• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

نظرة المستشرقين نحو الرسول الأكرم (ص)

أ. د. صباح زنكنه

نظرة المستشرقين نحو الرسول الأكرم (ص)

◄بمناسبة الذكرى السنوية للمولد النبوي الشريف

كان لبعثة الرسول الخاتم محمّد بن عبدالله (ص) وقعاً كبيراً في الجغرافيا الدينية والثقافية في عصره وامتدت آثاره إلى يومنا هذا وستستمر إلى يوم القيامة.

لقد تغيرت الجغرافيا الدينية وآمن من في الجزيرة العربية، وانطلق الإسلام في بقية المعمورة، ليتحقق الوعد الإلهي (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (التوبة/ 33). وكان اتباع الديانة المسيحية في الجزيرة العربية وما جاورها قد وجدوا ضالتهم في الإسلام فآمنوا به إلا قليل، بقوا في صوامعهم وكنائسهم.

لكن الحروب الصليبية، وبدخول العامل السياسي للحكام والأمراء الأوربيين، أوقدت نيران العداء والبغضاء ضد المسلمين والإسلام، وتبعتها تيارات، أغدق عليها الحكام والبابوات الكثير من الأموال، لدراسة الإسلام وحياة النبيّ محمّد (ص) ومحاولة تخريب الصورة الناصعة لهم، ووقف المد الإسلامي المتأثر بشخصية النبيّ (ص) وكتابه وسنته، في غرب العالم.

وتلته تيارات الاستعمار لاكتشاف البلدان والقارات والشعوب ومحاولة معرفة طرق النفوذ إليها وإيجاد مواقع قدم للمستعمرين في بلاد الإسلام. وكان منها تيارات الاستشراق والتعرف على الإسلام، ولكن في هذه المرحلة، لخدمة أغراض المستعمرين.

وتأتي المرحلة الثالثة، لتحاول مراكز البحوث والدراسات والجامعات ووزارات الدول الكبرى، العمل على تشويه صورة الإسلام والنبيّ (ص) أو تحقير المسلمين، لكسر معنوياتهم والعمل على إبعادهم عن دينهم وتراثهم وثقافتهم وهويتهم. وتتطرق هذه الورقة إلى بعض معالم ونماذج هذه المراحل وكيفية التعامل معها. "وفي عام 569 للميلاد، ولدت آمنة، أعظم شخصية في تاريخ العصور الوسطى، بل أعظم شخصية في التاريخ كله.." ويل ديورانت – كتاب "قصة الحضارة". حبّذت أن أبدأ البحث بعبارة لباحث وفيلسوف معاصر ومشهور، هو ويل ديورانت، صاحب المؤلفات الضخمة والعميقة في موضوع تاريخ الحضارات، وهو مسيحي، درس التاريخ وعاش سنوات من حياته (حوالي ثماني سنوات) بين الشعوب العربية ومراكز البحث والدراسات والجامعات.

وإن كانت هذه العبارة إيجابية، وتعبر عن حقيقة كونية كبرى، فإنّ هذا الكاتب الكبير، قد وقع في أخطاءٍ، لا تمس ضروريات المعتقد، أو الأسس الثابتة تاريخياً. فهو قد تلقى الثقافة الغربية والتعليمات المسيحية وانطلق ميدانياً للبحث عن تاريخ الإسلام في المجتمعات الإسلامية.

ومن أجل الخروج بصورة وخريطة واضحة للبحث، فسنبدأ ببيان ضرورة التطرق إلى هذا الموضوع "رؤية المستشرقين نحو النبيّ (ص)" ثمّ نشير إلى بعض المؤثرات على تشكّل رؤيتهم، وما يمكن أن يؤثروا هم فيه من مجريات الأحداث والتيارات وصانعي القرارات، وبعد ذلك نبيّن بعضاً من المراحل التي مرت بها العلاقة بين المستشرقين والدين والعالم الإسلامي، ونذكر نماذج من الأقوال والمواقف، وفي نهاية المطاف سنحاول استنباط ما يمكن عمله وما يلزم من مواقف لتصحيح العلاقة بين الجانبين، واصلاح الصورة التي انطبعت وتنطبع في أذهان المجتمعات الأخرى عن الإسلام والنبيّ (ص) والمسلمين.

 

ضرورة دراسة نظرة المستشرقين:

لا نريد الدخول في بحث واسع الأطراف لتعريف الاستشراق ومدارسه، وهل انّه يشمل جميع من درسوا الإسلام وحياة النبيّ (ص)؟ أو من أبدوا اهتماماً بالعرب وتاريخهم ولغتهم وجغرافيا بلادهم؟ ولا ندعو هنا لتحقيق في عبارة الشرق ومن تشمل ومن يخرج عنها، ولا بالغرب وهل انّه وحدة واحدة متماسكة، أم انّه مدارس وتيارات واتجاهات وغير ذلك من البحوث التي يتطرق إليها العلماء والجامعات.

ونكتفي بالقول انّ المستشرقين وهم من كتبوا أو حاضروا أو نظّروا عن ولقضايا الشرق، وثقافاته وتاريخه، وبأي نيّة، علمية كانت أو استطلاعية نتيجة حب الفضول والاطلاع، أو حسب توجيهات سياسية وأعراضٍ سلطوية، عسكرية أو اقتصادية، ثقافية أو تبشيرية، لكنهم جميعاً يلتقون في أمر واحد: وهو ادعاء معرفة الشرق أو أجزاء منه، مما يجعل نتاجهم تستغله الجهات التي تصنع السياسات وتأخذ القرار في الشؤون المختلفة للدول الغربية، حول دول وشعوب العالم الشرقي ومنه الإسلامي.

وإذا عرفنا انّ الدول الغربية لا تتحرك اعتباطياً أو عشوائياً، وانما تحاول الاستناد إلى الدراسات والبحوث المتوفرة من ذي قبل، فإن لم توفر لها الإجابة الكاملة والمناسبة، فإنّها ستلجأ إلى مشاريع استطلاعية وبعثات أو دراسات جديدة لاستكمال مناطق الفراغ في الصورة، وثمّ تتدارس كيفية الحصول على مبتغاها والوصول إلى أهدافها بالطرق والوسائل المناسبة.

إذا عرفنا وافترضنا هذا، فإنّ الدراسات والبحوث وأدب الرحلات، والتنظيرات التي قدمها المستشرقون ستشكل حجر الزاوية لكلِّ السياسات الفعلية والمستقبلية للدول الغربية.

وإذا عرفنا انّ الرؤية التي يلقيها المستشرقون في نتاجاتهم، ستنفذ إلى وسائل الإعلام ومناهج الدراسة، وسيتلقاها أبناء الأجيال المتتابعة، عرفنا حينذاك كيف تكمن الرؤية السلبية في أذهان وعقول الجيل الحاضر، وكيف تتحرك مجرد ظهور محرك أو حافز واحد، وإذا بردود الفعل بين كيانات المجتمع الغربي تتوالى في الاتجاه المحتمل ونشعر وكأن مخططاً جباراً وشاملاً قد هيئ له.

وبهذه المعرفة، إن حصلت، سنتمكن من تلمّس الطرق الصحيحة في التعامل مع الغرب بأجهزته السياسية، ووسائله الإعلاميّة، وجامعاته ومعاهده.

ولن تتحسن أساليب الغرب في التعامل مع المسلمين والشرقيين، دون أن يغيّروا ويصلحوا ويغربلوا ذلك المخزون والركام التاريخي الذي يسيطر على عقولهم وذهنياتهم، ويتحكم بعواطفهم وأحاسيسهم.

 

مراحل الاحتكاك:

كما ذكرنا في خلاصة البحث ومقدمته، فإنّ الإسلام حين جاء وبدأت دعوة النبيّ محمّد (ص)، كان بعض من اتباع الديانة المسيحية واليهودية يتوزعون في أرجاء من شبه الجزيرة العربية؛ ونظراً لما وجده المسيحيون من خصائص الدين الجديد يتّسق مع دينهم، والبشائر المذكورة لديهم، فإنّ كثيراً منهم اعتنقوا الإسلام، وحين بدأت الفتوحات الإسلامية في أراضٍ كانت تابعة للامبراطورية البيزنطية، واستجاب سكانها للإسلام، وكان من بينهم النصرانيون، إلا قليل منهم.

وحسبما ينتقل الباحث "ويل ديورانت" في كتابه "قصة الحضارة" فإنّ المسيحيين، وجدوا مصداقاً لما جاء في الآية 42 و43 من الاصحاح الحادي والعشرين من أنجيل متى: نقلاً عن السيد المسيح (ع): "لذلك أقول لكم، انّ ملكوت الله ينزع منكم ويعطى أمة تعرف قدره".

وهذا ما تؤكده الآية القرآنية الكريمة من سورة الفتح (وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (الفتح/ 29)، وقد عاهد النبيّ (ص) مسيحي الجزيرة وحماهم مقابل ضريبة بسيطة فعاشوا بأمان وطمأنينة.

ويقول الأستاذ مجتبى مينوي، العالم والباحث الإيراني الكبير، في بحثه الذي طبع عام 1969، ضمن كتاب "محمّد (ص) خاتم پیامبران": "انّ أقوى خصم للإسلام وأكثرهم تجهيزاً، خلال الأربعة عشر قرناً، كان المسيحيون؛ والذين اتجهوا نحو الانصاف والحقّ، بالتدريج دورة فدورة" (ص172، ج2).

ويذكر السيدي مينوي، انّ الخلاف بين المسيحية واليهود كان على أشده وانجر إلى حروب وقتال عظيم وعلى مرّ القرون، حتى يذكر ما حصل من ملوك أسبانيا وبعد أن ازاحوا حكم المسلمين العرب والبربر، من تلك البلاد، واتجهوا بالتعذيب والقتل والتشريد على غير المسيحيين ليرغموهم على اعتناق المسيحية، مما ابقى هذه المذابح مثلاً يضرب للقسوة والقتل.

أمّا اليهود، وكما يذكر الباحث ويل ديورانت، في الفصل الثاني من الباب الثامن من كتابه "قصة الحضارة"، فإنّ بعض الفقرات في التوراة بشّرت به. كما وجد اليهود انّ الشبه بين ديانتهم والدين الجديد، كثيرة فشعروا بأنّهم امتداد لدينهم، لكنهم عندما سمعوا انّ الدين الجديد يعتبر ديانتهم قد أصابها التحريف وانّهم عارضوا المسيح تراجعوا وانكمشوا في تجمعاتهم، في مدينة يثرب وما حولها، وثمّ بدأوا بالتعاون مع قريش ضد الدولة الفتية في المدينة. فما كان من الرسول (ص) إلا أن أبعدهم عن المدينة. واستمروا في التآمر عليه، وإهانة بعض المسلمين، مما استوجب محاصرتهم والطلب منهم أن ينزحوا من أطراف المدينة وهكذا دواليك.

اما اتباع المسيحية في الحبشة، فقد كان لهم موقع كبير وكان ملوك الحبشة يسعون للانتشار في المنطقة العربية أيضاً. وينقل التاريخ السلوك الراقي لملك الحبشة، حين استقبل المهاجرين المسلمين، وعلى رأس وفدهم، جعفر بن أبي طالب، واستمع إلى آيات الذكر الحكيم ووجد فيه الشيء الكثير الذي يعطي صورة ناصعة عن عيسى (ع) وعن والدته، وآمنهم ولم يسلمهم إلى مبعوثي قريش.

وبانتشار الإسلام في ربوع الشام واقترابه من حدود الدولة المسيحية البيزنطية ابتدأ التوجس من الإسلام وانتشاره، لدى ملوك الدويلات الأوربية.

وفي المرحلة الأخرى، وعند ازدهار الحضارة الإسلامية، وحين كانت أوربا تعيش في ظلام دامسٍ من الفكر، والمنجزات الاجتماعية انطلقت حركة الترجمة والاقتباس من اللغات اللاتينية، وازدهرت المدارس الفلسفية والعلمية في شتى صنوفها.

وفي هذه المرحلة، لم يكن هناك ادراك جماعي من قِبل الأوروبيين، حكامهم وعلمائهم، بمدى التقدم العلمي الذي احرزه المسلمون، ولكن كان هناك شعور بالتأخر والغيرة من ناحية، وبالخشية من امتداد سلطان المسلمين إلى ديارهم. وفي هذه الفترة لم نشهد تياراً يذكر في مقابل تيار الفكر الإسلامي، والحضارة الإسلامية.

وفي حوالي القرن السابع للهجرة، وبعد التشتت الذي أصاب الدولة المركزية، وجاء دور الدويلات، والصراع على السلطان بين العوائل المالكة في بلاد المسلمين، استغل حكّام وأمراء المدن الأوربية تلك الحالة فجيّشوا الجيوش لاسترجاع سيطرتهم على "المدينة المقدسة"، القدس الشريف، ودعمهم بذلك، القساوسة والبابوات، بإصدار ما يشبه الفتاوى بضرورة "تحرير مولد المسيح (ع) واستنقاذ البلاد المقدسة من الكفار".

وفي هذه المرحلة التي طالت حوالي القرنين من الزمن، وكان فيها كرٌ وفرٌ، وهزائم وانتصارات، عاصرها، تيار فكري أو حماس ملتهب لدى الكنائس للتهجم على الإسلام والنبيّ الكريم (ص)، واستغلوا ظروف تواجدهم في فترات المنطقة، لنشر دارسيهم وقساوستهم للتعرف على الإسلام والتحضير للردّ عليه ونقضه والاستهانة به والتهجم على الرسول الأكرم (ص)، لما يشكل من عصب الفكر والحياة الإسلامية.

ويقول الأستاذ مجتبى مينوي، انّ المسيحيين كانوا مقصرين نتيجة هجومهم وحملاتهم العسكرية على أراضي المسلمين كانوا قد فتحوها دون إراقة دماء.

ويقول الفيلسوف الشهير برتراند راسل في محاضرة ألقاها عام 1957 "انّ صفات المروءة والشهامة كانت كبيرة وتجلب الانتباه، بسلوكهم تجاه المسيحيين الذين كانوا يعتبرون مرتدين وكفاراً من وجهة نظر المسلمين، وكانت مروءتهم أكبر وأفضل من الإمبراطورية البيزنطية ذاتها تجاه المسيحيين".

ولازالت آثار التعصب والتشدد تظهر في أفكار وكتابات ونتاج الغربيين حين تعرضهم لفترة الحروب الصليبية.

ويذكر الكاتب نادربور نقشبند، وهو أستاذ في جامعة "هاله" الألمانية، انّ عصر النهضة في أوربا قد عدل بعضاً من السلوك والتحليل العنيف الذي كان طابع الدراسات الاستشراقية كما لاحظنا في كتابات "ناثان الحكيم" لكوتولدليسينك في أواخر القرن الثامن عشر، إلا أنّ النظرة الدونية والمشوبة بالتحقير، بقيت تسيطر على المستشرقين.

ويقول الأستاذ مجتبى مينوي، انّ المسيحيين كانوا مقصرين نتيجة هجومهم وحملاتهم العسكرية على أراضي المسلمين كانوا قد فتحوها دون إراقة دماء.

ويشير الأستاذ مجتبى مينوي، انّ أوّل كاتب أوربي كتب عن الإسلام بنظرة فيها شيء من الحقيقة، كان "وليام من أهالي ما مزبوري – انكلترا في القرن الثاني عشر. وهذا ما يذكره نورمان دانيل في كتابه "الإسلام والغرب" الذي طبع في ادنبره عام 1960. ويستطرد مينوي، انّ سلوك الأوربيين المسيحيين بالنسبة للإسلام استمر بالتعامل عن طريق السيف والعنف والقوة، وقليلاً ما كان يتسم بالتسامح والتساهل مع المسلمين حتى القرن الثامن عشر وحينما اطمأن الأوربيون إلى قدرتهم العسكرية و..، سعوا إلى ترجمة آثار ومؤلفات وكتب المسلمين الأدبية والتاريخية والدينية إلى اللغات الأوربية.

ولا ينسى الكاتب، أن يذكر اسم شخص آخر، اشتهر بالانصاف في كتاباته حول الإسلام والنبيّ (ص)، ألا وهو "بتروس الفونس" وهو يهودي من إسبانيا، انتقل إلى الديانة المسيحية عام 1106 وذهب إلى بريطانيا، وحاول نشر العلوم الإسلامية، ونشر كتاباً عن حياة الرسول الخاتم (ص).

·      وجاء الباحثان "فرانتس بوهل" الدنماركي، وهو من رجال الكهنوت البروتستاني، و"تور آندره" السويدي، ليشرحوا بعضاً من هذه الملابسات التي شككت في صحة النقل التاريخي.

·      ولكن المستشرق الألماني الكبير، "يوهان فوك" وضع حداً لهذه الادعاءات والاحتمالات، وأثبت أصالة وصحة ما روي عن النبيّ وذلك في كتاب أسماه "أصالة النبي العربي".

·      كما لابدّ من الإشارة إلى كتابات "مونكمري وات" في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وإلى كتابات "مكسيم رودنسون"، وكتاب "رودي بارت" حول "محمّد والقرآن"، حيث درسوا بأسلوب علمي وناقد النصوص التاريخية واثبتوا صحة أغلبها.

ولا نريد الدخول في مواضع الشبهات التي أثارها هؤلاء وأولئك. بقدر ما نرغب في قراءة الخط البياني للاستشراق، وخاصّة حول الإسلام والنبيّ محمّد (ص).

وفي هذه المرحلة، نجد أنّ ظهور مدارس فكرية جديدة في الغرب، أثرت على العديد من النشاطات الفكرية، ومنها مدرسة "الهرمنوتيك"، "لهايدغر" و"غادامر" والتي أعطت للنصوص موقعاً ممتازاً للدراسة والتمحيص واستخلاص المعاني والمفاهيم، بدل المدارس الفكرية السابقة التي كانت تؤكد على الظروف الموضوعية.

حتى جاء دور مدرسة "ما بعد الحداثة"، و"ما بعد المتافيزيا" وظهور المفكرين الكبار "كميشيل فوكو" و"بيير بورديو" و"جاك دريدا". هؤلاء المفكرون، استطاعوا أن يكسروا "قوقعة الكبرياء" الغربي، وأن يظهروا ما للثقافات والحضارات الأخرى من أفضلية وامتيازات.

 

استمرار السلوك الاستعلائي:

ولكن ظواهر أخرى لا زالت تشير إلى وجود السلوك الاستعلائي للغربيين تجاه العالم الإسلامي، ورسوله الكريم (ص). ونذكر منها أحداث وحوادث: فمنها كتاب "سلمان رشدي"، الذي أثار حفيظة المسلمين.

ومنها الرسوم الكاريكاتيرية التي بدأت في الصحافة الدنماركية، وتبعتها صحف دول أوربية أخرى، وأحدثت ضجة كبيرة.

وأخيراً وليس آخراً، تصريحات الرئيس الأمريكي، وذكره لعبارة "الحروب الصليبية" والتي قدم تبريراً واعتذاراً عنها، ولكنه اتبعها بعبارة "الفاشية الإسلامية".

وبعد ذلك، جاء البابا بنديكت السادس عشر، وهو المثقف الفيلسوف، ليلقي محاضرة أظهرت العديد من القضايا في عمق التفكير المسيحي، والأوربي، والصهيوني. ففي محاضرته تلك، حاول التأكيد على أنّ المسلمين لم يكونوا إلا اتباع القوة والسيف، وإنّ العلم والعقل بعيد عن تصرفاتهم.

 

ملاحظتان جديرتان:

ونلحظ انّ محاضرة البابا، جاءت في وقت وظروف خاصة، واحتوت إشارات وتصريحات وتلميحات جديرة بالدراسة وننقل ما جاء في كراس نشره الدكتور عبدالعزيز التويجري، مدير عام المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، يقول فيه: "اما كون محاور الإمبراطور مانويل الثاني فارسياً ففيه تلميح إلى التخوف من إصرار إيران على امتلاك التكنولوجيا النووية، وما يمثله هذا الموقف من خطر على الغرب وعلى إسرائيل، التي أشار إليها البابا في محاضرته عندما شرح العلاقة بين اليهودية والمسيحية والتقاءهما بالفكر اليوناني. يقول البابا: "في العهد القديم، بلغ المسار الذي بدأ عند النار مستوى آخر من النضج في مرحلة التيه عندما أُعتبر اله إسرائيل، التي كانت محرومة حينئذ من أرضها وعبادتها، رباً للسماوات والأرض".

ومن الثابت تاريخياً (والكلام للدكتور التويجري)، انّ ملوك بيزنطة، ومنهم (مانويل الثاني)، هم الذين طلبوا شن الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي، حيث كانوا يستغيثون بملوك أوربا وبباباوات الكنيسة الكاثوليكية لإرسال الجيوش لمحاربة المسلمين من العرب والفرس والأتراك والسلاجقة والأتراك العثمانيين. ومانويل الثاني نفسه الذي استشهد الباب بنديكت السادس عشر بنص من محاورته، حشد حملة صليبية بقيادة الملك الهنغاري سيجموند لمحاربة المسلمين، غير أنّها هزمت في عام 1396م.

بل انّ الإمبراطور مانويل الثاني دخل في معارك دامية مع أخيه اندرينكوس الرابع ومع ابن أخيه جون السابع للسيطرة على العرش البيزنطي، واستخدم السيف في قهر منافسيه وإزالتهم. ومن العجيب انّ هذا الإمبراطور عقد صداقة مع السلطان محمّد الفاتح، ووقع معه اتفاقية سلام دفع بموجبها الجزية. وقد يكون هذا سبباً في حقده على المسلمين وعلى دينهم.

وفي تلك المحاضرة، يقول الدكتور التويجري انّ "النص استشهد به البابا في محاضرة عن العقيدة والعقل والجامعة، والذي لا علاقة له بموضوع المحاضرة اختير قصداً لإثارة الانتباه إلى قضايا تهم المجتمعات الغربية التي هي في غالبية سكانها، مجتمعات مسيحية، وخاصة في ظل تنامي الإقبال على دراسة الإسلام واعتناقه من قبل أعداد كبيرة من الغربيين، ولتنامي الوجود الإسلامي في هذه المجتمعات، ولإثارة الانتباه أيضاً إلى الرغبة الملحة لدى تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوربي، والتذكير بكونها وريثة الدولة العثمانية التي حاصرت الإمبراطور مانويل الثاني خلف أسوار القسطنطينة، بعد هروبه من بلاط السلطان بايزيد الأوّل في مدينة بورصة حيث كان يعيش لاجئاً عنده.

 

مواصفات مهمة للمرحلة الراهنة:

صحيح انّ الوعي قد ازداد، وانّ ثورة المعلومات والاتصالات، أزاحت الحدود وعبرت القارات.

وصحيح أيضاً انّ المدارس الفكرية الجديدة جعلت النظريات التشكيكية من متاع الماضي.

وصحيح كذلك انّ بعض المفكرين والمستشرقين، انصوا في عرضهم لحياة الرسول محمّد (ص) وبيان التاريخ والمشروع الإسلامي، لكن المواصفات الأخرى بقيت كما هو، مع تغيير في الوسائل:

1-     ازدادت الهجمة الحاقدة المستهزئة ضد النبيّ (ص)، من قبل الأجهزة والأشخاص الغربيين.

2-     انّ هذه الحملات، استفادت من الثورة المعلوماتية والاتصالات لتخلق أمواجاً من التأثير الإقليمي والعالمي الواسع الانتشار وفي فترة قصيرة.

3-     لا زال الخوف من انتشار الإسلام في العالم الغربي، يحرك الكثيرين وخاصة رجال الكنيسة.

4-     بروز التيار المسيحي الصهيوني، بطابعه السياسي الاستفزازي، الذي لا يرى الحقيقة لدى الآخر، ويحتكرها لنفسه، ويسمح لآلياته وأدواته ورموزه باستخدام جميع الأساليب القهرية والتعسفية لفرض رؤيته على العالم.

5-     لا زالت الدراسات الناقصة، المبتورة، والمدسوسة، والتي أدت اغراضاً استعمارية وتوسعية، تسيطر على الذهنية العامة للكتاب والصحافيين ورجال الإعلام والثقافة والتعليم.

ولابدّ من إلمامٍ بالحالة التي يواجهها العالم الإسلامي، بقيمه وتاريخه وحاضره ومنجزاته، دون تلكؤ أو تردد، ودون إجحافٍ أو تعسف، ودون إحباط أو إفراط. وانّ دور العلماء والمفكرين يبقى محورياً في التصدي لهذه الظواهر الغير صحية. كما وانّ دور المسلمين في غربلة ما يدعو إلى إساءة التلقي لدى الآخرين عن الدين الإسلامي الحنيف والسلوك الإسلامي القويم، وذلك دون التخلي عن الثوابت والأسس التي أكدها القرآن الكريم والسنة الصحيحة ودعمها العقل ولم يخالفها المنطق والمصلحة العامة.

كما وانّ للدول الإسلامية دور كبير في التنسيق فيما بينها والوقوف صفاً واحداً، للحملات الهدامة، واتخاذ طريق الحوار الهادف سبيلاً، وبناء قواعد دولية قانونية تمنع الإساءة للمقدسات.

 

المصدر: مجلة الوحدة/ العدد 298 لسنة 2007م

ارسال التعليق

Top