أ. د. محمود عباس
◄في حديث القرآن الكريم عن الصلاة والزكاة والصيام يتوجه الخطاب دائماً إلى المؤمنين لأنّ التكليف بتلك العبادات تكليف مستمر، ومن الصعب أن ينهض الإنسان بهذا التكليف المتواصل إن لم يكن مؤمناً بعظمة المعبود الأوحد جلّ في علاه، فالمسلم مكلف بالوقوف بين يدي الله خمس مرات، ومكلف بالسعي أسبوعياً إلى صلاة الجمعة عندما يسمع النداء، ومكلف بالصيام سنوياً عند رؤية الهلال، ومكلف بالزكاة حولياً إذا بلغ المال النصاب، فالمؤمن في تكليف دائم وعبادة لا تنقطع إلا بالرحيل إلى الله (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر/ 99)، أما فريضة الحج فالخطاب بها موجه إلى البشر جميعاً، وإلى العالم كله وليس موجهاً إلى المؤمنين وحدهم فيقول سبحانه: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) (آل عمران/ 97)، وإبراهيم عليه السلام أمر أن يؤذن في الناس جميعاً بالحج (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) (الحج/ 27)، (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (المائدة/ 97).
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)البقرة/ 125)، فالخطاب بالحج أو بالرحلة إلى البيت الحرام موجه إلى الناس جميعاً شأنه في ذلك شأن رسالة الإسلام موجهة إلى العالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (سبأم 28)، فالدعوة إلى الحج كالدعوة إلى الإسلام عامةً لكل الناس ولهذا كانت فريضة الحج آخر أركان الإسلام لأنّ الحج ليس فريضة مستمرة ولا يجب في العمر إلا مرة ففيها متسع للمسلم حتى يستطيع، وفيها متسع لغير المسلم حتى يفيق من غفلته، ويتوب إلى رشده فيهتدي بعد ضلال ويؤمن بعد كفران.. وفي عموم الخطاب بالحج إشارة إلى ضرورة أن تفيق شعوب الأرض من سلبيات الوهم والضلال فيعودوا إلى ميراث أبي الأنبياء إبراهيم (ع) وملته، فالذي رفع القواعد من البيت هو إبراهيم وليس محمداً – عليهما الصلاة والسلام – والذي أذن في الناس بالحج هو أبو الأنبياء إبراهيم (ع)، والمقام الذي أمرنا أن نتخذه مصلى هو مقام إبراهيم (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى...) (البقرة/ 125)، ومناسك الحج حول البيت المعظم أحيا بها الإسلام ملة إبراهيم (ع)، ومن أحياها من الناس فقد أحيا بها ملة أبي الأنبياء إبراهيم (ع)، ومن أعرض عنها فقد ورط نفسه في الخروج عن ملة أبي الأنبياء جميعاً (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة/ 130).
زعموا أنّ إبراهيم (ع) كان يهودياً وأنهم أولى الناس به ولكن سوء علاقتهم بملة إبراهيم (ع) تشهد بأنهم كاذبون فلو كانوا أولى الناس به كما زعموا لاتبعوا ملته كما دعاهم الحق سبحانه (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران/ 95)، ثمّ بيَّن لهم الحق سبحانه من أولى الناس بابراهيم (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 68)، ثمّ كانت الحجة التي أظهرت كذبهم فيما يزعمون أنّ القرآن الكريم بين لهم أنّ أول بيت وضع لعبادة الله في الأرض هو البيت الحرام (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) (آل عمران/ 97)، فإن كنتم أولى الناس بإبراهيم كما تزعمون لاحترمتم مقام إبارهيم وملة إبراهيم والبيت الحرام الذي بناه ورفع قواعده إبراهيم (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران/ 97)، والحق سبحانه جعل حَجَّة على الناس جميعاً فمن اهتدى بعد ضلال فقد استطاع إليه سبيلاً (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 97)، وقد ركّز القرآن الكريم على أنّ اتباع ملة إبراهيم ليست دعوة الإسلام وحده وإنما كانت وصية الأنبياء (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 132-133)، وسوف يظل بيت الله الحرام مثابة للناس وأمناً ومهوى الأفئدة التي تستروح أنفاس الإيمان أما الأدعياء من اليهود ومن على شاكلتهم من شعوب الأرض فسوف يظل البيت العتيق برهاناً على فساد مزاعمهم في نبي الله إبراهيم (ع)، كما يظل هذا البيت المعظم في مركز الدائرة من حركة العالم كله والكل سوف يظل في دوران وطواف حول هذا البيت المبارك، فمن جاء موعده وفتح الله له الباب جذبه البيت إلى أحضانه والقرآن إلى أنواره (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ) (الأنعام/ 125).
المصدر: كتاب القرآن وقضايا العصر
ارسال التعليق