◄ما أروع كلمة الرسول الأعظم (ص) وهو ينقلها عن رب العزة، وما أعمق مدلولها وأبعد غورها، وأرحب آفاقها، وأوسع مداراتها :(لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن عذابي).
فلو عرف الإنسان المسلم معنى كلمة " لا لإله إلا الله " على حقيقتها، واستوعب مفاهيمها ومحتوياتها، وأدرك أثرها في حياته وارتباط وجوده بها، وتعلق عالمه بحقيقة انطباقها، لأدرك أن كلّ شئ في هذا الوجود قائم بـ " لا إله إلا الله " ومتجه إليه.
ويجهل الكثير منا، وحتى البعض من أولئك الذين يحفظون أسماء الله تباركت أسماؤه، ويعدّدون صفاته وأفعاله، ويدرسون علم التوحيد بنصوصه وقواعده، ويتحدثون عن إشراقات ذات الله، وفيوضات رحمته، وتعلق الوجود بقدرته.. حتى أولئك، يغيب على الكثير منهم، الكثير من حقائق الآثار المتجلية عن كلمة لا إله إلا الله.
فلو انفتحت أبعاد النفس على هذه الآفاق الرحبة، واستوعبت العقول ما تحمل كلمة التوحيد من معانٍ وصفات تختص بها الذات الإلهية المقدسة، وعاشت في ظلال أشعتها، وانسياب أنوارها، لأدرك الإنسان أنه يعيش في ظل آثار هذه الصفات، وأنها حقائق تتجلى في عالم الوجود، وأنها ذات صلة بكيان الإنسان ووجوده، ولأدرك لكل صفة ربانية متجلية فيوضات تسد ثغرة في نفس الإنسان، وتجسد أملاً في حياته، لذا فإن السعادة ستغمره، وسيشعر بمعنى الوجود كاملاً لو أنه عاش يستوحي فيوضاتها، ويملأ ثغرات نفسه من آثارها.
إن لكلّ جانب من جوانب الوجود – بما فيه الوجود الإنساني – ارتباطاً بصفة من الصفات الإلهية المقدسة، وله الأثر المتجلي لهذه الصفات والأسماء الحسنى.
وإن كلّ ما في الوجود، من قدرة وحكمة وعلم وعدل ورحمة وعطف وقوة.. الخ إن هو إلا ظل مفاض من الكمال الإلهي المطلق وإن تجليات هذا الكمال هي سر تقوم العالم ومصدر وجوده، وإن الوجود قبس من فيضه السرمدي المعطاء. وقد تحدث القرآن الكريم عن صفات إلهية كثيرة، وصف الله سبحانه بها نفسه وعظم ذاته..
والتوبة حسب منطق التوحيد تأتي كأثر لابد من تجليه وتحققه في نظام الخلق، ما زال خالقاً متصفاً بصفات لابد وأن تترشح من جوانبها فيوضات الخير، وهذه الصفات هي:
أولاً : لقد وصف الله سبحانه نفسه بالحلم، وجاءت صفة الحلم في أغلب الموارد القرآنية مقرونة بالمغفرة، لأن المغفرة أثر من آثار الحلم، وصفة لازمة لها، إذ لا يمكن أن تصدر المغفرة إلا من حليم ، ولا يكون الحليم إلا غفورا.
فقد وردت لفظة حليم في القرآن الكريم في أحد عشر موضعاً، في تسع سور من القرآن، اقترنت فيها صفة الحلم بالمغفرة ست مرات، واقترنت الخمس الباقية بصفة الغنى والعلم والشكر.
والحلم بالنسبة للإنسان هو ضبط النفس عن الغضب، وتحقق طول الأناة عنده، أما بالنسبة لله سبحانه فهو إمهال الإنسان، وتأجيل العقوبة، وعدم التعجيل بها، وإعطاؤه المدد الكافي لمراجعة نفسه، وإمهاله للعودة والرجوع.
والمغفرة: هي المحور والتغطية والستر والصيانة من الدنس بصورة عامة.
أما المغفرة من الله سبحانه فهي أن يطهر عباده ويصونهم من العذاب، ويمحو عنهم سيئاتهم، ويستر عليهم ذنوبهم وعيوبهم، فلا يفضحهم، قال تعالى: (لا يُؤاخِذكُمْ اللهُ باللغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذكُمْ بمَا كسَبَت قلوبُكمْ وَاللهُ غفورٌ حَليم) (البقرة/ 22) (... واعلموا أنّ اللهَ يعلمُ ما في أنفسِكمْ فاحْذرُوهُ واعلمُوا أنّ اللهَ غفورٌ حليم) (البقرة/ 230). فاتصاف الله سبحانه بعلم ما في أنفس الناس من خير وشر، وعدم فضحه لهم، بل على العكس من ذلك، فإنه يستر عليهم، ويعطيهم فرصة للعودة والرجوع إلى الحق – إن اتصاف الله سبحانه بهذه الصفة هو الذي نسميه (حلماً). واتصافه بالحلم والمغفرة، والستر قد فتح لعباده باب التوبة، لأنه تعالى لم يعاجلهم بالعقوبة، بل وسعهم بحلمه، ووعدهم بمحو الخطيئة وبالتسامح، بعظيم مغفرته وواسع رحمته.
ثانياً : اتصافه سبحانه بالعفو والقدرة، فاتصافه بالقدرة أساس يبتني عليه العفو، وتنتج عنه التوبة، لأنه لا يعفو إلا المقتدر ولا يهب إلا المالك. ولو تابعنا وصف القرآن لله سبحانه، ونسبة صفة العفو إليه، لوجدنا أن اتصافه بالعفو يأتي في أغلب الأحوال مقروناً بالمغفرة وأحياناً أخرى يأتي عفوه مرتبطاً بالحلم والقدرة، قال تعالى: (ولقدْ عفى اللهُ عنهمْ إنّ اللهَ غفورٌ حَليم) (آل عمران/ 155).
وقال تعالى: (إنْ تبدُوا خيراً أوْ تُخفوهُ أوْ تَعفوا عن سوءٍ فإنّ اللهّ كانَ عَفوّاً قديراً) (النساء/ 149). وقال تعالى: (فأولئكَ عسى اللهُ أنْ يَعفوَ عنهمْ وكانَ اللهُ عَفوّاً غفوراً) (النساء/ 99).
لتلازم هذه الصفات وارتباط بعضها ببعض. فصفة المغفرة قائمة على العفو، وصفة العفو متوقفة على القدرة. وباتصافه سبحانه بالقدرة على العفو عما يريد العفو عنه تشخصت التوبة حقيقة في عالم الآثار، ونظماً في دنيا الإنسان، كظل لصفة العفو والقدرة، وأثر موصول لها في حياة الإنسان.
ثالثاً : اتصافه سبحانه باللطف، واللطف الإلهي: هو الرفق بالعباد والرقة عليهم.
ويتجلى هذا اللطف الإلهي في تيسير الله لكل ما من شأنه أن يقرب العباد من الطاعة، ويبعدهم عن المعصية، تحنناً عليهم، ورفقاً بهم، فهؤلاء لا يكلفهم فوق طاعتهم، ولا يسد أمامهم أبواب الرجوع إليه بعد التمرد عليه، لئلا تكون نهاية شوطهم في هاوية العذاب والبعد عنه سبحانه. لذا كانت التوبة مظهراً من مظاهر تجلي اللطف، وحالة من حالات ظهوره في دنيا الإنسان.
قال تعالى: (واذكرنَ مَا يُتلى فِي بُيُوتِكنّ مِن آيَاتِ اللهِ والحِكمَةِ إنّ اللهَ كانَ لطيفاً خبيراً) (الأحزاب/ 34).
وقد أورد القرآن الكريم صفة اللطف في سبع مواضع مختلفة من موارده، جاءت منها صفة اللطف هذه مقترنة في خمس مواضع بصفة خبير، لوجود العلاقة الذاتية بين صفتي اللطف والخبرة، لأن الذي يتصف باللطف وهو الخفاء وعدم الظهور للحواس لتنزهه عن الكثافة والتحيز المكاني والزماني، لا يخفى عليه شئ، لارتفاع الحدود، ولسريان وجوده وإحاطته بكل شئ بسبب لطافته، فيكون خبيراً بالأمور لإطلاعه عليها، وإحاطته بها، وحضورها لديه جميعاً. وهو سبحانه مطلع على ما في نفس الإنسان من ضعف وعجز يحولان دون احتفاظه بخط الاستقامة في كلّ ما يصدر عنه، قال تعالى: (ألا يَعْلمُ مَنْ خلقَ وَهوَ اللطيفُ الخَبيرُ) (الملك/ 14). فالإنسان بطبيعة تكوينه معرّض للخروج على هذا الخط السلوكي المستقيم، وهو أيضاً كثيراً ما يحب العودة، ويتوق إلى الاستقامة، ليندمج مرة أخرى في عالم الخير والنقاء. ولكي يتمكن من ذلك فإنه يحتاج إلى السماح والعفو، لتقبل عودته، وترتضى توبته، فكان لطف الله – أي رفقه ورقته – هو الشفيع للإنسان لقبول العودة، لأن الله سبحانه يريد قرب العبد منه، ويحب أن يراه حقيقة تتطابق مع إرادة خالقه ورضاه سبحانه.
قال تعالى: ( إنّ اللهَ يُحِبُّ التوّابينَ وَيُحِبُّ المُتطهّرينَ) (البقرة/ 222). لذا كانت التوبة وكان العفو الإلهي الجميل.
رابعاً : اتصافه سبحانه بالود والرحمة، والود هو المحبة. والرحمة هي رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم.
والله سبحانه لم يصف ذاته المقدسة بصفة مكررة ومؤكد عليها كوصفه نفسه بالرحمة، حتى إن صفة الرحمة استعملها القرآن الكريم بصورة معادلة لصفة الألوهية عندما أجاز إطلاق اسم (الرحمن) على الذات الإلهية بدلاً من تسمية الذات المقدسة بـ(الله) واعتبرها كافية لمناجاة ذاته المقدسة لتمام دلالتها عليه، فقال تعالى: (قلْ أدعُو اللهَ أوْ أدعُو الرّحمنَ أيّاً مَا تدعُوا فلهُ الأسْمَاءُ الحُسْنى) (الإسراء/ 110).
فكلا اللفظين (الله) أو(الرحمن) يدل على الذات المتصفة بالصفات الحسنى، وإن أثر هذه الصفة الربانية في حياة الإنسان العظيم، لأنها المنبع الأزلي لإفاضة أحاسيس الأمان والطمأنينة والسلام، والمصدر لبعث الأمل والرجاء في استمرار الرابطة بين الله وخلقه في نفس الإنسان. وهي وعاء صفات القرب التي تستوعب معاني الحب والود والمغفرة والإحسان والسلام ... الخ. وهي الوصل الذي يردم فجوة البعد والنفور، ويحذف الجفوة والصدود بين الإنسان وخالقه. وهي التي تهيئ الاستعداد النفسي لدى الإنسان لإشادة علاقته الودية الآمنة مع الله سبحانه.
وهي التي تضفي على شعور الإنسان جوّاً من الأنس والطمأنينة حتى يتملكه الإحساس بالغبطة والحماية من الوقوع تحت صفة الغضب والجبروت والانتقام: (.. وَلوْلا فضلُ اللهِ عَليْكمْ وَرَحْمَتهُ مَا زكّى مِنكمْ مِنْ أحَدٍ أبَداً ...) (النور/ 21) (وَاسْتغفِروا رَبّكمْ ثمّ توبُوا إليهِ إنّ ربّي رَحِيمٌ وَدُود) (هود/ 90).
(وَقلْ رَبّي اغفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خيْرُ الرّاحِمِين) (المؤمنون /118).
(وَإلهكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلا هُوَ الرّحْمنُ الرّحِيمِ) (البقرة / 163).
وهكذا تشخص العلاقة بين الله وخلقه كما أرادها سبحانه أن تكون قائمة على أساس الرحمة واللطف والود والمغفرة والعفو والحلم والستر، ليحيى الإنسان وقلبه عامر بالطمأنينة والحب والسلام، ونفسه يملؤها الأمل والرجاء وانتظار الإحسان من رب يتصف بصفات الود والحب هذه. من هنا كان قبول التوبة أملاً يراود قلب الإنسان، ورجاء يعيش في نفسه، كنتيجة منتظرة لهذه العلاقة الحبيبة بين الله وخلقه. ولقد كان هذا الأمل حقيقة، والرجاء واقعاً، يتجسدان في ظل صفات الله الرحمانية المقدسة. (قلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أسْرَفوا عَلى أنفسِهِمْ لا تقنطوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إنّ اللهَ يَغفرُ الذنوبَ جَمِيعاً إنهُ هُوَ الغفورُ الرّحِيمُ) (الزمر/ 53). فباب التوبة مفتوح، وحبلها ممدود، فهي كما وصفها الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): "التوبة حبل الله ومدد عنايته".►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق