تَعتبر زوجتي نفسها نسخة مؤنَّثة من بيكاسو، وقد لا ينقصها سوى أن تحمل الفرشاة بيد ولوحة خلط الأصباغ باليد الثانية، لكي ترسم على قماشتي اللوحات المتناسقة التي تروق لها. إنّ مظهري هو أوّل همومها في هذه الحياة، وقد شاء لها حظها أن تقع على رجل فوضوي القيَافة، لا يُراعي تناغُم ألوان القميص مع ألوان المناديل، ولا مع سوار الساعة. هل تُصدّقون أن موهبة زوجتي الفنية تصل إلى سوار الساعة أيضاً؟ يتوجب عليّ، قبل أن أخرُج من البيت، أن أمر على قلم رقابتها، فتحذف ما تشاء، وتُغيّر ما تشاء، ولا تعطيني رخصة الانصراف إلا بعد أن أكون قد ضبطت ثيابي على ذوقها.. أيْ أن أكون تحوّلت إلى "سيمفونية لا نشاز فيها"، حسب عبارتها المفضلة. هل أنا امرأة لكي أراعي الألوان كل هذه المراعاة؟ قبل الزواج، كنت رجلاً حُرّاً في شكله ومضمونه. أو بالأحرى، نادراً ما خطر ببالي أن أنتبه إلى التناسق المفروض بين الثياب التي أضعها على جسمي، أو النعال والأحذية التي أدس فيها قدمي. كنت أرتدي ما أشاء، أو ما يقع تحت يدي من ثياب. لم يكن التناسق هو المعيار، بل أي قطعة نظيفة ومكوية. وبعد ذلك تأتي شقيقتي وتُلملم بقاياي وتأخذها إلى الغسيل من دون أي تعليق. إنّه مظهري أنا، فما شأن الآخرين به؟ أليس الثوب المريح هو الثوب الأجمل؟ لكن زوجتي لا تفهم لماذا يتوجب على الثوب المتناسق أن يكون غير مُريح. إنها تشتري لي ثيابي الداخلية التي تتماشى ورداء النوم، وتختار لي الحذاء من لون السترة نفسها، أما إذا سافرنا إلى بلد بارد، فهناك تقع الطامة الكبرى، لأن عليّ أن أطبّق قانون التناسق على المعطف وغطاء الرأس، ولفاف الرقبة وحتى الجوربين. لقد فرضت عليَّ ارتداء الجوارب البيضاء، شئت أم أبَيْت. وهي تراها أكثر أناقة وشبابية. لكنني خالفتها، ذات يوم، واشتريت من وراء ظهرها زوج جوارب بنفسجياً، وقررتُ أن أفاجئها وأرتديه عندما نزور أهلها في العيد. وطبعاً، فقد لجأتُ إلى مختلف الحيل لكي لا أمرَّ على "قلم الرقابة" قبل الخروج من البيت. ولمّا وصلنا، جلست في صدر المضافة ووضعت ساقاً على ساق، ولعلَع البنفسج في المكان. خرجت عينَا زوجتي من محجريهما، كما يخرج البؤبؤ من عيني الدمية في أفلام الكرتون، عند العجب، ثمّ يعود إلى محله. لقد انقلب العيد إلى ساحة حرب، وركبها مزاج سوداوي لا يتناسب ورغبتي البريئة في المشاكسة. إنّها لا تُصدّق أنّ اللوحة تمرّدت على بيكاسو. - هل يولد الرجال من دون ذوق؟ لا، طبعاً. ليس لاحترام التناسق اللوني علاقة بالجينات. إنها قضية نتعلمها من الحياة ومن المشاهدات ومن المطالعات ومن التجارب. وأظنّ أن عين الرجل، مثل عين المرأة، تنفز من المنظر المتصادم والمشهد النشاز، مثلما تنفر الأذن من نعيب البوم ونهيق الحمار. مع هذا، فقد لاحظت أن معظم الرجال يُهملون هذه الناحية الجوهرية في المظهر، وكأنّهم ينتظرون أن تأتي امرأة إلى حياتهم لكي تضبط لهم إيقاع الأناقة المتناسقة والمريحة للبَصر. إنّ ارتداء الثياب واختيار ألوانها فن يُشبه، بالنسبة إليّ، فن تنسيق الأزهار أو ترتيب الواجبهات، أليس مظهرنا هو واجهتنا كبشر؟ وأيضاً، كنت قد لاحظت أن قيافة الرجال تعتدل وتتحسّن بعد الزواج. وحتى شكل التسريحة وتقليم الشوارب يتجه نحو زوايا أكثر جاذبية، وكأنّ الزوجة تريد أن تترك بصمتها على مظهر زوجها وترفع من ذوقه، لكي ترفع من شأنه بين الناس. وبالنسبة إليَّ، فقد تعودت أن ألوم الزوجة حين أجد رجلاً يرتدي قميصاً مُجعَّداً، أو سترة بزر ناقص. كيف سمحت المرأة بخروجه وهو على هذا الشكل الذي يُعلن عن إهمالها؟ في البيت الذي نشأت فيه، كان الأمر يجري بالمقلوب. فقد كانت والدتي تغرق في شبر ماء، حين يتعلق الأمر بالاستعداد للذهاب إلى عرس أو حفل سعيد. لذلك، كان والدي يأخذ على عاتقه اختيار ثوبها ونوع الحلي المناسبة له، ولون طرحتها، بل ويشتري لها الحذاء والحقيبة المناسبين، أيضاً. وأظن أنني تعلمت الذوق السليم من أبي، الذي كان يتردد على مصايف لبنان، قبل ولادتنا، ومنذ شبابه الأوّل. وهناك، في سوق الطويلة، كان يتفرج ويلاحظ ويتعلم، ويختار ثيابه بناء على نصائح باعة وخياطين ذوّاقة. كيف لا أقارن بين أبي والرجل الذي صار من نصيبي؟ إنّه زوج لذيذ وأنا أحبه، لكنه يحوز علامة الصفر، عن جدارة، في أي امتحان للألوان والذوق السليم. وإلا، فهل يُعقَل أن يلبس رجل جوربين بنفسجيين مع حذاء بني ويجلس رافعاً الساق على الساق، متحدّياً كل الموجودين؟ ليتَني لم ألح عليه لكي يرتدي الأحذية الأنيقة المغلقة.. ليته جاء بالنَّعل وبقدمين عاريتين، بدل هذه الفضيحة التي لم أُفلح في تفاديها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق