيته وهمجيته. الحيوان يأتي الطعام فيلتهمه التهاماً دون أن ينظر فيه حتى لو كان في ظلمة، ولكن معدة الإنسان قد لاتقبل طعاماً إلا إذا كان في ضوء ومعرفة نوعية هذا الطعام، وتذوّقه أولاً، وقد ترفض هذا الطعام جملة إذا وقعتْ فيه حشرة. والإنسان لايلتهم أي طعام يلقاه، بل إن المطاعم تقدّم بياناً بأنواع المأكولات، فينتقي الإنسان الأنواع المحببة إليه ويمضغ اللقمة على مهل، ويستمتع بالنكهة والطعم واللون، ولايدفع اللقمة إلى معدته إلا بعد مضغها بشكل جيد والتمتع بنكهتها وطيبها ورائحتها. وهو يكون في فراشه الآمن مع زوجته متأدباً، وحتى هو في حجرة مغلقة آمنة، فإنه يطفئ الضوء، وحتى وهو يطفئ الضوء فإنه يتغطى، وإن أراد حديثاً فإنه يتحدث همساً، وإن أراد ملاطفة، فإنه يلاطف بحياء. وهذا هو ذروة السلوك الإنساني الذي يحفظ له إنسانيته، فهو له مقدسات وأسرار ومحرمات على عكس الحيوان الذي لايجد حرجاً من الاغتصاب والإباحية والمطاردات. فنجد شريحة ترى في هذا السلوك الحيواني الغريزي حرية، وتريد أن تعيش هذه الحرية البهائمية بكل لا محرماتها، ولاأخلاقياتها، ولاآدابها، وكان هذا قد حدث مع الإنسان البدائي عندما عاش في الغابات والكهوف، فكان يقلّد الحيوان في كثير من السلوكيات، ولكنه عاش شقياً لأنه كان يعيش ازدواجية حقيقية، لأنه بكل واقعية لم يكن حيواناً، وكان دوماً يصطدم بحقيقة أنه إنسان وعليه أن يترفع عن هذه السلوكيات التي لا تناسبه كما تناسب الحيوان. رغم لك هذا التطور والتاريخ الطويل من الحضارة والرقي البشري فما زال البعض يريد أن يعيد الإنسان إلى الغابات والكهوف ليعيش ببهائمية البهائم، ولكن هؤلاء أنفسهم يعانون ازدواجية حادة ترهقهم لأنهم لا يستطيعون أن ينسوا انتماءهم إلى السلسلة الإنسانية وبذلك يعيشون في عزلة حقيقية عن دفء العلاقات الاجتماعية الراقية والنزيهة إلى جانب أنهم ينحرفون عن أعظم شعور إنساني، ينحرفون عن الحب الذي به يكتمل الإنسان، ويتذوّق حلاوته كلما سما، وعليكم أن تتصوروا حياة كائن بشري لا يحب، حتى البيت الذي لا تحبه فإنك تكره الجلوس فيه، حتى السيارة التي لا تحبها فإنك تكره قيادتها، حتى المدينة التي لا تحبها فإنك تكره العيش فيها، حتى الأغنية التي لا تحبها فإنك تكره سماعها، حتى المرأة التي لا تحبها فإنك تكره النوم معها. ولكنك تعيش في البيت الذي تحبه بفرح، تقود سيارة تحبها وأنت تبتسم وتمضي في مدينة تحبها كأنها مملكتك، تستمتع بأغنية تحبها كأنها غُنيت لك، تحتضن امرأة تحبها كأنها ستغادرك غداً ولن تترك بين يديك غير بقاياها. وإن كانت تلك الفئة التي تطالب ببهائمية السلوك البشري، تعنيه وتتقصده، تقف إلى جانبها فئة أخرى تعيش السلوك البهائمي دون أن تعنيه أو تتعمده، فهي تلتهم الطعام أياً كان وعلى عجلة البهائم، وتلاحق غرائزها في الطرقات والأزقة وإن حدث ذلك وقوفاً على طريقة الحيوان، تدخل البيوت قبل أن تطرق أبوابها، تقتحم الناس دون ضوابط أو مواعيد، وإن أكلت طعاماً لا تغتسل منه، إن بالت لا تستبرئ من بول، إن تحدّثتْ ألقت الكلام على عواهنه.   - يقول لك السلوك الإنساني: لا تخط خطوة إلى موضع لا يسبقك إليه قلبك. لا تأكل لقمة لا يسبقك إليها قلبك لا تلبس لبساً لا يسبقك إليه قلبك لا تزر شخصاً لا يسبقك إليه قلبك لا تنكح امرأة لا يسبقك إليها قلبك لا تعمل عملاً لا يسبقك إليه قلبك لا تقرأ كتاباً لا يسبقك إليه قلبك لا حرج عليك أن تسعى بذاتك نحو الأفضل، أن تكرّم ذاتك أن تبدو في مظهر حسن وأنت في بيتك وفي الناس، أن تكافح الفقر بالعمل، أن تحسن وضعك المعيشي والمالي. ولا ينحصر الغنى هنا بغنى المال، بل يشمل غنى الصحة، وغنى المودة، وغنى الإيمان، وغنى التسامح. واعلم أنك لا تقدر على نظافة ما حولك إن لم تنظف ذاتك فلا يقدّم نظافة للآخرين مَنْ به روائح نتنة، ولا يستطيع أن يُطعم جائعاً مَنْ به جوع. تمتع دوماً بدقة اللمسات الأخيرة لأي عمل تمكنت منه، كن سيداً على جسدك وسيداً في الحياة، أكرم جسدك، تكرمك الحياة. احفظ جسدك حتى يحقق لك الصفاء الذهني والسكينة الروحية. إن جسدك يحتاج إليك حتى يكون في حالة سلم معك، عليك أن تغذيه، تنظفه، تعالجه، تحميه برد الشتاء، حرارة الصيف، أذى الأماكن الموبوءة، تحفظ كرامته، تستره، تكسيه، إنه يحتاج إلى حركة، يحتاج إلى رياضة، يحتاج إلى استرخاء، يحتاج إلى استحمام، يحتاج إلى تنزّه، يحتاج سفر. إن جسدك كوردة إن حافظت عليها لبثت متفتحة، وإن أهملتها ذبلتْ واحتضرت، وكما أن للوردة تربة طيبة صالحة تمنحها النضارة والإشراق، فإن تربة الأجساد هي الأخلاق الحميدة الصالحة. عليك دوماً أن تصلح من تربة جسدك حتى يبقى نضراً ومشرقاً. فانظر في حال الإنسان إذا تجرد من سلوكه الإنساني: يُروى في كتب التراث أن أبا حمزة الضبي قد هجر خيمة امرأته وكان يقيل ويبيت عند جيران له، حين ولدت امرأته بنتاً، فمر يوماً بخبائها وإذا هي ترقص ابنتها وتقول: ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا غضبان ألاّ نلد البنينا تا الله ما ذلك في أيدينا وإنما نأخذ ما أعطينا ونحن كالأرض لزارعينا ننبت ما قد زرعوه فينا وحتى في المجتمعات الأخرى لم تكن المرأة أفضل حالاً عندما تجردت تلك المجتمعات عن سلوكها الإنساني. عبّر سقراط عن مفهوم مجتمعه قائلاً: "إن وجود المرأة هو أكبر منشأ ومصدر للأزمة والانهيار في العالم، إن المرأة تشبه شجرة مسمومة ظاهرها جميل ولكن عندما تأكل منها العصافير تموت حالاً". أما في عهد الإمبراطورية الرومانية فكانوا يعذبون النساء بسكب الزيت الحار على أجسادهن تارة، وأخرى بربطهن بذيول الخيول الماهرة وجرهن. وفي الهند فإن عقيدة/ سانتي/ تقضي بموافقة المرأة التي مات زوجها على حرق جسدها بجانبه وإن رفضتْ ستكون شاذة ومذمومة حتى من أقرب الناس إليها. وفي الصين فقد تم تلخيص المرأة بأنها مثل/ المياه المؤلمة/. وعقيدة/ نيوك/ تقول بأن على المرأة أن تضطجع مع غير زوجها حتى تنجب الأولاد. أما في عقيدة/ بها كوداكينا/ يقول السير بندرا كان: "يرون المرأة ما هي إلاّ تجسيد للأرواح الخبيثة المجرمة التي ولدتْ على هيئة امرأة". وفي كتابها "وضع المرأة في مهابهارتا" يقول أنديرا: "تشبه المرأة بالسيف الحاد إنها تولد النيران ومن أجل هذه الخصائص على الرجل ألاّ يحبها ولا يعشقها أبداً". ولبث الأمر على ما هو عليه حتى عند المجتمعات اليهودية التي نظرت للمرأة الحائض على أنها نجسة وأنها تنجّس كل ما تلمسه حتى إذا كان حيواناً، والمرأة هي المسؤولة الأولى عن أي عمل غير أخلاقي يقوم به الرجل، وفي هذه المعتقدات فإنه يجوز للأب مثلاً أن يبيع بناته بيع الرقيق، وفي حال الولادة فإن عليها تقديم ذبيحة تكفيراً عن نجاستها بعد مرور أربعين يوماً للمولود الذكر وثمانين يوماً للأنثى. وهذا ذاته استمر، فهي المسؤولة عن خطيئة الإنسان الأولى لدرجة أن البعض رأى أن الله قد بعث عيسى حتى يتعذب ويُصلب ليغسل ذنوب الإنسان، وقد امتنع البعض بالفعل من الاقتران بالمرأة لأن عيسى نفسه لم يلمس امرأة. ففي خطابه إلى النساء يقول ترتولين: "يستمر إلى اليوم توبيخ الله لكنّ ولجنسكنّ عامة، وعلى هذا يجب أن يبق في نسلكن الشر والحقد. أنتن أيتها النساء مدخل للشيطان، أنتن اللاتي قطفتن من ثمار تلك الشجرة الممنوعة، أنتن اللاتي حطمتن القانون الرباني، أنتن اللاتي خدعتن آدم، وذلك قبل أن يبدأ الشيطان حملاته، أنتن اللاتي أضعتن أسماء الله بسهولة كاملة من طبيعة البشر، وإن شقاء الموت يرجع لعملكن القبيح، وحتى موت ابن الله يرجع لعملكن الشنيع". ويصف جريجوري توماركوس المرأة بقوله: "لقد بحثت عن العفة بينهن ولكن لم أعثر على أية عفة، يمكن أن نعثر على رجل من بين ألف رجل ذي عفة وحياء ولكن لن نتمكن أن نعثر على امرأة واحدة لها عفاف وخجل. إن الوحشية والافتراس خاصة الكواسر، والغضب المملوء بالموت خاصة الثعابين، ولكن المرأة علاوة على امتلاكها لهاتين الصفتين تتصف بالحقد والحسد أيضا". الإنسان الذي يمارس سلوكه الإنساني "كالغيث أينما وقع نفع" وهو شخص لا يعرف اليأس ولا القنوط، وفي الوقت الذي تستولي فيه الكآبة على شخص أصابه الأرق وعجز عن النوم وبدأ يستخدم أدوية منوّمة بسبب سلوكه الإنساني الضعيف، فإن الراسخ في سلوكه الإنساني يُدرك أنّه لا بد أن يمر كالطبيعة بتقلبات في بدنه وروحه. ها هو إنسان به سلوك مركبته، فتقفز قطة إلى العجلات يهتزّ فيه السلوك الإنساني ويوقف مركبته بكل قوة، لكنه يدرك دهس القطة، يرتجف خوفاً من الظلم، تعلو حنجرته غصة، تذرف دموع من عينيه، ويأبى المضي كأن شيئاً لم يكن، يشرد بعض الوقت، ثم يهتدي إلى حمل الضحية فيحفر لها حفرة صغيرة ويبتعد عن القبر الصغير بخطوات وجلة. بعد شيء من مسير يتوقف لشخص مقطوع فيوصله إلى بيته، يرى سائلاً فيعطيه، يرى ضائعاً فيرشده، يرفع ضائقة عن شخص يئن تحتها. إنه يكفّر عن خطيئته ويسأل سلوكه الإنساني ألا يتجرد منه. إنك لا تستطيع أن ترفق بالحيوان ما لم تحبه، وتنظر إليه على أنه إبداع مثلك، وهذا التنوع في الأحجام والتراكيب إنما هو دليل غنى الخلق. لا يمضي الإنسان في نهج خطيئة حتى يزينها في نفسه، ويرتكبها بينه وبين نفسه، لأن الشهوات تسبقها الشبهات، فالسارق، يخطط لسرقته، ويمارسها في مخيلته حتى يجيز لنفسه أن يكون سارقاً قبل أي فعل سرقة على أرض الواقع، ثم تليها مرحلة التنفيذ المادي فتنقل هذه السرقة من داخل النفس إلى أرض الواقع. وهكذا يكون الأمر بين الخلوة بين رجل وامرأة، فالرجل والمرأة يكونان في حالة اشتباه ويقبلان هذا اللقاء ويجيزان لنفسيهما ذلك حتى يتمكنان من الاندفاع إليها. قال أحمد شوقي: نظرة، فابتسامة، فسلام، فكلام، فموعد، فلقاء. ويمكن أن يكون الأمر عكسياً، فإنسان يحقق في ذاته سلوكاً إنسانياً، يحمل في نفسه قيماً تمنعه من السرقة، وهو يدفع الشبهة فلا تتحقق في ذاته، في هذه الحالة حتى لو اختلى هذا الرجل بالمال فإنه لا يقدم على سرقته لأن هذه السرقة لم تتحقق في نفسه أولاً، فينسحب من المكان وهو يتمسك بعفة نفسه، وإن تكرر الموقف فإنه يستغني عن الموضع المشبوه كله، فيبحث عن عمل آخر لا شبهة فيه، وهكذا الأمر بالنسبة للرجل والمرأة، فكم من رجل امتنع عن دخول بيت بسبب شبهة تراوده، وكم من امرأة تركت عملها في دائرة بسبب شبهة تتحاشاها. فالأعمال كما لا تكون إلا على أساس "النيات" فإن أصابك مرض فأنت تتخيَّل ذهابك إلى طبيب، وتتخيَّل أن مرضك له دواء لأنك تؤمن أنّ ما من داء، إلا وله دواء، ودون هذا التخيّل الذي يوصلك إلى قناعة الذهاب إلى الطبيب، فإنك لن تذهب إليه. علاقتك الكلية هي مع نفسك، لامع جسدك، لأن الجسد يمضي إلى حيث تدفعه النفس، ومن هنا فإن النفس هي تلك التي تتمتع بما أبيح لها، وهي التي تتألم بما نهيت عنه، فإن خرجتْ النفس من الجسد ما تألم الجسد حتى لو قطع منه عضو، وإن خرجتْ النفس لن يتمتع الجسد حتى لو وُضع في جنة من جنان الأرض. فإن أردتَ التخلص من خطيئته دفعك إليها سلوك شاذ، لن يكون لك ذلك ما دمتَ لا تقلع عنها في نفسك، عليك أن ترفضها جملة وتفصيلاً في نفسك، ولا تتمثلها ولا تتخيّل نفسك بها، عند ذلك فإن فعل الخطيئة لا يقع. تبقى العلاقة بين المعرفة وبين تطوير السلوك الإنساني والارتقاء بهذا السلوك علاقة مترسخة، فكلما عرف الإنسان، كلما ارتقى في سلم سلوكه الإنساني.   *  كاتب وباحث سوري   المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 495 لسنة 2004

ارسال التعليق

Top