سناء ثابت
ثمة نساء بلغت الثلاثين وتربين في كنف أب حنون وحاضر إلى جانبهنّ في كلِّ اللحظات المهمة، لا يبخل عليهنّ بالنصيحة والمحبة. فما الذي يغيره ذلك في صورتهنّ عن أنفسهنّ وفي علاقاتهنّ بالرجال؟
أحدث الآباء، الذين رزقوا بمواليدهم في السبعينات، ثورة كبيرة في علاقة الآباء ببناتهم، تزامن ذلك مع صدور كتاب شهير في السبعينات لصاحبه فرانسوا دالتو. في كتابه "قضية الأطفال"، تعرض عالم النفس فرانسوا دالتو للظروف النفسية التي ينشأ فيها الأطفال، وانطلاقاً من خبرته الشخصية كمحلل نفسي، بيّن كلّ من الآباء والأُمّهات الطرق الأمثل للتواصل مع الأطفال. على أيدي هؤلاء الآباء، انتهى، أو كاد ينتهي تماماً، عصر التسلط والعقوبات القاسية في علاقة الآباء بأبنائهم. إذ يجب مساعدة الأطفال على أن يكونوا أشخاصاً منفتحين، مما يمكنهم في المستقبل من أن يصبحوا ذوي شخصيات مستقلة. وبالنسبة إلى البنات وعلاقتهن بآبائهن، كانت هذه قفزة مميزة، أو هكذا كان في فرنسا على الأقل، البلد الذي صدر فيه الكتاب. بالنسبة إلى الآباء، تم التخلي عن الطرق الذكورية القديمة في استعمال السلطة مع الأبناء والزوجة. وبالنسبة إلى البنات، عرفن لأوّل مرة ربما نوعاً جديداً من العلاقات مع الأب، علاقة دعم ومساندة من قبل الأب، وهو شيء لم يكن يستفيد منه في أغلب العائلات إلا الأبناء الذكور.
يقول رائد (65 سنة، أب لفتاتين هما زهرة وسنها 36 سنة ونهلة 28 سنة): "كنا أنا وزوجتي متفقين منذ البداية، على أهمية أن نتقاسم المسؤوليات في ما يتعلق بالبنتين. كنت أريد أن تستمتع ابنتاي بحياتيهما وأن تكونا مستقلتين، بخلاف أمهاتنا". لهذا، يمكن القول إنّ رائد هو واحد من أولئك الذين أطلق عليهم اسم "الآباء الجدد"، أولئك الذين غيروا الحفاضات لأبنائهم وحضروا لهم الرضعات. فهو مقتنع بفكرة أنّ من حق ابنتيه أن تنجحا في حياتيهما تماماً مثل الذكور، وأن تستمتعا بحريتيهما مثلهم.
نساء لا يخشين شيئاً:
كلُّ من تم استجوابهنّ ممن ولدن في السبعينات من القرن الماضي، أكدن تميز علاقتهنّ بآبائهن، وبينّ أنّ هذا الأب الداعم لهن سمح لهن بالتقدم في حياتهنّ دون أن يشكك في قدراتهنّ أو في مشروعية ما يقمن به. تقول سعيدة (34 سنة، تعمل مديرة في مجال الإعلانات): "لم أشعر أبداً بأدنى شك من جهة والدي في قدراتي. بل إني أعتقد أنّه أعطاني قوة أكثر مما أعطتني والدتي". ولم يكن هذا بالأمر المفاجئ بالنسبة إلى آلان براكونيي، عالم النفس والمحلل النفسي ومؤلف كتب عدة عن علاقات الأطفال والوالدين، حيث يقول: "تكتسب نظرة الأب لابنته أهمية جوهرية، فهو الذي يسمح لها بأن تصبح امرأة، أي أنّه هو من يسمح لها لاو لا يسمح بأن تتحول من طفلة إلى امرأة. وذلك بأن يبيّن لها حنانه وحبه، وأن يشجعها لكي تنجح في حياتها المهنية أو حياتها الاجتماعية. لهذا، فإنّ الآباء الذين تأثروا بنظريات دالتو في تربية الأطفال، أو الذين أنجبوا بناتهم في السبعينات أسهموا بشكل كبير في جعل البنت راغبة في أن تكون مثل أبيها، أي أنها كانت تعثر على هويتها من خلال هوية والدها، وخاصة في الحياة المهنية والحياة الاجتماعية، وهما المجالان اللذان اعتدنا أن يبرز فيهما أكثر العنصر الذكوري". أما الطبيبة النفسية ميريام شيجير، فتقول: "اتضح أنّ البنات اللواتي تربين في مثل هذا الجو من آبائهنّ، أصبحن نساء مختلفات جدّاً عن جداتهنّ، فهن لا يخشين شيئاً". ما يعني أنّ هؤلاء الشابات لسن في حاجة إلى طلب ترخيص من أحد، لأنهنّ حصلن عليه وهن صغيرات، وهذا ما شكل لهن محركاً قوياً في حياتهنّ كبالغات، حتى في علاقاتهنّ مع الجنس الآخر لاحقاً.
عقدة أوديب:
ومن طبيعة الحال، فإنّ هناك جانباً أقل إشراقاً في هذا المشهد، إن لم نقل إنّه جانب مظلم، فعندما يكون للمرأة أب يشجعها وينصرها دائماً، فإنّه لابدّ أن يكون هناك ثمن يجب دفعه مقابل ذلك. إذ إنّه مع هذا الأب الذي يصبح أشبه بالأمّهات، فإنّ مكانة الأُم تكون موضع تساؤل، كما أنّ العلاقة بين الأُم والبنت تصبح أكثر تعقيداً. ينطبق هذا أيضاً على الجانب العاطفي في حياة الحب وقصص الحب، فإذا كان الأب بالنسبة إليها هو الرجل المثالي، فإنّ الشبان سيجدون صعوبة كبيرة في لفت نظر أو الفوز بقلب هؤلاء الفتيات.
تقول رانيا إنها استغرقت وقتاً طويلاً لكي تنجح في الابتعاد عن حضن أبيها، وتضيف: "لم أتزوج إلا في سن 32 سنة، وكنت أرفض فكرة الزواج من قبل"، كما أنها تعترف بأنها وجدت صعوبة أيضاً في أن تعطي زوجها وحبيبها الإهتمام الذي يستحقه. تقول: "كان الأمر مضحكاً، حيث كنت كلما تعرفت إلى أحدهم بغرض الزواج، قارنته بأبي، وطبعاً كان الشبان يخسرون المقارنة أمام أبي". وهذه صعوبة تعترف بها الكثيرات، وتقول المحللة النفسية ميريام شيجر عن عقدة أوديب الواضحة هذه: "هؤلاء الآباء بنوا أسواراً حول بناتهم حتى لا يقترب منهن أحد، وعاشوا معهن أجمل أيام الطفولة، لقد اقتربوا من بناتهم أكثر مما اقتربت منهن أمهاتهنّ. بعضهم، والذين عايشت حالاتهم بنفسي في عيادتي، بلغ بهم الأمر أن يتدخلوا في طريقة لباس وشعر وماكياج بناتهم ويدلوا بآرائهم في ذلك، بل وتبوح لهم بناتهم بأسرار لا يبحن بها الأُمّهات. والغريب في الأمر أنّ هؤلاء الآباء يشعرون بأنهم آباء جيدون. مثلاً، لم يتردد ربيع، خمسون عاماً، الذي كرس حياته لابنته بعد طلاقه أمها، وكانت البنت طوال سنوات تقضي أسبوعاً معه وأسبوعاً مع أمها، لم يتردد في أن يهديها حذاء بكعب علوه 10 سنتيمترات في عيد ميلادها الخامس عشر. يقول: "لقد كانت تريد واحداً مثله".
ولكن، هل كتب على البنات أن يكن إما نساء تمت تربيتهنّ ليحافظن على النسل، أو يكن نساء عاملات مكتئبات؟ طبعاً لا. إنّ النساء يستحققن أن ينلن معاملة متساوية مع تلك التي ينالها أقرانهن الذكور، وليس أن يستعملهن الآباء كما يستعملون أي شيء يمارسون عليه نرجسيتهم. على الجميع أن ينتبهوا، وأن يحافظوا على توازن يمكنهم من العثور على مكانة حقيقية في العالم الواقعي.
ارسال التعليق