• ٢٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أهداف الزهد في الإسلام

أسرة البلاغ

أهداف الزهد في الإسلام

◄الإسلام يحث على الزهد تحقيقاً للأهداف التالية:

1- الإيثار: فمهمة الدين تتمثل في حل المشكلة الاجتماعية الناتجة عن تعارض المصلحة الفردية مع المصلحة الاجتماعية. والإسلام يربي أبناءه تربية ينحل معها هذا التعارض، بل ويصبح الفرد المسلم يجد لذته في التضحية بلذائذه من أجل مصلحة الآخرين. يحرم نفسه من الملبس والمأكل والمشرب كي يتمتع بها الآخرون، ويحرم نفسه من النوم والراحة كي يسعد الآخرون.

صور الإيثار التي يذكرها لنا القرآن وكتب التاريخ عن الرعيل الأوّل من المسلمين تؤكد قدرة الإسلام على خلق الإنسان المتفاني في سبيل الآخرين.

سورة (هل أتى) تخلد واحدة من تلك الصور، حيث تتحدث عن إيثار أمير المؤمنين عليّ وأهل بيته الكرام. وتشير إلى تقديم ما يملكونه من طعام إلى مسكين ليلة وإلى يتيم في الليلة التالية وإلى أسير في الليلة الثالثة: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 8-9).

الإسلام حثّ على هذا الزهد في متاع الحياة الدنيا ورغّب فيه لأنّه تربية للإنسان على طريق السمو والتكامل، ومدح الصفوة المؤمنة من الأنصار التي جسّدت أروع صور الإيثار في المدينة، فقال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر/ 9).

2- المواساة: الإسلام يربي أفراد المجتمع على الاشتراك في العواطف والأحاسيس، ويصيّر منهم جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.

من هنا لا يمكن أن نتصور في المجتمع الإسلامي وجود فئة معدمة وفئة مترفة. لأنّ روح المواساة التي يخلقها الإسلام في المجتمع تأبى على المتمكنين أن يتركوا المعوزين في فاقتهم وفقرهم. وهنا يأتي دور الزهد ليخلق روح التكافل الاجتماعي، وليدفع أفراد المجتمع الإسلامي إلى الأخذ بيد الضعفاء وإزالة ظاهرة الفقر من المجتمع أو لإزالة ظاهرة التفاوت الفاحش في مستوى المعيشة.

الإسلام يعير أهمية كبرى لزهد الحاكم الإسلامي. لأنّ هذا الحاكم بحاجة إلى روح المواساة أكثر من غيره، ولأنّ الزهد في الحاكم يخلق في المجتمع معايير لتقييم الأفراد لا ترتبط بالمال والمتاع.

من هنا كان لزاماً على الحاكم الإسلامي في المجتمع المسلم أن يعيش مثل أبسط الناس وأضعفهم في المعيشة.

هذا أمير المؤمنين عليّ (ع) يجسد نموذج الحاكم المسلم الزاهد إذ يقول:

".. وانّما هي نفسي أُروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديتُ الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز ولكنّ هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة – ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع – أو أبيتُ مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكبادٌ تحنّ إلى القدّ

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون لهم أسوة في جشوبة العيش؟[1].

3- التحرُّر والانعتاق: الإنسان مقيد بعوامل بيولوجية وطبيعية لا يستطيع أن يتخلى عنها، فهو مضطر إلى التنفس وإلى تناول الطعام وإلى إعداد وسائل الوقاية من البرد والحر ونظائرها.. غير أنّ هناك من القيود ما يستطيع أن يتحرّر الفرد منها إن روض نفسه على التحرّر. مثل قيود شحّ النفس والنهم وحب الإدخار والاستئثار والجاه والمقام والشهرة ونظائرها. هذه القيود تكبل الإنسان إن أطلق العنان لهواه ولم يروض نفسه على الانعتاق من ربقتها.

الإنسان مكلف بالتحرُّر من هذه القيود المفتعلة قدر ما يتحمله من مسؤولية على الساحة الاجتماعية. لذلك كان الأنبياء مكلّفين بالتحرُّر من هذه القيود أكثر من غيرهم.

الزهد يؤدي في حياة الإنسان دوراً هاماً في تحريره من العوامل التي تشده إلى البطر والراحة والسكون وتكريس الذات، ويجعله قادراً على الاندفاع السريع على صعيد العمل الاجتماعي والخدمة الاجتماعية.

من هنا كان الأنبياء – عليهم السلام – أكثر الناس تحرراً من القيود المفتعلة، وكان رسول الله (ص) "خفيف المؤونة" كما تذكر كتب السيرة.

وهذا خرّيج مدرسة رسول الله، عليّ بن أبي طالب، يتحدّث عن ترويضه لنفسه على الانعتاق من القيود الدنيوية المفتعلة فيقول:

"إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك[2]، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذهاب في مداحضك أغربي عني[3] فوالله لا أذل لك فتستذليني، ولا أسلس[4] لك فتقوديني، وأيم الله – يميناً أستثني فيها بمشيئة الله – لأروضنّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص[5] إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأعدنّ مقلتي كعين ماء، نضب معينها[6]، مستفرغةً دموعها، أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة[7] من عشبها فتربض، ويأكل عليّ من زاده فيهجع؟!! قرّت أذن عينه[8] إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة[9] والسائمة المرعيّة!".

وهذا الانعتاق لا يعني الانعزال عن الدنيا، بل يعني دخول معركة الحياة بترفّع والتخلص من كلِّ الذاتيات، والذوبان التام في المبدأ، والتضحية المستمرة على طريق أهداف الرسالة. يعني ممارسة الحياة ممارسة القائد لها لا المنقاد، والموجّه لمسيرتها لا التابع لها اللاهث وراءها.

وهكذا كان أمير المؤمنين عليّ (ع) وسائر المقتدين برسول الله (ص).

4- تذوّق اللّذات المعنوية: الانغماس في تلبية حاجات الجسد المادّية يغلّظ الحس ويضخمه، ويغلق منافذ المشاعر الإنسانية واللذائذ المعنوية. الفرد الذي يعيش بين معلفه ومضجعه لا يمكن أن يتحسس لذة معنوية مثل لذة الدعاء ولذة الاتصال بالله ولذة التضحية من أجل الآخرين ولذة طلب العلم والتفكير والعطاء.

وحين يمارس الإنسان عملية الترفع عن الانغماس في اللّذات المادية، وعملية الانسلاخ من الانشداد البهيمي بالأرض والمتاع، فإنّه ينفتح على عالم جديد وعلى لذات جديدة لا تقل عن اللّذات المادية، إن لم تكن أعمق منها. من هنا كانت لذة الصلاة قرّة عين الرسول الأعظم، وإحدى ثلاثة أشياء يتعشقها في الحياة الدنيا.

الإنسان العابد الزاهد يرى حقائق الكون بمنظار يختلف عن ذلك الفرد المنغمس في حسّه المادي...

والفرق بين الاثنين لا يقتصر على إطار الرؤية، بل يتسع ليشمل التفكير والاستنتاج والتقييم والربط. يقول تعالى:

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ) (آل عمران/ 190-191). ►


[1]- من كتاب عليّ (ع) إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف.

[2]- الجملة تمثيل لتسريح الدنيا وإبعادها عن نفسه.

[3]- أي ابتعدي عني.

[4]- أي لا أنقاد.

[5]- أي تفرح بالرغيف.

[6]- أي أبكي حتى لا يبقى دمع.

[7]- الربيضة: الغنم.

[8]- دعاء على نفسه ببرود العين – أي جمودها – وهي حالة مَن يفقد الحياة.

[9]- أي المتروكة.

تعليقات

  • FARES

    GENIALE.MERCI

ارسال التعليق

Top