• ٢١ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

لماذا تعمّر النسوة أكثر من الرجال؟

* أوليفييه دي لادوسيت

لماذا تعمّر النسوة أكثر من الرجال؟

اطرح هذا السؤال خلال حديثك مع الناس وسترى انّ الإجابة ستكون نمطية على الدوام على طريقة: "هذه مسألة وراثية"، "هذه مسألة هرمونات"، "الرجال يعملون أكثر من النساء ويتعرضون لضغوط أكبر"، "النساء ينهكن أزواجهنّ الذين يفنون أنفسهم من أجلهنّ!".
وفي الواقع، إنّ التفوق النسائي يرجع إلى أصل بيولوجي وإجتماعي على حد سواء.
في ما يخص الناحية البيولوجية، ينبغي البحث عن السبب على مستوى الكروموسومات الأنثوية التي تؤمن للمرأة حماية فعالة ضد أمراض القلب والشرايين وتعطيها مناعة أفضل من مناعة الرجل. وربّما كان تفوق المرأة الوراثي ثمرة آلية طبيعية بطيئة انتقت في العصور البشرية الأولى الذكور الأقوى والإناث الأكثر صلابة. وقد تعين على الرجال، من أجل إستمرارية الجنس، أن يدافعوا عن حريمهم وعن أرضهم مثلما تعيّن على النساء أن يقاومن العناء الناجم عن الحمل والولادة وشظف العيش وسوء التغذية. وهكذا، جيلاً بعد جيل، وعبر عملية إنتقاء طبيعي، وطدت النسوة جهاز القلب والشرايين وزدن مقاومتهنّ للضغوط والأمراض المعدية وحسّنّ آليات الدفاع ضد بعض عوامل شيخوخة الخلايا (الجذور الحرّة). وبعد مرور آلاف السنين، تحسنت ظروف حياة النسوة بشكل كافٍ حتى يؤتي هذا التفوق الفسيولوجي المكتسب بثماره وقد يكون هو المسؤول عن الفرق في طول العمر بين الجنسين.
بيد أنّ التفوق النسائي في مجال العمر لا يمكن أن يفسر بعوامل فسيولوجية فقط، فالشخصية والبيئة الثقافية والسلوكيات المترتبة على الأمر عوامل حاسمة هي أيضاً. فالضرورات النسائية تجبر المرأة على التردد على العيادات الطبية في سن مبكرة، والمرأة أكثر إهتماماً بصحتها وهي تمارس طباً وقائياً من تلقاء ذاتها. أمّا الرجال المتأثرون بالصور الثقافية الذكورية فلن يذهبوا لزيارة الطبيب إلا إذا أجبرهم الألم المبرح على ذلك.
أضف إلى هذا أن مقاييس الجمال السائدة تجبر النساء على مراقبة طريقة طعامهنّ عن كثب وهنّ أكثر إنتباهاً لأوزانهنّ ولإجراءات الوقاية المناسبة، في حين أنّ الرجال لا يرزحون بالدرجة ذاتها تحت هذا الضغط، فتزيد أوزانهم في سن مبكرة، وتتركز الشحوم عند الرجل على مستوى الجذع وبالأخص البطن لتشكل تهديداً حقيقياً لجهاز القلب والشرايين.
كما ينبغي البحث عن أسباب طول العمر عند المرأة في السلوكيات الإجتماعية والحياة العاطفية. وإذ أجبرت المرأة على أن تقسم نفسها بين عدد من الهويات (زوجة، أُم، إمرأة عاملة...)، تمكنت من تطوير مرونة في تنفيذ تلك الأدوار. وحين تصادف صعوبات، تجدها تتمتع بشبكة من العلاقات (أسرة وأصدقاء) أكثر كثافة من تلك التي يتمتع بها الرجل. كما أنّ المرأة تمتلك سهولة أكبر في التعبير لغوياً عن إنفعالاتها وهي مقدرة تمكنها من التأقلم بشكل أفضل من الرجل. كما أنّ المرأة أكثر يقظة وحذراً من الرجل، لذا فهي تتعرض للمخاطر بدرجة أقل فنجد أنّ الوفيات قبل سن الخامسة والثلاثين، الناجمة عن حوادث وسلوكيات غير آمنة أكثر إنتشاراً بين الرجال.
أوكيناوا، جزيرة المعمّرين. تخيّلوا علاجاً يسمح بتخفيض عدد أمراض القلب والشرايين بنسبة أربعة أخماس، كما يخفض بنسبة 80 في المئة وتيرة ظهور أمراض سرطان البروستات والثدي ويقضي على نصف حالات الأمراض المزمنة ويمنع في النهاية خمس إلى عشر سنوات من العمر الإضافي إلى المستفيدين منه. سنكون من دون شك أمام إكتشاف إستثنائي. ولكن دعونا لا نحلم، فهذا الأكسير السحري لا وجود له حتى يومنا هذا، علماً أنّ الأخوين ويلكوكس والدكتور سوزوكي يقولون إن شيئاً شبيهاً موجود على جزيرة أوكيناوا. فعلى أرض هذه الجزيرة اليابانية الواقعة في جنوب الأرخبيل يمتلك السكان الرقم القياسي في طول العمر (81.2 سنة كمتوسط العمر المتوقع، والسعفة الذهبية في عدد البالغين مئة عام وهم ثلاث مرات أكثر من فرنسا وخمس مرات أكثر من الولايات المتحدة). وقد عمل اختصاصيو الشيخوخة على تقصي أسباب هذا الوضع الإستثنائي وظنوا في البداية بوجود حماية وراثية معيّنة. بيد أنهم لاحظوا أن متوسط العمر المتوقع عند سكان أوكيناوا الذين يغادرون جزيرتهم ليعيشوا في بلد آخر كان ينحدر تدريجياً ليبلغ ما هو سائد في البلد الذي استقروا فيه. فاستنتجوا أن تأثير الكروموسومات محدود.
وخلص الباحثون إلى القول إن طول العمر الإستثنائي لدى سكان أوكيناوا متصل أكثر بأسلوب حياتهم وذهنيتهم. وبعد 27 سنة من الأبحاث المتعددة المجالات، حدد الباحثون الخطوط الكبيرة لبرنامج العمر المديد هذا في النقاط التالية:
* غذاء يميل إلى النباتي، قليل السعرات الحرارية، غني بالأغذية الطازجة والمنتجات البحرية.
* ثقافة طبية شديدة الإهتمام بالوقاية من المشكلات الصحية.
* الممارسة المنتظمة للتمارين المختلفة: الشي، البستنة، الفنون الحربية.
* إلتزام دائم لدى الكبار في حياة المجتمع عبر العمل في سن متأخرة جدّاً والإنخراط في جمعيات وإقتسام الهوايات.
* مستوى ممارسة روحية متقدم.
* سيطرة فعالة على الضغوط بفضل التأمل والتمارين التنفسية.
* إرادة البقاء في حالة ذهنية إيجابية على الرغم من المصاعب والإحتفاظ بالتفاؤل.
هذا التحالف بين الحداثة اليابانية ونمط حياة قديم سمح لسكان أوكيناوا بأن يحرزوا أفضل مستوى صحي في العالم ليضربوا الرقم القياسي في طول العمر. وهذا من شأنه أن يؤكد أن جسمنا قادر على أن يظل ممارساً لوظائفه فترة طويلة جدّاً شرط توفير الظروف المناسبة له أي تبني السلوكيات المطلوبة.
المصدر: كتاب (الشباب.. شباب القلب)

ارسال التعليق

Top