كل شيء مهما كانت وضعيته، يظل قابلاً لنوع من الارتقاء والتحسن؛ والخبرات المتراكمة لدى البشرية علمتها كيف تتلافى الأخطاء، وتستفيد من الفرص.
مسألة استثمار السماع ليعطي أفضل مردود شغلت منذ أمد بعيد الكثير من التربويين والمهتمين بالاتصال الإنساني. وبإمكاننا أن نضع هنا بعض النقاط التي تجعل السماع لدينا أعظم فائدة؛ وذلك على النحو الآتي:
- أوّل خطوة على طريق تحسين الإصغاء، هي أن نحاول السماع بنية الفهم لما يقال. ومع أن بإمكان كل واحد أن يدعي ذلك، إلا أنّ الصحيح أنّ الذين يولون القدر الكافي من الاهتمام والتركيز لما يسمعونه يظلون قلة. وكثير من الذين يظهر لنا أنهم مصغون فعلاً، إما أن يكونوا غير شاعرين بأهمية ما يسمعونه لهم، وإما أن يكونوا في حالة تهيّؤ للرد على ما سيسمعونه، أو يكونوا في حالة شرود، وفي جميع هذه الأحوال فإنّهم يحرمون من الفهم العميق لما يقال.
- ليست الأذن أداة سمع، وإنما هي أدوات توصيل فحسب؛ حيث إن عمليات السمع تتم في الدماغ، وهناك يتم تحليل ما يُسمع، وتحديد رد الفعل الملائم عليه؛ ولذا فإنّ للمرء أن يسمع، ويفهم، وبإمكانه أن سمع، ولا يفهم، حيث تتدخل في عمليات الفهم العميق أمور كثيرة جدّاً. وقد نهى الله –عزّ وعلا – المؤمنين عن بعض أحوال الكافرين والمنافقين في مسألة السماع في آيات عدة، منها قوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (الأنفال/ 21)، إذ في معتقداتهم وعقولهم ما يمنعهم من السماع الحقيقي المثمر الذي يضيف إلى المعرفة، ويغير السلوك. حين نستمع إلى شخص يتحدث، فإننا نحاول الفهم من منظور عاداتنا النفسية والفكرية، ومن خلال إطارنا المرجعي، وأحياناً من خلال مصالحنا.
ومع أنّ التخلص من ذلك على نحو كامل غير ممكن في معظم الأحيان، إلا أن علينا أن نجاهد أنفسنا لنفهم ما نصغي إليه من خلال الدخول إلى العالم الشخصي للمتكلم، فنرى إطار القضية التي يتحدث عنها من خلال نمطه الخاص في التفكير، ومن خلال رؤيته ومعلوماته ومشاعره...
هذا الدخول إلى العالم الشخصي للمتحدث، يحتاج منا إلى وعي مضاعف؛ فالكلمات والتراكيب والجمل التي ينطق بها، ليست ذات مدلولات معجمية صارمة، كما أنها لا تستخدم وفق عُرف اجتماعي محدد؛ من نحو الخلفية الثقافية والخبرة العامة، ومدى إلمام المتكلم بما يتحدث عنه والتاريخ العائلي له، ونوعية علاقته الشخصية بذلك، ومصلحته في الانطباعات التي يود أن يتركها...
وعلى سبيل المثال فإنّ المتحدث إذا كان يتناول حكاية خلافة مع خصم له، أو قصة انشقاقه عن حزبه، أو أسباب اتهامه بارتكاب جريمة، فإن علينا أن نتوقع سماع الكثير من الزيف والكثير من المبالغة، وأن نلمس إخفاء الكثير من الحقائق التي تعكر صفو النتائج التي يرغب في الوصول إليها.
هناك أشخاص تعودوا في أسلوب تحدثهم أن يستخدموا ألفاظاً من نحو (عظيم جدّاً) و(كثير جدّاً) و(قريب جدّاً)... وعلينا آنذاك أن نعرف كيف نحذف (جدّاً) هذه من مدلولات خطاب الواحد منهم، ونفهم ما يصفه على أنّه عظيم وكثير... من وجهة نظره هو.
وهناك أشخاص يغلب عليهم التشاؤم أو النظرة المثالية، فيستخدمون الألفاظ التي تصور نزعتهم تلك، وعلينا أن نعرف أيضاً كيف نحيد محصلات تلك الألفاظ، ونعزلها عن سياق المدلول العام لكلامهم. إذ فعلنا ذلك ونحوه أمكننا أن نتجاوز المعنى المباشر لما يقول إلى معنى المعنى، وأمكننا بذلك أن نحصل على فهم أكثر عمقاً وأكثر توازناً.
- علينا أن نستمع إلى المتحدث بصدر رحب مهما كان الكلام الذي يقوله مزعجاً أو غير منطقي أو غير دقيق؛ فهو يمثل وجهة نظر شخص، رضينا بتجشم مشاقّ الحضور من أجل سماعه. وانفعالنا الحاد سوف يحرمنا من استيعاب ما يقول، وسيضعنا في بداية الطريق إلى رد فعل غير سويّ عليه، حيث نفهم آنذاك فهماً مشوشاً، ونحمّل كلامه ما لا يحتمل، ونتيجة كل ذلك موقف غير دقيق ولا متزن.
- حتى تنجح عملية الإصغاء فإننا بحاجة إلى أن نكون في وضع بدني مريح؛ المقعد ينبغي أن يكون ملائماً، والمسافة التي بيننا وبين المتحدث أيضاً ملائمة؛ ويستحسن الجلوس في المقدمة، كما ينبغي أن يكون في مكان يتيح لنا رؤية جيِّدة للمتحدث؛ إذ إن معظم مفردات الرسالة – كما ذكرنا – سترد إلينا من تعابير الوجه وحركات الجسم. وينبغي ألا يكون المرء أيضاً جائعاً أو عطشان أو حاقناً حتى يستطيع الاستمرار في الاستماع والمتابعة بتركيز جيِّد.
- الإصغاء الجيِّد يقتضي ألا نقاطع المتحدث قبل إتمام قوله؛ فإذا كان كلامه منفِّراً إلى حد لا يطاق، فإنّ بإمكان المرء أن ينسحب من المكان، أو يشغل ذهنه بشيء يصرفه عن السماع. ومن حق المتحدث علينا كذلك ألا نصدر أي حكم على كلامه حتى ينهيه؛ ويؤسفني القول: إن مجالسنا مشحونة دائماً بالمقاطعات، ومشحونة بالأحكام المستعجلة! وسيكون من الحكمة أن نسأل عن بعض النقاط الملتبسة قبل أن نعلن الحرب على المتكلم!.
- المهم مما يقال دائماً هو جوهره، وهذا يملي علينا أمرين:
الأوّل: هو ألا يصرف انتباهنا عن مضمون الحديث الطريقة أو الأسلوب الذي يستخدمه المحاضر؛ فقد يكون استخدامه للغة سيئاً، كأن يكون غير متقن لقواعدها، وقد يكون لا يحسن النطق بالشواهد القرآنية أو الشعرية... وكثيراً ما يشغلنا هذا ونحوه عن الاهتمام بجوهر ما يقال.
الثاني: أنّه من خلال المداخلات والتعليقات والأسئلة التي تتم بعد المحاضرات والندوات، كثيراً ما يتم الانحراف عن صُلب الحديث، والصيرورة إلى مناقشة قضايا هامشيه وجانبية، مما ينسي الحاضرين الكثير مما اشتمل عليه الموضوع الذي اجتمعوا من أجله. وهذا يوجب علينا مرّة أخرى محاولة العودة دائماً إلى القضية الأساسية التي اجتمعنا للسماع عنها.
- حين يكون الحديث مركّزاً وكثير التشعيبات والتقسيمات، أو يكون طويلاً؛ فإن استيعابنا له سيكون جزئياً ومحدوداً، ولذا فلابدّ من أن يكون في يد الواحد منا قلم وورقة من أجل تدوين بعض الملاحظات وبعض الأفكار الأساسية الواردة؛ ولكن ينبغي الحذر من الاسترسال في الكتابة بحيث يبدو المتحدث وكأنّه يخاطب نفسه؛ فالتوجيه الإسلامي في هذا المجال ينطوي على أن نرمق المتحدث بأبصارنا حيث يتم تنظيم التفاعل الداخلي بيننا، وحيث يشعر المتحدث بأننا نشاركه في عمله.
إنّ ما يمكن قوله في قضية الإصغاء والاستماع كثير، وسنتمكن من أن نكون مستمعين جيِّدين إذا توفر لدينا ما يكفي من الاهتمام والوعي.
المصدر: العيش في الزمان الصعب
ارسال التعليق