أن نتذكر الذين نحبهم وفارقناهم، فليس في ذلك ما يثير، بل من الواجب أن نتذكرهم في المناسبات التي تشير إليهم، وأن تذكر الأصدقاء القدامى، والجيران القدامى، وأصدقاء الدراسة في مراحلها الأولى، أو دهاليز الفريج والمنطقة، وكما يسميها البعض الحي والضيعة. وتختلف الذاكرة بما تحمله من مشاعر حول كل من نتذكرهم. فهناك ذاكرة تُحزننا، وأخرى تُفرحنا، وأخرى تقتحمنا بتفاصيلها المملة أو الممتعة. وكل هؤلاء تذكُّرهم واجب ونُكرانهم هو المُستغرَب.
أما الروعة والمتعة فهما تذكر العابرين في حياتنا. وهنا يجب أن نبحث عن السر في ذلك، على الرغم من علمنا أن هؤلاء حين داهمونا أوّل مرة، كأنهم قالوا لنا: نحن عابرون في حياتكم، فليس عليكم أي التزام تجاهنا، فلن نحزن إن لم تتذكرونا.
أن تتذكر امرأة رأيتها في أحد المطارات مصادفة، وتتذكر إبتسامتها التي وهبتك الفرحة مصادفة، فنسيت تعب السفر والانتظار، وأناقتها التي استوقفت ذوقك مصادفة، ومن دون أن تشعر بك ومن دون أن تسمع منك، وتغادر وحدك المكان الذي عبأته بالمصادفات، وعلى الرغم من ذلك تتذكر تلك العابرة في كل مرور لك بأي مطار، وعند ذكر كلمة السفر أمامك أحياناً..
أن تتذكر شخصاً عابراً إلتقتيه أيام الدراسة، ولا تعرف اسمه، وملامحه حاصرها الضباب، فلم تعد تميز وجهه إنّ التقيته، ولا تميز صوته الذي قال لك حين التقيته: "أأنت فلان؟"، وعلى الرغم من أنك فلان الذي يعنيه، إلا أنك قلت له مازحاً: "كلا"، فانصرف عنك. وتتذكره في هذه اللحظة وتتمنى أن تلتقيه ليقول لك: "أأنت فلان؟" حتى تقوم له "نعم"، وتتذكره على الرغم من أنّه كان عابراً، وعلى الرغم من أن "كلا" و"نعم" متساويتان في ذلك اللقاء العابر، في ذلك الصباح الجامعي.
أن تتذكر شخصاً إلتقاك مصادفة وأخذك بالأحضان، وأخذته بالأحضان وبالسلام على الأهل والأصدقاء، وبالإبتسامات المتقطعة والضحكات العالية، وبعد دقائق تكتشف أنك لا تعرفه، فقد شبه لك، ويكتشف أنه لا يعرفك، فقد شبه لك، فتتبادلان الاعتذارات والضحكات الخجلى والابتسامات الباردة، وتفترقان على أمل ألا تلتقيا ثانية. وعلى الرغم من تلك المسافة بينكما، تتذكره وتتذكر تلك الحادثة المبللة بالخجل.
أن تتذكر صورة طفل رأيته في مجلة ذات يوم، ولم يكن لديك أطفال، وتمنيت أن يكون لك طفل مثله، لتضع صورته في المجلة. ويأتيك الطفل الذي تحبه، ويأتي الثاني الذي تحبه، ومازالت المجلة في انتظار صورة طفلك الأول أو الثاني أو الثالث، ولكنك لا تفعل ذلك، وتتذكر ذلك الطفل وضحكته في المجلة، وتتمنى أن ترسل الصورة، ولكن صورة طفلك لا تصل إلى المجلة، ومازلت تتذكر ذلك الطفل العابر.
العابرون في حياتنا ليسوا هامشيين. إننا نتذكرهم كلما سمحت الذاكرة بذلك، وكلما اقتحموا ذاكرتنا بلا استئذان، فيدخلون بشكل لطيف معطرين بالدهشة. نتذكرهم على الرغم من مرورهم السريع في حياتنا. فلا تحزن إذا كنت عابر في حياة الآخرين، فربما يتذكرونك، ولا تزدري العابرين، فربما يقتحم أحدهم ذاكرتك ليستوقفك، أكثر مما استوقفك حين كان عابراً في حياتك.
شعر
لمستُ الصمتَ فانفردتُ يدي بالأحرف الكبرى فكان حديثها صخباً ينزّ بهمسة البشرى يدي صوتٌ يدي قلمٌ يدي بجنونها سكرى **** لمست الخوف فانفرجت مخاوف صدريَ المثقلْ بهجر حبيبةٍ وبما يراود بالوغى أعزلْ كأني رأسُ سنبلةٍ ترى في نومها المنجلمقالات ذات صلة
ارسال التعليق