◄إنّ قضية علاقة الرواية العربية بالوسيط الجديد (الحاسوب وبرمجياته) هي من بين أكثر القضايا إثارة للتفكير والإهتمام، ولا سيما بعد ظهور تجارب روائية أجنبية تستثمر إمكاناته، وتسعى للإبداع من خلاله، في الوقت الذي لا تزال التجربة الروائية العربية عاجزة عن إدراك أهميّته وتمثل قيمته وضرورته في عصرنا الحالي.
يفرض علينا التمهيد لهذه العلاقة الممكنة بين الرواية والوسيط الجديد إعادة النظر في الكيفية التي يتم بواسطتها الإنتاج السردي، وهو يتغيّر من وسيط إلى آخر، بقصد معاينة أثر كل وسيط في استدعاء شروط معيّنة وفرض إكراهات محددة ووضع حدود خاصة على أي ممارسة سردية.
لذلك سنحاول هنا، بإيجاز، تقديم أهمّ العناصر التي يختلف بها السرد وهو يتجلّى تارة من خلال الشفاهة أو الكتابة أو الطباعة ثمّ الرقامة للوقوف على التحوّلات الطارئة بسبب اختلاف هذه الوسائط، ودور كل منها في منح السرد مواصفات تتقيّد بمراغماته وحدوده وإمكاناته.
1- السرد الشفوي:
1-1- الراوي والسرد:
ماذا يفعل الراوي الشعبي حين يسرد؟ قلّما التفتنا إلى العملية التي يقوم بها وهو يضطلع بعمله سارداً مادة حكائية ما، لأنّنا نهتم أكثر بمقوله السردي بإعتباره ملفوظاً، ولم نول عملية التلفظ، وبكل ما يحيط بها، ما تستحق من العناية.
حين نهتم بعملية التلفظ، وفي هذا الطرح، سنجد أنفسنا أمام مجموعة من العمليات التي يمكننا ترتيبها على النحو التالي:
1-1-1- مرحلة الإعداد:
يتكوّن الإعداد من عمليتين إثنتين تتحققان في الوقت ذاته، وفي زمان قياسي:
أ) التنشيط: إنّه يبدأ بتنشيط الذاكرة، وما تختزنه من نصوص، كثيرة ومتنوعة، محفوظة لديه.
ب) الإختيار: يختار من مخزونه نصّاً يتلاءم مع المقام الذي يوجد فيه (الزمان، المكان، الجمهور...)، وذلك عن طريق انتهاج استراتيجيتين متداخلتين:
1- انتقاء الموضوع والنوع السردي.
2- تحديد الأثر الذي يريد خلقه لدى جمهوره.
إنّ عملية الإعداد تتم بناء على حصافة الراوي الشعبي وذكائه وثقافته وحضور بداهته في تعامله مع:
أ) الجمهور: يخاطب الراوي الشعبي جمهوراً مباشراً: إنّه يوجد أمامه. ولابدّ له من قراءة اجتماعية ونفسية لهذا الجمهور، وذلك من خلال مراعاة:
- الجنس (ذكور، إناث).
- السن (أحداث، شباب، شيوخ).
- المستوى الإجتماعي (فقراء، أغنياء، متدينون، متحررون، خاصة - عامة).
- العلاقات العائلية (القرابة، التنوّع).
ب) الموضوع: إنّ تحديد الجمهور هو الذي يدفعه إلى انتقاء الموضوع وما يشتمل عليه من أنماط سردية وأساليب ولغات:
- الهزلي في حالة غلبة الشباب، الجاد في حال تنوّع الجمهور.
- الواقعي والعجائبي والغرائبي: إنّ طبيعة الجمهور تحدِّد نمط السرد المطلوب. فهناك مَن يستقبل العجائبي المغرق في الخيال، وهناك مَن يستنكره ولا يقبل به.
- الإسفاف اللغوي أو انتقاء الألفاظ لعدم الحرج عندما يكون الجمهور مختلطاً (ذكور، أناث) أو بين عناصره قرابة ما تفرض الحشمة وتستدعي عدم الإحراج.
ج) الزمان: إنّ زمان حكي قصة طويلة تستدعي زمان طويلاً، ليس مثل تقديم حكايات قصيرة تتجاوب مع فترة زمان الحكي ومدّته بحسب الفضاء الذي تقدم فيه. إنّ كل هذه التحديدات (الجمهور والموضوع والزمان) لها علاقة وثيقة بـ:
د) الأثـر: يرمي الراوي إلى توليد أثر محدد لدى جمهوره: فالإمتاع والتشويق يظل حاضراً أبداً، وماثلاً في أي ممارسة حكائية أو سردية، بما فيها ما يجري بين الناس في الحياة اليومية، لإثارة الإنتباه وشدّ الأسماع. وإلى جانبه لابدّ من تحقيق الآثار الأخرى التي يسعى إلى تحقيقها من خلال مراعاة المقام السردي: الإضحاك، الإبكاء، التدبُّر، التثقيف.
1-1-2- مرحلة الأداء:
بعد مرحلة الإعداد التي تتخذ بُعداً ذهنياً وإدراكياً للفضاء والمقام الذي يوجد فيه الراوي، تبدأ مرحلة الأداء وتتمثّل في تجسيد كل ما تمّ تحضيره وتكوينه عن السياق الذي يمارس فيه عمله كراو، وذلك عن طريق "ترهين" القصة المراد تقديمها، ونقلها من الغياب إلى الحضور، وذلك من خلال العمليات التالية:
أ) الإعلان عن الميثاق السردي: يبدو ذلك من خلال المُناصات التمهيدية المتعارف عليها في البيئة الثقافية التي يوجد فيها: الصلاة على النبي (ص) لإسكات الجمهور من جهة، وتحقيق أوّل تفاعل معه بدعوته للصلاة على النبي وبصوت مرتفع من جهة ثانية، والإعلان عن بدء السرد من جهة ثالثة. يلي ذلك تقديم "عنوان القصة" أو محتواها العام بإيجاز عبر أحد المناصات المعهودة أو صيغ الأداء المتداولة.
ب) ترهين القصة: والمقصود بذلك نقلها من مرحلة الكمون إلى التجلي، ويتم ذلك بواسطة توظيف نوعين من العلامات:
ب- 1- لغوية: إنّ القصة تروى شفوياً، وهي بذلك تتوجّه إلى الأسماع. ويراعى في تقديمها الصوت الذي يتغيّر بحسب إيقاع القصّة ومواطن القوّة والضعف فيها، وتبدل مواقعها تبعاً لطبيعة الأحداث. فيكون التلوين الصوتي وتغيير نبراته جهراً وهمساً عبر محاكاة أصوات الشخصيات. والتوقف بين الفينة والأخرى لإستدراج السامعين وإدماجهم في عالم القصة، عبر توظيف مختلف التقنيات المؤثرة والضامنة لمواصلة الإنشداد إلى ما يروى، والإنغمار فيه.
ب- 2- حركية: إنّ الجمهور المباشر لا يسمع فقط كلاماً، ولكنه أيضاً يرى الراوي، وهو يستعين بأداء حركي يصاحب ما يتلفّظ به: الإشارة باليد، وإمالة الرأس، وتحريك الجذع الأعلى إذا كان جالساً، أو التحرك أماماً وخلفاً أو يميناً ويساراً إذا كان واقفاً.
إنّنا عندما نتحدّث عن "الحكي الشفوي" قلّما نعطي قيمة للبُعد الحركي الذي يصاحب استعمال اللغة في الكلام، وحتى في اللغة الطبيعية. غير أنّ الحركات، لأنّها غير قابلة للتحقق، إلا عبر الصورة، تظل مقصاة أبداً من أي تحليل يوظف اللغة، رغم أنّ هذا التعبير الجسدي يكون أحياناً أعمق وأصدق وأوجز في التعبير من الشفوي الذي يكون مرافقاً له.
كلّ هذه العمليات التي يضطلع بها الراوي في تقديم القصة (المادة الحكائية) هي التي تضمن التواصل الحقيقي بين الراوي والمروي له. وحين نربط هذا السرد بالمجلس كفضاء للإنتاج والتلقي، نكون نضع في الإعتبار كل العناصر التي تسهم في تشكيل هذا السرد وإعطائه "شكلاً" و"معنىً" يتناسب مع خصوصيته المجلسية. وهي بالضرورة تختلف عن السرد المقدم بواسطة وسائط أخرى مختلفة، من السرد المكتوب أو المطبوع أو المرقوم. لذلك فنحن مطالبون بتدقيق مختلف هذه العناصر بما يتلاءم مع خصوصية أي سرد في علاقته بالوسيط الذي يوظفه.
2- السرد الكتابي:
2-1- الكاتب والسرد الشفوي:
يختلف توظيف الكتابة باليد لترهين القصة، عن استعمال البُعد الشفوي في تقديمها، سواء من حيث الإعداد أو الأداء. ونميز، ونحن بصدد الكتابة بين مرحلتين: مرحلة تحويل الشفوي إلى الكتابي، ومرحلة الإبداع الكتابي.
في المرحلة الأولى يقتصر الأمر على تحويل المادة "المحفوظة" إلى الكتابة. وتكون المحافظة على أهمّ العناصر الشفوية في مخاطبة الجمهور (الذي يمكن أن يسمع النص مقروءاً، أو يقرأه مخطوطاً). وبذلك يتم ترهين القصة بالحفاظ على أدائها اللغوي. والعنصر المغيب في هذه المرحلة هو "البُعد الحركي" للراوي. لكن كل المصاحبات اللفظية لـ"الحركة" والتي كان يجسدها الراوي في أدائه، تصبح حاضرة من خلال: الوصف، التعبيرات المصاحبة للحركات أو الإنفعالات: صرخ قائلاً، ردّ عليه بغضب...
إنّ العنصر الجديد في هذه المرحلة هو "فضاء" الصفحة الذي يفرض إكراهاته على الكاتب (المدون، الناسخ)، وهو يسعى إلى ملئه وفق قوانين التعامل مع الورقة في الكتابة، والذي كان يقضي، تبعاً للتقاليد التي فرضتها الصفحة المكتوبة، ألا يترك أي فراغ إلا في الهوامش المحيطة بالصفحة (أعلى – أسفل/ يمين – يسار) لأنّ الصفحة كتلة واحدة. لذلك لم يكن هناك، مثلاً، رجوع إلى السطر لبداية قصة جديدة، أو لإعلان التحول إلى مقطع جديد. وكان يتم ذلك بتغيير لون الخط، أو وضع بعض الرموز أو العلامات الفارقة. ويمكننا تلمس ذلك بجلاء بالرجوع إلى المخطوطات العربية.
لم يتغيّر الأمر كثيراً مع "الكاتب" الذي يؤلِّف مواده الحكائية، ولا يستند في السرد إلى جاهز محفوظاته (بديع الزمان في مقاماته مثلاً). إنّه يؤلِّف مواده الحكائية بالتخطيط الذهني لها وتصوّر بداية للقصة ونهاية لها، ويُبيِّنها وفق الخطاطة التي نجدها في السرد الشفوي. وفي عملية صياغتها يخضع لإكراهات الصفحة. رغم أنّنا، مع الزمن، ومع تطوّر صناعة الورق، صار التعامل مع الصفحة بطريقة أكثر مرونة ووقع تحسن في توظيفها: استعمال الألوان، المربعات لكتابة العناوين المميّزة، الأشكال، التزيين بالصور... (المقامات نموذجاً). لكن التطوّر الأكبر سيحصل مع المطبعة التي ستغيِّر طرائق الكتابة، وتدعو الكتاب إلى السير وفق المتطلبات التي تحققها مع النص المطبوع، وبذلك يتم القطع مع كل رواسب الشفوية.
2-2- الكاتب والسرد الكتابي:
2-2-1- القارئ والإنغلاق:
مع ظهور المطبعة يمكن الحديث عن السرد الكتابي بإمتياز. فمرحلة الإعداد والأداء تختلف اختلافاً بيِّناً بمقارنتها مع ما رأيناه في السرد الشفوي وتطوّره مع الكتابة باليد. ذلك أنّ الكتاب المطبوع يتميّز بعنصرين جوهريين، يجعلانه مختلفاً عن السرد الشفوي أو "المخطوط". هذان العنصران هما: القارئ والإنغلاق.
أ) القارئ: يتوجّه السرد الكتابي إلى القارئ، وهو غير محدَّد وغير معروف بالنسبة للكاتب. وعليه أن يضع في اعتباره هذا العنصر الجوهري. إنّه مختلف جذرياً عن جمهور المجلس الذي كان "الراوي" يراه، ويكيف مادته السردية مع طبيعته ونوعيته.
ب) الإنغلاق: العنصر الجوهري الثاني هو الإنغلاق. والمقصود به أنّ النص المطبوع لا يمكن تغييره بالزيادة أو النقصان لأنّه مغلق ومنته، عكس الكتاب المخطوط أو الشفوي الذي يمكن تغييره أو الإضافة إليه لأنّه يظل مفتوحاً. نجد هذا في تعدد الصيغ واختلافها والتصرف فيها بتعدد النسخ من الكتاب نفسه.
يفرض هذا البُعد على الكاتب ألا يقدِّم كتابه للطبع إلا بعد إحساسه بأنّه "مكتمل" أو منته. وحتى في حال طبعة جديدة، فإنّ التغييرات التي يدخلها المؤلف تظل محدودة ومعروفة. لذلك نجد أنّ هذا الإحساس سيؤثر على عملية الإعداد والأداء بالنسبة للسرد الكتابي المطبوع، يبدو لنا ذلك ممّا يلي:
2-2-2- الإعـداد:
تختلف مرحلة الإعداد، في السرد الكتابي، عن نظيرتها في السرد الشفوي، باختلاف الوسيط ومراغماته. فتنشيط المخيلة والحافظة، واختيار المادة وانتقاء الموضوع والنوع تتخذ أبعاداً جديدة تتصل بضرورة الكتابة حيث ينطلق الكاتب من قراءاته لنصوص سردية سابقة من جهة، ومن معايشاته وسماعاته. وبما أنّ الكاتب لا يتوجّه إلى جمهور محدَّد، فإنّ الصورة المكوّنة لديه من خلال قراءاته للنصوص السردية السابقة (الروائية مثلاً) هي التي تضع أمامه "الصورة" الممكنة للقارئ النموذج. وهذه الصورة لا تختلف إلا في الكتابات السردية الموجّهة إلى الأحداث والأطفال، حيث يستدعي الأمر مراعاة جوانب السن، وتجنب الإسفاف اللغوي والأخلاقي بالدرجة الأولى.
أمّا زمن القراءة، فلا يعيره الكاتب اهتماماً كبيراً، ولذلك نجد روايات قصيرة، وأخرى تتكوّن من أجزاء (الثلاثيات والرباعيات والخماسيات).
نجد بناءً على هذه التوضيحات أنّ مرحلة الإعداد في السرد الكتابي تأخذ المسار التالي الذي يجعلها بدورها تتكوّن من مرحلتين:
أ) مرحلة التخطيط: تتصل هذه المرحلة بصورة أوّلية بالمادة الحكائية (القصة)، إذا كانت هناك قصة محورية. فيتم من خلالها تحديد الأحداث الكبرى والشخصيات التي تضطلع بها، والفضاء والزمان اللذين تجري فيهما تلك الأحداث. ولا داعي للتنبيه إلى أنّ المادة الحكائية يمكن أن تكون هنا "واقعية" أو متخيلة.
ب) مرحلة البناء: تتعلّق هذه المرحلة بالشكل أو الأسلوب الخطابي الذي تبنى من خلاله المادة الحكائية (تسلسلي، دائري...)، ومن خلاله يتم تحديد بداية النص الروائي ونهايته.
يتداخل في مرحلة الإعداد التخطيط بالبناء، وقد يتلو أحدهما الآخر. وكل ذلك يتم بناء على مراس الكاتب وحنكته وتجربته من جهة، ونوعية النص المفكر في إنجازه من جهة ثانية. إنّ النصوص تختلف بساطة وتعقيداً، سواء على مستوى القصة والخطاب معاً. لكن مرحلة الإعداد بمرحلتيها تظل ناقصة دون الإنتقال إلى ممارسة الكتابة التي تتصل بمرحلة الإنجاز أو الأداء.
2-2-3- الأداء:
إنّ هذه المرحلة هي التي تتحقق فيها عملية ترهين النص عن طريق الكتابة، ويمكننا تقسيمها، أيضاً، إلى لحظتين:
أ) الكتابة: لا يمكن أن تكتب الرواية دفعة واحدة مهما كانت رغبة الكاتب أو إمكاناته بسبب طبيعة الرواية. وبما أنّ زمن كتابة الرواية يمكن أن يمتد لشهور أو لسنوات، فلا يمكن للكاتب أن يتقدّم في إنجاز هذه المرحلة إلا عبر كتابة "شذرات" أو قطع بين الفينة والأخرى وفي أزمنة مختلفة. يمكن أن تأتي هذه الشذرات على شكل فصول متسلسلة، أو وحدات حكائية متقطعة، أو مقاطع سردية منفصلة، ومن خلال عملية الكتابة "المنجمة" والمتفرقة يبدأ تشكل النص، وهو يتكوّن باستمرار، ويتعدّل بإطراد مغيراً ما كان قد تبلور في مرحلة التخطيط والبناء.
ب) التنظيم النصي: بعد اكتمال الشذرات المكتوبة، ويتبيّن للكاتب أنّ القصة أو المادة الحكائية قد وصلت حدّ الإكتمال، ولم يبق ما يمكنه أن يضيفه إليها، تكون تلك الشذرات قد اتخذت شكل بنيات أو وحدات أو مقاطع أو جمل سردية محددة، تأتي عملية تنظيمها أو إعادة تنظيمها، أي إعطاؤها "الشكل" أو "البناء" الخاص بها كما يتمثّله الكاتب أو يتصوّره خدمة للمرامي أو الآثار التي يسعى لتحقيقها من خلال عملية الكتابة، عبر عملية التنظيم النصي.
لكن هذا التنظيم النصي لا يمكن أن يتجلّى إلا من خلال "الفضاء النصي" الذي يتحدّد من خلال الصفحة "المكتوبة" وهي تتضافر مع مجموع الصفحات لتشكيل النص الروائي وهو يأخذ صفة "الكاتب الروائي": صفحات متتالية ومرقمة من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، ووفق مقاس خاص.
لا يخرج تنسيق وتنظيم النص الروائي على المواصفات التي يفرضها الكتاب: إنّه يأخذ طابعاً خطياً نتدرّج فيه من أعلى الصفحة إلى أسفلها، ومن الصفحة اليمنى إلى اليسرى، ومن بداية التسلسل حتى نهايته. غير أنّ هذا التنظيم، وهو توافقي وتمليه إكراهات الكتاب، يتيح للكاتب أن يتصرّف فيه وفق مقتضيات تفرضها طبيعة النص. لقد قلنا عنه إنّه عبارة عن شذرات كتبت في مراحلة متعددة. لذلك فالكاتب مدعو إلى التمييز بين هذه الشذرات باعتماد ضوابط معيّنة في تقسيمها وضم بعضها إلى جانب بعض، وكل ذلك يتم من خلال توظيف مؤشرات وعلامات في التنظيم والتنسيق. نذكر من بين هذه العلامات:
أ) علامات الوقف والكتابة: وتتم من خلال استعمال العلامات المختلفة من فواصل، ونقط، وعلامات الإعتراض، ومؤشرات الحوار، لصلاتها بالبعد الكتابي. كما أنّ الكاتب يمكنه التمييز بين هذه الشذرات أو البنيات النصيات بتبديل الخطوط والأشكال: خط غليظ - مائل، عبر استثمار كل الإمكانات التي تتيحها التكنولوجيا المكتبية.
ب) مؤشرات التنظيم النصي: وتدخل في هذا النطاق كل العلامات التي تصل أو تفصل بين مختلف أنواع الكتل النصية من البنيات والوحدات والمقاطع والجمل. ويندرج ضمنها: توظيف العتبات والمناصات (العناوين الفرعية، تقسيم الفصول) أو استخدام الأرقام للفصل بينها، وهي تأخذ أحياناً ترتيباً تصاعدياً (1-2-3- ...) أو تنازلياً (... 3-2-1) وفق المقتضيات التي يراها الكاتب وهو يعطي بناءً معمارياً خاصاً بروايته (نجمة أغسطس لصنع الله إبراهيم، أو الطين لعبده خال...)، أو توظيف الفواصل على شكل مسافات بيضاء بين المقاطع، حيناً، أو وضع نقط أو نجيمات، كما أنّ لعبة البياض والسواد والرجوع إلى الصفحة الجديدة...
ولمّا كانت الصفحة ذات طول محدد، فقد يلجأ الكاتب لتجاوز إكراهاتها إلى تقسيمها قسمين أفقيين، بحيث يضم كل قسم "بنية نصية" مختلفة عن الأخرى تحتها، ويمكن للقارئ أن يقرأ كل بنية نصية على حدة (رواية حبي لرجاء عالم مثلاً...)، أو يعمد إلى تقسيمها عمودياً بحيث يتقابل النصّان، ويمكن أن يقرآ في آن واحد بشكل تسلسلي، ولكن كل بنية في جانب من عمود الصفحة (مجنون الماء لإدريس بمليح مثلاً...).
كما أنّ الروائي يمكنه أن يزاوج في استغلاله لفضاء الصفحة عبر توظيف الصور إلى جانب الكتلة النصية أو تحتها ("شرفة الهذيان" لإبراهيم نصر الله مثلاً). وفي كل عمليات التنظيم هذه، يراعي الروائي، بحسب وعيه بشروط الكتابة وقواعدها، إكراهات الصفحة وإعداداتها التي لا يمكنه التحرك فيها إلا بناءً على قيودها وشروطها، رغم أنّ مجالات استثمارها يمكن أن تتعدّى حدودها كما هي ممارسة، أي عبر الإبداع داخل تلك الحدود التي تفرضها: فرواية حبي، وهي تزدوج إلى بنيتين نصّيتين يفصلهما بينهما خط، كان الأجدر في تنظيم الصفحة وإعدادها أن يأخذ صورة غير الصورة المعهودة في استغلال فضاء النص: كأن تكون الصفحة أفقية (عرضي) وليست عمودية (طولي). لكن شكل الكتاب العرضي (أفقياً) سيكون مختلفاً عن "طبيعة" الكتاب التي نعرف. ويمكن قول الشيء نفسه عن المقاطع السردية، في مجنون الماء، التي تأتي البنيتان فيها متعامدتين (طولياً)، حيث كان ينبغي أن تأخذ الصفحة بُعداً أفقياً (عرضياً) أيضاً، وهكذا دواليك...
نتبيّن من خلال الوقوف على هذه الملاحظات أنّ عملية التنظيم النصي في وعي الكاتب ولا وعيه أيضاً، يتم وفق إكراهات "الفضاء النصي": الصفحة والكتاب. إنّ الروائي ينظم مادة روايته وفق "شروط" الصفحة. وإذا ما "تمرد" على إكراهاتها وحاول تقسيم الصفحة لتقديم نصيين أفقيين أو عمودين، نجد الصفحة لديه تظل تأخذ صورتها التقليدية (العمودية): إنّه تمرد مقيد. وإذا ما كان الروائي "متحرراً" جداً وكان لديه وعي دقيق بإعدادات الصفحة وإمكاناتها، فقيود الناشر والقارئ ستطرح عليه...
إنّنا عندما نقارن بين السرد الشفوي والكتابي من خلال مختلف المراحل التي وقفنا عليها، نسجل أنّ السرد الشفوي كان أكثر تحرراً في عمليته التواصلية. لكن شروط الشفاهية التي كانت سائدة قبل ظهور الكتابة كانت مقيدة بدورها بشروط اجتماعية وثقافية تتصل بما قبل العصر الحديث. وأنّ السرد الكتابي كان أكثر تقدماً من حيث قيمته الإنجازية، ولعبت الطباعة دوراً كبيراً في جعل النص المطبوع يتطوّر إلى أقصى مداه، حتى بات الكُتّاب والمبدعون يدركون (وخاصة في الغرب) شروطه وحدوده، فعملوا على تجاوزها باللعب داخل الصفحة بصور متعددة، أو اقتراح الصفحات المنفصل بعضها عن بعض، أو من خلال تجاوز النص المطبوع إلى النص المرئي (استغلال السينما وكتابة السيناريو نجيب محفوظ، وفي تجربة آلان روب غرييه مثلاً). لكن ظهور وسيط جديد (الحاسوب) سيأتي لإعطاء الكاتب الروائي إمكانات جديدة في الإبداع الروائي، تجعله بالدرجة الأولى يتجاوز حدود الصفحة المطبوعة وإكراهاتها.
3- السرد الرقمي:
سوف لا نطيل في هذه النقطة لأنّنا بصدد إعداد كتاب حول الأدب الرقمي، ويحتل الحديث فيه عن السرد الرقمي والرواية المترابطة المكانة الأولى. ونستكمل ما بدأناه حول السرد الشفوي والكتابي والطباعي، من خلال الوقوف على الأكثر أهميّة فيما يتعلّق بالسرد الرقمي.
إنّ مرحلة الإعداد التي رأيناها تحت عنوان السرد الكتابي هي نفسها التي سنجدها في السرد الرقمي، مع فارق جوهري، وهو:
أ) أن الكاتب وهو يخطط لمادته الحكائية، أو:
ب) يقدم تصوراً لخطابها، أو وهو:
ت) يرمي إلى تشكيل صورة لبناء نصّه، أو كتابته وتنظيمه النصي، يضع في اعتباره أنّ نصه الروائي سوف لا يقدم من خلال "الكتاب" (النص الورقي)، ولكن من خلال "شاشة" الحاسوب، أي أنّه سينتج ضمن شروط وإعدادات النص الرقمي، وأنّ "القارئ" سوف يتعامل معه من خلال هذا الوسيط أيضاً.
إنّ هذا الفارق الجوهري سيدفع الكاتب إلى التفكير في روايته بطريقة مختلفة تماماً، لأن عليه أن يضع في حسبانه كل شروط وضرورات الرقامة وما يتصل بها. أي أنّه بتعبير آخر سيفكِّر في إنتاج نص رقمي بكل ما يستلزمه ذلك بمنأى عن إكراهات النص الورقي. وعليه فالنص الرقمي (الروائي في حالتنا) إذا تعاملنا معه في كليته، سنجد يتشكّل من مكونين أساسيين:
1- البنيات/ العقد: وهذه البنيات نصّية بالدرجة الأولى، لكن يمكن أن تأخذ أيضاً بُعداً صورياً أو صوتياً... (عقد). وضمن هذه البنيات أو العقد نجد أنفسنا أمام المادة الحكائية وهي تقدم من خلال بنيات خطابية.
2- العلاقات/ الروابط: وبما أنّ تلك البنيات ستقدم بشكل يجعل بعضها مستقلاً عن بعض، فعلى الروائي أن يوجد علاقات بينها. وهذه العلاقات تتحقق في النص الرقمي من خلال "الروابط" التي تمكننا بالنقر عليها بالإنتقال بين البنيات والعقد.
تبعاً لهذا التمييز، يغدو من أولى الأمور التي على الروائي أن يُفكِّر فيها بعد ممارسته التخطحيط والبناء أن يعطي لـ"شذراته" طابعها الخاص بها، باعتبارها بنيات "شبه مستقلة". أي أن كل بنية لها طبيعتها النحوية والدلالية والعلاماتية الخاصة. ويستدعي ذلك جعل هذه الشذرات/ البنيات مختصرة وألا تتعدّى في أحسن الأحوال "صفحة الشاشة". كما أنّ على الروائي أيضاً أن يفكِّر في الروابط التي يمكن أن تصل بين مختلف هذه البنيات التي يتشكّل منها النص الروائي.
سبق أن سجلنا كون "التنظيم النصي" أهم عنصر في الكتابة الروائية الورقية، من خلال الإشتغال بالفضاء النصي للصفحة وتوزيع النص عليها. ويمكننا قول الشيء نفسه عن الرواية الرقمية، فالتنظيم النصي الذي يتصل هذه المرة بالروابط بين العقد أو البنيات سيغدو أهم مكون في الكتابة الرقمية. لذلك فالكاتب مدعو أن يعطي مسألة التنظيم النصي أهميّة خاصة وهو يعمل على بناء نصه الروائي، وهو يتأسّس على قاعدة الربط بين مختلف مكوناته، وقد صارت مع النص الرقمي قابلة لأن يتجاور فيها النصي بالصوري وبالصوتي بكيفيّة لا يمكن تحققها في النص الورقي.
إنّنا مع الوسيط الجديد صرنا أمام تجربة "كتابية" جديدة تتخذ من توظيف التكنولوجيا الجديدة منطلقاً مختلفاً لما كان سائداً، وهي بذلك تتجاوز كل التجريب الذي مورس منذ أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات. ويتطلب هذا وعياً جديداً بالكتابة ورؤية مغايرة للنص وللسرد وقد صار يتخذ مع الرقامة مواصفات جديدة ومختلفة جذرياً عن كل الممارسات السالفة.►
المصدر: كتاب قضايا الرواية العربية الجديدة.. الوجود والحدود
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق