• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مفهومان لحجاب المرأة

أسرة البلاغ

مفهومان لحجاب المرأة

موضوع حجاب المرأة وعلاقتها بالحياة العامّة من حولها، برز منذ عدّة قرون مفهومان تلبّسا بمصطلح الحجاب تأريخياً:

 

1-  المفهوم الجاهلي للحجاب:

فقد شهد تاريخ المرأة في مراحل الجاهلية الأولى التي ألقت بأثقالها على تاريخ الإنسان قبل بزوغ شمس الإسلام الحنيف لوناً قاسياً مريراً من ألوان "الحجاب" حيث تمّ حجب المرأة عن الحياة العامّة حتى تحولت تحت ضغط تلك "الحضارات" الجاهلية البائسة إلى سلعة تباع وتشترى، وتجرد عن معاني الإنسانية، وتحولت إلى "شيء" مادي يستكثر منها الرجال لمتعتهم أو لاستخدامها في شؤون أخرى كاستخدام العبيد في أمور اقتصادية تماماً.

ومهما قيل عن الدواعي التي دعت الرجال في تلك المجتمعات الغابرة أن يصادروا وجود المرأة بالكامل، سواء افترضوها أسباباً اقتصادية أو جنسية أو روحية أو ما إليها، فإنّ استغلال المرأة وهضم حقوقها ومصادرة إنسانيتها قد بلغ حدّاً يعسر تصوره لإنسان العصر الحديث حيث تراوح الظلم الذي وقع على المرأة بين ظاهرة "الحريم" وظاهرة الوأد، وما بينهما تتعدد المفاهيم والمواقف الظالمة التي:

منها: اعتبار المرأة شيطاناً يرتدي اهاب إنسان ليمارس دور تضليل الرجال كما تتصور النزعات الصوفية القديمة.

ومنها: تصور المرأة حيواناً خلق في صورة إنسان ليخدم الرجال ويحقق متعهم كما تظن الجاهليات ما قبل الإسلام.

ومنها: اعتبار جسمها جسم إنسان وروحها روح حيوان كما تصورتها أوربا ما قبل انقالبها الصناعي.

ولك بعد هذا أن تقدر حجم المعاناة التي تصب على المرأة عملياً في إطار اعتبارها شيطاناً أو حيواناً في صورة بشر، أو مجرد سلعة تقتنى كما تقتنى سائر الأشياء المادية!

وهذه نماذج عملية من تلك المعاناة التي ترشحت عملياً في دنيا الواقع تأسيساً على تلك الأفكار الظالمة:

-         فالقرآن الكريم يذكر نماذج من معاناة المرأة حين رزحت تحت عبء الجاهلية العربية التي هدّمها الإسلام الحنيف:

(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (النحل/ 58-59).

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) (الإسراء/ 31).

(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير/ 8-9).

-         وتقول السيرة النبوية الشريفة: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى النبيّ (ص) فقال: إنِّي وأدتُ ثماني بنات في الجاهلية[1]..

-         ويسجِّل تاريخ الجاهلية العربية ما يلي:

"وكان الوأد يتم في صورة قاسية، إذ كانت البنت تدفن حيّة! وكانوا يتفننون في هذا بشتّى الطرق. فمنهم مَن كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها، ثمّ يقول لأمّها: طيِّبيها وزيِّنيها حتى اذهب بها إلى أحمائها! وقد حفر لها بئراً في الصحراء، فيبلغ بها البئر، فيقول لها: انظري فيها، ثمّ يدفعها دفعاً ويهيل التراب عليها! وعند بعضهم كانت الوالدة إذا جاءها المخاض جلست فوق حفرة محفورة، فإذا كان المولود بنتاً رمت بها فيها وردمتها، وإن كان ابناً قامت به معها! وبعضهم كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها مهينة إلى أن تقدر على الرعي، فيلبسها جبّة من صوف أو شعر ويرسلها إلى البادية ترعى له إبله..!

فأمّا الذين يئدون البنات ولا يرسلونهنّ للرعي، فكانت لهم وسائل أخرى لاذاقتها الخسف والبخس.. كانت إذا تزوجت ومات زوجها جاء وليّه فألقى عليها ثوبه، ومعنى هذا أن يمنعها من الناس فلا يتزوجها أحد فإن أعجبته تزوجها، لا عبرة برغبتها هي ولا إرادتها! وإن لم تعجبه حبسها حتى تموت فيرثها، أو أن تفتدي نفسها منه بمال في هذه الحالة أو تلك.. وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح إلّا مَن أراد، إلّا أن تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها.. وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا زوجته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها.. وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها، فيحبسها عن الزواج، رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها، أو يزوجها من ابنه الصغير طمعاً في مالها أو جمالها..".

-         وفي اليونان كانت الحضارة الأغريقية تعتبر المرأة عديمة الأهلية، ولم يكن من حقّها مباشرة التصرفات القانونية[2].

وكان بعض كبار مفكري اليونان يرون حبس اسم المرأة في البيت كما يحبس جسمها، وخطيب اليونان الشهير "يوستين" كان يقول:

"إنّنا نتّخذ الزوجات ليلدن لنا الأبناء الشرعيين فقط".

-         إمّا عند الرُّومان فكانت المرأة الرومانية تعتبر متاعاً مملوكاً للرجل، وسلعة من السلع الرخيصة يتصرّف فيها كيف يشاء، ومن الغريب أنّ اجتماعاً عقد في مجمع روما للبحث في شؤون المرأة فقرّر أنّها كائن لا نفس، وأنّها لن ترث الحياة الأخروية، وأنّها رجس، ويجب ألّا تأكل اللحم، وألّا تضحك وألا تتكلّم، وعليها أن تمضي جميع أوقاتها في الخدمة والخضوع، وبلغ من احتقارهم لها أن منعوها من الكلام، كما تقدّم بعض أعضاء مجلس التربيون الروماني بقانون يحرّم على المرأة التملك الأكثر من نصف أوقية من الذهب، وأن تلبس ملابس مختلفة اللون، وأن لا تركب عربات إلى مدى ميل من روما إلّا في بعض الحفلات العامّة[3].

-         ويقول تاريخ أوروبا عن اليونان أنّ الرجل قد يجمع في بيته أحياناً عدّة مئات من النساء.

-         وتاريخ إيران القديمة يذكر أحداثاً وأرقاماً شبيهة بما كان في الجاهلية العربية والجاهلية الأوروبية القديمة، وإذا وردت بعض الاختلافات فإنّما هي في التفاصيل فحسب.. خذ مثلاً هذه الأرقام:

"إنّ أحداً في إيران القديمة لم يكن ليأمن على نفسه".

-         "كان خسرو "برويز" يحتفظ بثلاثة آلاف امرأة في حريمه، فهو لم يكن يشبع أبداً من هذه الرغبة.. وإذا رغب في تجديد حريمه، كتب الرسائل إلى ولاته يدرج فيها أوصاف النسوة اللواتي يريدهنّ، فكان أولئك كلّما عثروا على امرأة تطابق تلك الأوصاف بعثوا بها إليه"[4].

-         أمّا أوروبا في قرونها الوسطى فكانت تعتقد في المرأة ما يلي:

إنّها ينبوع المعاصي وأصل السيِّئة والفجور، وهي أصل المصائب الإنسانية، وهي سبب شقاء أهل الأرض يقول ترتوليان أحد قادة الفكر الأوروبي النصراني في القرون الوسطى واصفاً المرأة:

"إنّها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان وأنّها دافعة المرء إلى الشجرة الممنوعة – يقصد شجرة آدم (ع) المعروفة – ناقضة لقانون الله، مشوّهة لصورة الله!!"[5].

ويقول الفيلسوف "هربرت سبنسر" الإنجليزي في كتابه علم وصف الاجتماع عن مكانة المرأة في القرون الوسطى:

"إنّ الزوجة كانت تباع في انجلترا خلال القرن الحادي عشر، وقد سنّت المحاكم الكنسية في هذا القرن قانوناً ينصّ أنّ للزواج أن ينقل أو يعير زوجته إلى رجل آخر لمدّة محدودة"[6].

وقد رافق هذه المواقف المخزية من المرأة عمليات مروّعة لحجرها، وحبسها في المنزل وحجبها عن الحياة، الأمر الذي أطلق عليه تاريخياً بـ(حجاب المرأة) أي حجبها عن المساهمة في الحياة وحجرها عن التمتع بأي حق طبيعي مشروع.

إنّ هذا اللون من "الحجاب" الفكري والعملي الأسود للمرأة في العهود التي سبقت الإسلام الحنيف وعانت منها إيران والهند ومصر وأوروبا وبلاد العرب وغيرها هو الذي يصوّر لدعاة حرّية المرأة في العصر الحديث أنّ الحجاب الذي يدعو له الإسلام شبيه بتلك الأوضاع التي أفرزها "حجاب" عصر الحريم والوأد والنخاسة التي عانى منها تاريخ المرأة القديم.

فهم حين يسمعون مفهوم الحجاب تتداعى المعاني والمفاهيم التي ذكرناها في أذهانهم، ولم يتصوّروا أنّ الحضارة الإسلامية تضع مفهوماً آخر للحجاب لا يمت لذلك بصلة.

 

2-  المفهوم الإسلامي للحجاب:

إنّ مفهوم "الحجاب" الذي يتبنّاه الإسلام الحنيف ويدعو له يختلف جملة وتفصيلاً عن ذلك الحجاب الذي ابتدعته "حضارة" الجاهلية في الأرض بما فيه الظواهر الاجتماعية البائسة التي شهدتها قصور بعض سلاطين الأمويين والعباسيين وما إليهم بخصوص استغلال العنصر النسوي لتحقيق المتعة للسلاطين وحتى مصطلح الحجاب أساساً لم يدخل حياة المسلمين الفكرية إلّا حديثاً، ومهما أطلق فإنّه لا يغير من حقيقة حرص الإسلام الحنيف على ستر المرأة، وصياغة لباس خاص لها يتناسب مع إكرام الإسلام لها والحرص على عزّتها ونظافتها وطهرها.

فالإسلام ليس في قوانينه ولا أعرافه، ولا في تجربته الرسالية الصحيحة حجاب بمعنى حجب المرأة عن المساهمة في صنع الحياة، ولا حبسها في دائرة المنزل، كالذي شهدته "حضارة" الجاهلية أبداً، وحتى هذه اللفظة "لفظة الحجاب" حديثة الاستعمال في الفكر الإسلامي.

فإزاء عملية صياغة الإسلام لباساً خاصاً للمرأة ترتديه أثناء حركتها خارج دارها وضع الإسلام مصطلح السِّتر لهذه العملية.

وقد ألزم الرجال والنساء معاً بغضّ البصر عن غير محارمهما، وكما فرض على المرأة لباساً مادياً خاصاً فرض على الرجال فروضاً خاصة مقابل ذلك..

فلئن حدّد للنساء لباساً خاصاً يخفي مفاتن الجسد، فقد فرض على الرجال التقيّد بغضّ البصر عن غير المحارم من النساء إضافة إلى حفظ الفروج، وجرياً على الاستعمال الجديد لكلمة "الحجاب" للتعريف بمشروع الإسلام في الزي المحتشم يصح لنا أن نقول: إنّ الحجاب الإسلامي يشمل الرجال والنساء معاً، ولكن الماهية مختلفة، بالشكل الذي يحفظ الآداب، ويحمي الفضيلة ويكرم المرأة في الحياة العامة، وأمّا سوى ذلك فليس لدى الإسلام حريم ولا حبس ولا حجب، ولا حرمان من حق طبيعي، وليس في مقاييسه ومخططاته أن يحتقر المرأة ولا يسيء لها، ولا يمنعها من حقِّ مشروع، وكفى بالإسلام فخراً أنّ قيام تجربته الحضارية في الأرض كانت إيذاناً بانتهاء حركة الاستغلال والاستعباد التي مارسها الرجال ضدّ المرأة في الجاهليات التي سوّدت تاريخ الإنسان قبل إشراقة البعثة المحمدية المباركة.

إنّ حجاب الإسلام الحنيف للمرأة يتلخص بصياغة زي محتشم لها، إضافة إلى تحديد العلاقة بين الرجال والنساء غير المحارم ووضعها في إطار شرعي نظيف مؤطر بالعفّة والاحترام، وإعطاء الحقوق.

الهوامش:


[1]- مجمع البيان في تفسير القرآن: الطبرسي 10/442. بيروت، 1379هـ.

[2]- المرأة في جميع الأديان والعصور: محمّد عبدالله المقصود، ص38، نقلاً عن كتاب (المرأة عبر التاريخ): حسن محمّد جوهر/ ص41.

[3]- نفس المصدر، نقلاً عن كتاب حق الزوج على زوجه وحق الزوجة على زوجها: طه عبدالله العفيفي، ص12 و13.

[4]- مسألة الحجاب: الشيخ مطهري، ص87.

[5]- مجلة عفاف: عدد9، ص25.

[6]- المرأة في جميع الأديان والعصور: محمّد عبدالله المقصود، ص48.

ارسال التعليق

Top