يُعتبر الإمام السجاد (عليه السلام) مؤسس مدرسة الإسلام الفكرية وباني صرحه العلمي الشامخ ومُنشئ النفوس التقية ومُربيِّ الأجيال. هو الإمام العظيم (عليه السلام) الذي حوّل المحراب إلى جامعة إسلامية ينهل منها الصغير والكبير، إنّه الإمام (عليه السلام) الذي أعطى الصحيفة السجاديّة التي سُميت بـ (زبور آل محمد) المائدة التي طرح فيها ما لذَّ وطاب من غذاء العلم والأدب والبلاغة بأسلوب ممتع جذاب يستهوي كلّ الناس إذ يخاطب العقل والضمير والوجدان.
كانت عبادةُ الإمام (عليه السلام) وتقرُّبه إلى الله تعالى وانشدادُهُ إليه سبحانه، أمراً عظيماً، بحيث أصبحت ألقابُهُ التي عُرِفَ بها، مستمدّة من طابع تعلّقه بربّه الأعلى، فقد لُقّب بـ(العابدين، والسجّاد، وذي الثّفنات).
الإمام زين العابدين (عليه السلام) قدّم للعالم أغلى كنز من كنوز العلم والثقافة وأروع دستور للعدالة والمساواة، إذ كتبَ بيده الشريفة رسالة الحقوق وأعلن للبشرية أوّل وثيقة مكتوبة لحقوق الإنسان. إنّ كلمات الإمام (عليه السلام) في حُقُوق الإنسان كلّ جملة منها هي كونٌ قائم بذاته، وفي كلمةٍ له: «إنّ المعرفة بكمال دين المسلم»، كيف تكتشف أنّ مسلماً يملك كمال الدِّين وتوازن الخطّ الديني؟! «تركه الكلام فيما لا يعنيه»، فهو يعتبر الكلام مسؤولية، وأنّ الله أعطاه نعمة اللسان من أجل أن يحرّكه في حاجاته وقضاياه وما يتّصل بحياته، سواء كان ذلك مرتبطاً بحياته الشخصية في مسؤولياته عن نفسه، أو بحياته العامّة في مسؤولياته عن مجتمعه. أمّا الكلام الذي لا يتّصل بمسؤوليته الخاصّة ولا العامّة، فإنّه يشعر بأنّ إطلاقه في هذا المجال لن يؤدي به إلى خير، ولن يحقِّق له أيّة نتيجة ترضي الله، بل قد يوقعه في مشاكل في دينه ودنياه، ولذلك، فإنّ المؤمن يقف من أجل أن ينظِّم كلماته لتكون الكلمات الّتي تتّصل بمسؤوليته، أمّا ما لا يتّصل بهذا الجانب فهو لغو، والمؤمن يوفِّر على نفسه وعلى غيره مثل هذا اللغو الذي يعدّ من فضول الكلام الذي لا فائدة منه.
«وقلّة مرائه»، والمراء هو الجدل في مقام الخصومة، فليس من شأنه أن يخاصم الناس في الأمور الصغيرة أو التافهة، أو التي تبعث على النزاع والضغينة، فكلّ ما عنده أن يجادل بالحقّ، وبالتي هي أحسن، وليثبت حقّاً ويدفع باطلاً. فالمراء ليس من خلق المؤمن، لأنّ للجدال نتائج سلبية على مستوى حياته وحياة الناس، وربما يقود الإنسان إلى كثيرٍ مما يغضب ربّه ويدمّر حياته. ولذلك تراه قليل المراء، لأنّه لا يماري ولا يجادل إلّا عندما تكون هناك ضرورات للإسلام وللحياة ولنفسه، فهو منفتحٌ على الناس، ولا يدخل في جدالٍ إلّا إذا كان هناك ما يفرض ذلك كمسؤولية.
«وحلمه»، فمن كمال دين الإنسان المؤمن، أن يكون واسع الصدر، بحيث لا يثور عندما يُثار، ولا يتعقّد عندما تطلق الكلمة السلبية في مواجهته، ولا يجابه الإساءة بالإساءة، بل يحاول أن يعطي للموقف حلمه، حتى يستطيع أن يتفادى المشكلة من خلال سعة الصدر التي تواجه الإنسان المُسيء، بما يجعله يشعر بسقوطه النفسي من خلال إساءته. وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن هذه الصفة بقوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/ 199) وقال عزّوجلّ: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) (الفرقان/ 63).
أمّا سلوك الإمام زين العابدين (عليه السلام) مع أبنائه فقد تميز بالتربية الإسلامية الرفيعة لهم، فغرس في نفوسهم نزعاته الخيّرة، واتجاهاته الإصلاحية العظيمة وقد صاروا بحُكم تربيته لهم من ألمع رجال الفكر والعلم والنضال في الإسلام.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق