• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

موقف القرآن الكريم من الإشاعات/ ج(2)

حسن السعيد

موقف القرآن الكريم من الإشاعات/ ج(2)

- سابعاً: الترهيب والترغيب
ومن أساليب مواجهة الحرب النفسية، والوقاية من كيد العدو، والتأثير النفسي، هو اللجوء إلى أسلوب الترهيب والترغيب في آن واحد، ومن ذلك قوله تعالى:
(نَبِّئ عبادي أنِّي أنّا الغَفورُ الرَّحيم * وأنّ عَذَابي هوَ العَذابُ الألِيم) (الحجر/ 49-50).
(حم * تَنزِيلُ الكِتابِ مِنَ الله العَزِيزِ العَلِيم * غافِرِ الذَّنبِ وقابِلِ التَّوبِ شَدِيدِ العِقابِ ذي الطَّولِ لا إلهَ إلا هوَ إليهِ المَصِير) (غافر/ 1-3).
(اعلَمُوا أنّ اللهَ شَديدُ العِقابِ وأنّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيم) (المائدة/ 98).
(إنّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقابِ وإنّهُ لَغَفُورٌ رَحِيم) (الأعراف/ 167).
وفي هذه الآيات الكريمة وغيرها كثير، نجد أنّ الخطاب القرآني اعتمد هذا الاسلوب النفسي الفريد. وبخصوص النصّين الأخيرين، يتجلى الموقف بشكل حاسم وموجز: فمع التحذير إيحاء وإلقاء للتبعة على المخالف الذي لا يثوب، وغالباً ما يرد هذا النوع، من أنواع رحمته بعباده، ليذكر – أيضاً – أنّه شديد العقاب، لأنّ الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف، كما قال عليه الصلاة والسلام: "لو وُزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا"، ثمّ ذكر عقيبه ما يدل على الرحمة.
وهو كونه غفوراً رحيماً، وذلك يدل على أنّ جانب الرحمة أغلب، لأنّه تعالى ذكر فيما قبل أنواع رحمته وكرمه، ثمّ ذكر أنّه شديد العقاب، ثمّ ذكر عقيبه وصفين من أوصاف الرحمة، وهو كونه غفوراً رحيماً، وهذا تنبيه على دقيقة، وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة، والظاهر أنّ الختم لا يكون إلا على الرحمة.

- ثامناً: المواجهة
بعد ذلك، ينتقل الموقف مع مروجي الإشاعات والأراجيف إلى جولة أخرى، هي الأشد والأعنف والأكثر ضراوة، ونقصد بها مرحلة المواجهة الحاسمة، وقد اتخذت استراتيجية مواجهة الأراجيف أساليب عدّة، للوصول إلى أهدافها المنشودة:

أ) التصدي لها منذ البداية وإحباطها:
يتطلّب الموقف – أحياناً – سرعة الرد على الإشاعة، لأنّ عدم السرعة في نفيها يعني إثباتها وتأكيدها، وللرد عليها يجب تحليل الإشاعة من حيث مصدرها وقوّتها وضعفها وخطورتها قبل نفيها. فإذا كانت الإشاعة قويّة، وجب الرد عليها بطريقة لبقة وغير مباشرة، أي دون ذكر موضوع الإشاعة الأصلي، وذلك عبر البحث عن مصادر كل شائعة، عند ظهورها، ومحاولة القضاء عليها من منبعها وقلعها من جذورها، وكشف مروّجيها وفضحهم.
ومن أمثلة ذلك عندما كان رسول الله (ص) منطلقاً ومعه جيش المسلمين إلى تبوك، أخذ بعض المنافقين يشيرون إليها ويقولون: أتحسبون جلاد بني الأصفر (يعني الروم) كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال.. وذلك إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فما كان من رسول الله (ص) إلا أن رأى ضرورة القضاء على هذه الشائعة في مهدها، فقال (ص) لعمار بن ياسر: "إدرك القوم، فإنّهم قد احترقوا، فسلهم عمّا قالوا، فإن أنكروا فقل: بل قلتم كذا وكذا". فذهب إليهم عمار وقال لهم ذلك، فأتوا رسول الله (ص) وقالوا: يا رسول الله، إنّما كنّا نخوض ونلعب، فأنزل الله عزّوجل في ذلك: (ولَئِن سَأَلتَهُم لَيَقُولُنَّ إنّما كُنّا نَخُوضُ ونَلعَبُ) (التوبة/ 65).

ب) تحطيم الرموز المعادية:
تشكِّل القيادة والرموز المعادية الهدف الأوّل للإعلام والحرب النفسية المضادة، ذلك لأنّ الرموز والقيادة هي القوّة المركزية، والموجه الحركي للجماعة والأُمّة، وكلما كان للجماعة والأُمّة ثقة برموزها، وتقديس لقيادتها، وارتباط وثيق بها، صعب اختراق الإعلام المعادي لتحصيناتها الفكرية والدعائية، لذا فإنّ مثل هذا الموقف يتطلب، من الخطاب الإعلامي المضاد، تحطيم الرمز المعادي، وعزل تأثيره، وتدمير الثقة به.
ويستخدم القرآن هذا الأسلوب لتعرية المنحرفين، وكشف زيفهم وجنايتهم على الإنسانية، وعلى أتباعهم، لفك الإرتباط، وتحطيم التأثير النفسي على الرأي العام، لذلك نرى حملته الإعلامية تتصدّى لفرعون والنمرود وأبي لهب وللطواغيت والكبراء والمنحرفين والمستكبرين في الأرض والملأ المتعاونين معهم، ويتبنى الدفاع عن المستضعفين في الأرض، ليفصل بين القيادة المتسلطة وبين الرأي العام، تمهيداً لعملية التلقي، وقبول الخطاب الآخر الذي يوجهه الأنبياء، ودعاة الإسلام، والمصلحون في الأرض، قال تعالى: (وقالوا رَبَّنا إنّا أطَعنَا سَادَتَنا وكُبَرَاءَنا فأَضَلُّونا السَّبِيلا * رَبَّنا آتِهِم ضِعفَينِ مِنَ العَذابِ والعَنهُم لَعناً كَبِيراً) (الأحزاب/ 67-68).
(إنّ فِرعَونَ عَلا في الأرضِ وجَعَلَ أهلَها شِيَعاً يَستَضعِفُ طائِفَةً مِنهُم يُذَبِّحُ أبناءَهُم ويَستَحيِي نِساءَهُم إنّهُ كانَ مِنَ المُفسِدِين) (القصص/ 4).
(وَيلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الذي جَمَعَ مَالاً وعَدَّدَهُ * يَحسَبُ أنّ مالَهُ أخلَدَهُ * كَلاّ لَيُنبَذَنَّ في الحُطَمَةِ * وَما أدرَاكَ ما الحُطَمَة) (الهمزة/ 1-5).
وهكذا يكشف القرآن حملته الإعلامية على رموز الجريمة والعدوان، لهدم شخصياتهم، وللإجهاز على دورهم القيادي، وتحطيم الثقة بينهم وبين الأتباع.

ج) التخويف:
ومن أساليب الحرب النفسية، تخويف العدو وإرهابه، بما يرى في جيش المجاهدين من أمارات القوة، ووسائل الغلب.. وشبيه بهذا ما تقوم به الأُمم من عرض قوّتها في تلك العروض العسكرية، التي تكشف بها عن بعض عدتها وعتادها..
ولهذا الجانب من الحرب النفسية أثر كبير في كسر شوكة العدو، وفي قتل مطامعه في النيل من عدوه، فلا يُقدم على العدوان، وهو يرى هذه القوة المهيّأة للحرب، الراصدة لكل عدو، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (وأعِدُّوا لَهُم ما استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ ومِن رِباطِ الخَيلِ تُرهَبُونَ بِهِ عَدوَّ اللهِ وعَدُوَّكُم) (الأنفال/ 60).
وإلى هذا يشير الرسول (ص) في مقام تعداد فضل الله سبحانه وتعالى، إذ يقول: "ونصرت بالرعب مسيرة عام" أي أنّ أعداءه المحيطين به، يجدون في أنفسهم رهبة له، ولجيش المسلمين، وذلك على امتداد مسيرة عام بينه وبينهم، لما يتناقل الناس من أخبار المجاهدين المسلمين، واسترخاصهم لنفوسهم في ميدان القتال، حتى ليكون ذلك حديث الدنيا كلها.

د) الإختراق:
عمد رسول الله (ص) إلى هذا الأسلوب، كعمل مضاد لما كان يقوم به المشركون، من بث عيونهم الذين يبعثونهم للإندساس في صفوف المسلمين للإطلاع على جليّة الأمر، أو لنشر الأراجيف، وما إلى ذلك.
ومن ذلك، أنّ نعيم بن مسعود أتى رسول الله (ص) عشية حرب الخندق وتحالف بني قريظة وقريش وغطفان، فقال: "يا رسول الله، إنِّي قد اسلمت، وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت.
فقال رسول الله (ص): إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا إن استطعت (أي ادخل القوم حتى يخذّل بعضهم بعضاً) فإنّ الحرب خدعة، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وقريش وغطفان، وخذّل الله بينهم.
فلمّا انتهى إلى رسول الله (ص) ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم، لينظر ما فعل القوم ليلاً: اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون ولا تحدثنَ شيئاً حتى تأتينا".

هـ ) القصاص:
ويصل الأمر في معالجة أمر المرجفين إلى القصاص، ويتباين الحكم حسب ما بيّنته الشريعة، من حالة إلى أخرى.
ولخطورة العمل الدعائي، ورد في أحكام الجهاد أنّ المقاتل الذي يخذّل المقاتلين، وينشر الإشاعات بينهم يُحرم من الغنيمة ولا يُعطى منها.
وأمّا المنافقون، فقد أصدر الرسول (ص) بحقّهم حكماً حاسماً، حينما تناهى إلى سمعه أنّ رهطاً منهم يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبّطون الناس عن رسول الله (ص)، حتى لا يخرجوا معه في غزوة تبوك، ومما قالوه في شائعاتهم: لا تنفروا في الحرب.. زهادة في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافاً برسول الله (ص)، فأنزل الله تعالى فيهم: (وقالوا لا تِنفِروا في الحَرِّ قُل نارُ جَهَنَّمَ أشَدُّ حَرّاً لَو كانوا يَفقَهُون * فَليَضحَكُوا قَلِيلاً وليَبكُوا كَثِيراً جَزَاء بِما كانوا يُكسِبُون) (التوبة/ 81-82).
وحالما بلغ رسول الله (ص) الخبر، بعث إليهم طلحة بن عبيدالله، في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة.
وتخلّص المسلمون من الشرور التي تنبعث من تلك البؤرة الفاسدة.
وكان النفي أحد أساليب القصاص، التي اتبعها الرسول (ص) تنفيذاً لأوامر الله سبحانه: (لَئِن لَم يَنتَهِ المُنافِقونَ والذينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ والمُرجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغريَنَّكَ بِهِم ثُمّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إلا قَليلاً * مَلعُونينَ أينَما ثُقِفُوا أُخِذوا وقُتِّلُوا تَقتِيلاً * سُنَّةَ اللهِ في الذينَ خَلَوا مِن قَبلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبدِيلاً) (الأحزاب/ 60-62).
ويأتي تهديد المنافقين، ومرضى القلوب، والمرجفين الذين ينشرون الشائعات المزلزلة، في صفوف الجماعة المسلمة، تهديدهم القوي الحاسم، بأنّهم إذا لم يرتدعوا عمّا يأتونه من هذا كلّه، وينتهوا عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات والجماعة المسلمة كلّها، يسلِّط الله عليهم نبيّه، كما سلّطه على اليهود من قبل، فيطهِّر منهم جو المدينة، ويطاردهم في الأرض، ويبيح دمهم، فحيثما وجدوا أخذوا وقتلوا، كما جرت سنّة الله فيمن قبلهم من اليهود، على يد النبي (ص)، وغير اليهود من المفسدين في الأرض، في القرون الخالية.

- تاسعاً: فتح باب التوبة
ويبقى باب التوبة مفتوحاً لمن يشاء أن يدلف فيه، وبإعلان التوبة الصادقة يصبح التائب مغفوراً له ما مضى قبل الإسلام، غير مؤاخذ بما ارتكب من جرائم قبل إسلامه، مهما كانت تلك الجرائم، ولو كانت الجرائم قتلاً للمسلمين وحرباً ضدّهم. إنّه بإعلان إسلامه يصبح مندمجاً تمام الإندماج، وسط المسلمين كواحد منهم، لا يفرِّق بينه وبينهم، في المعاملة، وفي الثقة، وفي تحمّل ما يحتمله المسلمون. إنّه لا يعيش حاضره بعقدة ماضيه، بل يصبح إنساناً جديداً، تعانقه القلوب المؤمنة، وتبتسم له الشفاه التي طالما تحرّكت بالنصح، لتدعوه إلى الإيمان، وتنصحه بالسلام. فإذا ما جاء مسلماً فلا شيء عليه بالنسبة الماضية. إنّه يسير جنباً إلى جنب مع مَنْ كان قتل أباه المسلم، ويجلس ويأكل مع مَنْ قتل ابنه المسلم (قبل الإسلام). إنّه يعيش في أمن وطمأنينة، لا يُقال له قول يؤذيه، أو يهدد بما فعل في ماضيه: (قُل لِلذِينَ كَفَروا إن يَنتَهُوا يُغفَر لَهُم ما قَد سَلَفَ وإن يَعُودوا فَقَد مَضَت سُنّةُ الأوّلين) (الأنفال/ 38).
ولم يستثن الباري جلّ وعلا أحداً من توبته، بمن فيهم أولئك المنافقون المخادعون المذبذبون: (إنّ المُنافِقِينَ في الدَّركِ الأسفَلِ مِنَ النّارِ ولَن تَجِدَ لَهُم نَصِيراً * إلا الذينَ تابُوا وأصلَحُوا واعتَصَمُوا بِاللهِ وأخلَصُوا دِينَهُم للهِ فأولئِكَ مَعَ المُؤمِنِينَ وسَوفَ يُؤتِ اللهُ المُؤمِنِينَ أجراً عَظيماً) (النِّساء/ 145-146).

- عاشراً: تنمية الثقة بالنفس
في غمرة الظروف العصيبة التي اكتنفت مسيرة الإسلام، ورغم كل ما اعتورها من تحديات وعقبات، فإنّ الخطاب القرآني – وكذلك النبوي – كان يحث على تنمية الثقة بالنفس، والإيمان بالله، والدعوة لمواصلة الكفاح والصمود، وعدم اليأس، وحثّ الناس على المساهمة الإيجابية، في كل مجال، وكل ذلك ممّا يساعد على مقاومة الشائعات، وعدم التأثُّر بها، وفهم الأغراض الخبيثة لمروجيها.
ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: (لَولا إذ سَمِعتُمُوهُ ظَنَّ المُؤمِنُونَ والمُؤمِناتُ بأنفُسِهِم خَيراً وقالوا هذا إفكٌ مُبِين) (النور/ 120).
ومعناه: هلا حين سمعتم هذا الإفك من القائلين، ظنّ المؤمنون والمؤمنات الذين هم كأنفسهم خيراً، لأنّ المؤمنين كلّهم كالنفس الواحدة، فيما يجري عليها من الأمور، فإذا جرى على أحدهم محنة، فكأنّه جرى على جماعتهم وينبغي للمؤمن إذا سمع شرّاً، عن أخيه المؤمن، أن يظن به الخير، وينفي السوء عنه قياساً على نفسه.
نعم، كان هذا هو الأولى، أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً، وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم، في مثل هذه الحمأة.
ويقرر الخطاب القرآني الموجّه للمؤمنين هذا المفهوم، الذي يفضي إلى تنمية الثقة بالنفس والتربية الإجتماعية: هلا إذ سمعتم الإفك ظننتم بمن رُمي به خيراً، فإنّكم جميعاً مؤمنون، بعضكم من بعض، والمرميُّ به من أنفسكم، وعلى المؤمن أن يظن بالمؤمن خيراً، ولا يصفه بما لا علم له به.
وبهذا تتضمّن هذه الآية الكريمة قاعدة كلِّية، من قواعد الحياة الإجتماعية في الإسلام، وهي أنّه ينبغي أن يكون الأساس للروابط الإجتماعية، في المجتمع الإسلامي، هو ظنّ الناس فيما بينهم خيراً، ولا ينبغي أن يظن بعضهم ببعض سوءاً، إلا فيما إذا كان له أساس إيجابي قاطع. فالمبدأ الذي يقوم عليه المجتمع الإسلامي هو أن كل رجل بريء لا إثم عليه، ما لم يكن ثمة أساس قوي معقول، لكونه مجرماً، أو للشك في جريمته على الأقل، وأن كل رجل صادق، في ما يقول، ما لم يكن ثمة ما يدل على كونه ساقط الإعتبار.
وليس هناك من وسيلة ناجعة لمواجهة أراجيف الأعداء، أفضل من تعزيز الثقة بالنفس، فالواثق من نفسه، فرداً كان أم مجتمعاً، لا تهزه الرياح العاتية، والعكس صحيح، فغير الواثق من نفسه ليس بمقدوره أن يمنح الثقة للآخرين، وبذا يكون لقمة سائغة للألاعيب والإشاعات، تعبث به ما شاء مخططوها، وكيفما يحلو لهم..!!
والتاريخ – البعيد والقريب – خير مصداق على ما نذهب إليه، فحينما كان المسلمون واثقين من أنفسهم فتحوا الدنيا بإقتدار عجيب، وحينما فقدوا ثقتهم بأنفسهم تهالكت عليهم الأُمم الكافرة، في غمرة هزيمة نفسية عجيبة أيضاً.
وقد حرص القرآن على تربية أتباعه تربية متفوقة، تشعرهم بالقوة والعزة الباطنة، فلا ينحني المؤمن للمحن والتحديات، ولا يستسلم للخصم، ولا يرضخ لقوى الطاغوت:
(وللهِ العِزَّةُ ولِرَسولِهِ ولِلمؤمِنِينَ ولكِنّ المُنافِقِينَ لا يَعلَمُون) (المنافقون/ 8).
(الذينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فاخشَوهُم فَزادَهُم إيماناً وقالوا حَسبُنا اللهُ ونِعمَ الوَكِيلُ) (آل عمران/ 173).
وهكذا يكوِّن القرآن وعياً وتربية لمقاومة الهزيمة النفسية، ويكرِّس جهداً إعلامياً قائماً على أسس علمية دقيقة، يساهم في معركتنا الحضارية في حالتي الهجوم والدفاع.

- تعليمات للتعامل مع الإشاعة:
الآن وقد انتهينا من استنطاق كتاب الله في واحدة من أبرز مظاهر الحرب النفسية – أي الإشاعة – ، واستعرضنا أهم تلك المعالم القرآنية التي تناولت الموضوع، حريٌّ بنا أن نختتم البحث، بما يمكن استنتاجه، من فوائد متوخاة، لتوظيفها في مرحلتنا الراهنة بالإتجاه المطلوب.
ففي مرحلة (مطلع النور)، أثبت الإسلام أنّه أقوى من جميع الأعداء، ومن حرب الإشاعات الضارية التي شنّوها للقضاء على الإسلام، ووقف تياره الزاحف.. كل ذلك لأنّ رسول الله (ص) – مؤيداً بالوحي من السماء – قد قاوم تلك الإشاعات وقضى عليها، ببعض التصرفات السديدة، والتوجيهات الحكيمة الصائبة، ولا ريب أنّ تلك التوجيهات تصلح لمقاومة الإشاعات، في كل زمان ومكان، ونحن مخاطبون بهذه الآيات القرآنية، وهذا الهدي النبوي كما خوطب بها الأوّلون، لأنّ تلك النصوص القرآنية وهذا الهدي النبوي جاءت للعمل، ليس فقط في وسط الذين عاشوا أحداثها ومناسباتها، ولكن كذلك للعمل في كل وسط بعد ذلك، كما وقع مثل تلك الإشاعات أو شبهها في البيئات المتنوعة، وعلى امتداد السنين.
وهاهي أُمّتنا الإسلامية تتعرّض، اليوم، إلى حرب نفسية رهيبة، من قبل أعدائها العريقين في عداوتهم.. متسخدمين وسائل الإعلام كافّة، وكل أنواع الأسلحة، من دعاية كاذبة، أو شائعة مغرضة، أو ضغط اقتصادي، أو تخويف، أو إرهاب.. وهدف الأعداء الأوّل والأخير تحطيم عقيدة هذه الأُمّة، وقطع العرى التي تربطها بدينها وأخلاقها، وبالتالي تمزيق شملها ووحدتها، ومن ثمّ إضعافها، وضمان تبعيتها له، في كل أمر من الأُمور السياسية والإقتصادية، وحتى الفكرية والإجتماعية.
لذا فنحن أبناء هذه الأُمّة في أشدّ الحاجة إلى فهم ذلك، والوعي الكامل، بما يخطط له الأعداء، لإحباط هذه المخططات بإذن الله. ولكي نستطيع أن نفوّت الفرصة، على أجهزة الرصد الإستكبارية، وقوى الإستكبار العالمي، والسائرين بركابهم، ونسقط خططهم، علينا أن نراعي ما يأتي:
1- إذا سمع أحدنا إشاعة، أو خبراً، لا يُعرف مصدره، أو سمعه من مصدر لا يوثق به، كالإذاعات والصحف والعناصر المعبِّرة عن مصالح أعدائنا، فلا يصح التصديق أو الإعتماد على هذا الخبر، وهو محرَّم قد نهانا القرآن عنه في (آية النبأ).
2- يجب أن نتسلّح بالقوة والمناعة النفسية، فلا نتأثّر بالإشاعات والأخبار التي يروِّجها خصومنا، فقد يشك الإنسان في الخبر أحياناً، ولكنه يتأثّر به نفسياً، فيؤثِّر في معنويته وموقفه، وبهذا التأثُّر، وبتلك الإستجابة، يتحقق غرض الدعاية المخرِّبة والدعاية المضادة، فإنّ ذلك هدف أساس من أهدافها.
3- إذا سمعت إشاعة أو تهمة أو خبراً مرجفاً، يستهدف قوّة المسلمين أو وحدتهم أو مصالحهم، فاحذر من أن تنقله، فتساهم في نشر الإشاعة، وتسخِّر نفسك لخدمة الأجهزة المخرِّبة والعناصر المروِّجة للإشاعات والدعاية الكاذبة ولو على نحو الرواية، بأن تقول: يقولون كذا، أو يُشاع وقوع هذا الحدث، أو حدوث ذلك الشيء.. إلخ، فإنّه خدمة لمصممي الإشاعة، وتجنيد لخدمة أغراضهم، من حيث لا تشعر.
4- إذا سمعت خبراً، أو إشاعة صحيحة، أو اطلعت على شيء، فاحذر أن تنشر ذلك، مازال في نشره ضرر بمصلحة الأُمّة والرسالة الإسلامية، ونشر مثل هذا الخبر يُساهم في إضعاف موقف الأُمّة وموقع الرسالة، والأهداف الإسلامية، ويجعل منك أداة من حيث لا تشعر.
5- من الضروري أن يكون الدور الإعلامي، الذي ينبغي أن تقوم به العناصر والأجهزة الإعلامية الإسلامية، متصفاً بالمبادرة والسبق إلى الرأي العام والناس الذين تعيش معهم، فتوضِّح لهم الحقائق، وتعرِّفهم بالأمور السياسية والفكرية والعسكرية.. إلخ، قبل أن يُعرَّضوا للإشاعة والتضليل، ليكتسبوا المناعة والقدرة على المقاومة، فالوقاية خير من العلاج.
6- رُوِي عن رسول الله (ص) قوله: "قولوا في الفاجر ما فيه ليحذره الناس"، فلابدّ من فضح أعداء الإسلام، وكشف خططهم، ونواياهم، وأساليبهم، وانحرافهم، وجرائمهم، ليحذرهم الناس، وليحذروا عملاءهم المسخّرين لخدمتهم، الذين يفرِّقوا صفوف المسلمين، ويشيعون الأباطيل والتهم والإشاعات.
ولكي تشق هذه الخطوات طريقها إلى الواقع، مطلوب من كل الغيارى في هذه الأُمّة، علماء ومفكِّرين ودعاة وإعلاميين.. أن يتواصوا بالحق والصدق، وأن تتضافر جهودهم، في إطار مشروع منهجي حضاري، يواكب مستجدات الحياة، ويلاحق المتغيرات، يتبنّى الرأي الواضح الواعي، يبصِّر الناس – خاصة الشباب – بأُمور دينهم، وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم دنيا وآخرة.
وتزداد مسؤولية الجميع، في عصرنا الحاضر الذي يشهد تحديات غاية في الخطورة، على الصعيد الإعلامي تحديداً، والمتمثلة في ما تبثه الفضائيات، ومواقع الإنترنيت، والصحف، والمجلات من سموم وإفساد وتخريب للقيم والذوق والهوية. إنّ هذا الكم الهائل من البث الوافد الذي يخترق الأجواء والبيوت، ويتدفق بصورة مثيرة، تستوجب على رجال الإعلام وعلى الدعاة والمفكِّرين أن يواجهوا ذلك بتحصين أُمّتهم بالقيم، والسمو بالمادة الإعلامية الجادة والقوية الجاذبة للمشاهدين والمستمعين والقُرّاء.
كما يجب أن تنهض وسائل الإعلام بإعطاء المشروع الإسلامي حقّه من مساحة البث أكبر، وفي وقت مسموع، حتى يستطيع الإسلام أن يؤدي رسالته على أكمل وجه في مناهضة الرذائل، وغرس الفضائل، ونشر الصورة السمحة للإسلام، وبيان منهاجه الذي يتسم باليسر ورفع الحرج والرحمة والسلام، وليس كما يزعم الواهمون والجاهلون والمعادون بأنّه دين عنف أو تشدد، فإنّ ممارسة البعض من القلة النادرة لبعض ظواهر التشدد لا يصح الحكم بها على الجميع، فهم ليسوا من الإسلام في شيء، لأنّ الإسلام هو دين الرحمة، لخص الله جوهر رسالته لرسوله (ص)، وقصرها على الرحمة، حين قال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء/107).
كما يجب على الإعلام أن يصون رموز الأُمّة وثوابت الشرائع السماوية، لأنّ رسالة الإعلام رسالة سامية هدفها النهوض بالأُمّة، وليس التشكيك في الثوابت ولا الرموز، وإنّ حرِّيّة الكلمة التي نعيشها تمثل مناخاً صحّياً، يجب أن يوظف للرقي بالقيم والنهوض بالأُمّة، والدعوة إلى وحدتها.


المصدر: كتاب سيكولوجية الإشاعة.. رؤية قرآنية.. إشارات موحية في الحرب النفسية وأجندة المواجهة

ارسال التعليق

Top