أمرت الشريعة بالحجاب والاحتشام محافظة على طهارة القلب من الخواطر الشيطانية، والهواجس النفسانية التي تأتي من خلال النظر إلى المتبرجات، وبهذا فإن من أبرز مقاصد الشريعة في الحجاب ما يترتب على الحجاب من طهارة قلوب الرجال وقلوب النساء من غوائل الفتن التي يأتي بها السفور والإختلاط.
فمن المعلوم أن قلب الإنسان معرض للفتنة والخواطر الشيطانية إذا وجدت أسباب هذه الخواطر والهواجس، ومن أجل ذلك شرع الحجاب، ونهى عن السفور والتبرج وإظهار المحاسن وإبراز المفاتن؛ لما فيها من إلهاب للعواطف وإثارة للغرائز، وما تبعثه من أوهام هابطة وظنون ساقطة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المقصد وهذه الحكمة من الحجاب، فقال تعالى: (.. ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ...) (الأحزاب/ 53).
وهذا الخطاب موجه إلى كلا الجنسين من النساء والرجال، وفيه بيان أنّ آداب الحجاب تصب في تنقية باطن الإنسان، وتطهير قلبه من الوساوس والعوارض المشوشة له، يقول الإمام الطبري: "ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ من عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء وفي صور النساء من أمر الرجال وأحرى من أن يكون للشيطان عليكم سبيل".
وإذا كان هذا الخطاب القرآني موجهاً إلى نساء الرسول (ص) أُمّهات المؤمنين – وهنّ أطهر نساء الأرض – فإن غيرهنّ من النساء أحوج إلى طهارة القلوب. وإذا كان الخطاب موجهاً للمؤمنين في ذلك الوقت – وهم جيل الصحابة الذين هم خيرة رجال الأرض – فإن غيرهم من المسلمين أحوج إلى هذا التوجيه، وإلى طهارة القلب.
يقول سيد قطب – رحمه الله -: "إنّ هذا الحجاب أطهر لقلوب الجميع: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)، فلا يقل أحد غير ما قال الله، لا يقل أحد: أنّ الإختلاط، وإزالة الحجب والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب وأعف للضمائر، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة، وعلى إشعار الجنسين بالأدب، وترقيق المشاعر والسلوك... لا يقل أحد شيئاً من هذا والله يقول: (.. وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ...) (الأحزاب/ 53).
وإنّ الحجاب يقوم بدور كبير في منع النظر المحرم، وهذا المنع يحقق مصالح عظيمة ويدرء مفاسد كبيرة ومن أبرزها: أنّه يساعد على تحقيق طهارة القلب لكل من الرجل والمرأة، قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا...) (النور/ 30-31).
ذلك انّ العين إذا لم تر لم يشته القلب، أمّا إذا رأت العين فقد يشتهي القلب، وقد لا يشتهي، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة عندئذٍ أظهر، إذ إنّ الرؤية هي سبب التعلق والفتنة، ولهذا؛ فإن إطلاق البصر من وسائل مرض القلب، والوقوع في الفاحشة، كما أن غض البصر من أسباب السلامة للقلب والبعد عن الفاحشة، يقول الإمام الغزالي: "إنّ العين مبدأ الزنا، فحفظها مهم، وهو عسير، من حيث إنّه قد يستهان به، ولا يعظم الخوف منه، والآفات كلها عنه تنشأ، والنظرة الأولى إذا لم تقصد لا يؤاخذ بها، والمعاودة يؤاخذ بها"، ويقول الإمام ابن القيم في كتابه الداء والدواء: "أمّا اللحظات فهي رائدة الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج، فمن أطلق بصره أورده موارد الهلكات، وذكر فيه: أنّ النبي (ص): "إياكم والجلوس على الطرقات"، قالوا: يا رسول الله، مجالسنا، ما لنا منها بد، قال: "فإن كنتم لابدّ فاعلين فأعطوا الطريق حقه". قالوا: وما حقه؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام".
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإنّ النظرة تولد خطرة. ثمّ تولد الخطرة فكرة، ثمّ تولد الفكرة شهوة، ثمّ تولد الشهوة إرادة، ثمّ تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولابدّ، ما لم يمنع مانع".
* أستاذ مشارك بكلية الشريعة بجامعة الشارقة – دولة الإمارات العربية المتحدة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق