لقد علَّمنا الإمام الحسين (عليه السلام) أنّ الثورة من أجل الأمور الكبيرة تحتاج إلى نفوس كبيرة لقيادتها، نفوس قادرة على النهوض والتضحية في كلّ عصر وزمان، نفوس صامدة راسخة رسوخ الجبال الرواسي، تستمد عزمها من مدرسة الحسين الذي قال للمستكبرين «والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد»، هكذا يكون التفاوض مع الأعداء، لذلك نرى حاملي شعلة الحقّ لا يرتابون ولا يترددون كما يتردد المنبطحون على ملذات الدنيا وأموالها ومناصبها الزائلة، فما كان لله فهو المتصل وما كان لغير الله فهو المنقطع والمنفصل.
علّمنا الحسين (عليه السلام) أنّ المؤمنين بالمسؤولية الكبرى المُلقاة على عاتقهم من أجل أوطانهم وأُمّتهم هم الفائزون، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة/ 111)، فهم فائزون بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، وهذا سرّ نداء الحسين «هيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت»، لقد قام الإمام الحسين (عليه السلام) بعمل خالص لوجه الله تعالى دون أي شائبة، وأدى المهمّة المطلوبة منه لأُمّته ودينه في حدّها الأقصى، فلم يدع شيئاً قابلاً للتضحية في سبيل الله، إلّا وقدّمة خالصاً لوجه الله، فكانت ثورة الحسين (عليه السلام) إنسانية الصبغة، وكانت خصوصية كربلاء أنّ جماعتها فتحت للأجيال طريق الخلاص من الظلم والاستبداد والتسلّط، والانحراف عن دين الله القويم، فيما سيأتي بعدهم من الأيام، على مدى الزمن.
هذا هو الحسين (عليه السلام) واعظاً ومُرشداً وموجّهاً كما عرفناه ثائراً وبطلاً وصابراً، هو الإمام العظيم، عظيم في كلّ شيء، عظمة يصعب على العقول القاصرة إدراك جوانبها، كالشمس التي يصعب عليك أن تحدق إليها طويلاً. فخذوا الحسين (عليه السلام) كلّه ولا تأخذوا منه مأساته ولا ثورته فحسب بل خذوا الحسين كلّه، فلقد كان مسلماً وكلّ ما انطلق فيه فهو من الإسلام، لذلك، إذا أردتم أن تفهموا الحسين (عليه السلام) فافهموا الإسلام جيِّداً، فهناك الحسين في كلّ موقف للإسلام، وفي كلّ حكم للإسلام، وفي كلّ انفتاح على الإسلام، ويبقى الحسين (عليه السلام) يلهمنا ويعطينا ويوجّهنا ويقودنا، يبقى الإمام في المستقبل كما كان الإمام في الماضي. لأنّه استطاع أن يوقظ الضمير الإنساني ويؤثر فيه باتجاه القيم الحقة، والانتصار لها، وتحقيقها على أرض الواقع، كونها لم تحدّد بدين أو مذهب أو قومية معيّنة، بل كانت للإنسانية جمعاء.
جسّدت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضتها قيم ومبادئ حقوق الأُمّة ومنها الإصلاح، حيث أكد فيها على ضرورة الاهتمام بإصلاح شؤون الأُمّة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية من خلال توعية الأُمّة بمواصفات الحاكم العادل القائم بالعدل الذي يسوس الناس بالقرآن والسُّنة ويحترم آرائهم ومعتقداتهم ويؤمن بالشورى في الحكم وتولي الحكم مَن هو أهلاً لها، وعدم المساومة على الحقّ، والالتزام بالاتفاقيات والعهود، ودعم سيادة القانون، وجعلها مقياساً لقيمة الحاكم ومشروعية حُكمه وهذا ما أراده (عليه السلام) بقوله «ولعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الداين بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله».
هذا هو درس عاشوراء، إنّه تحمّل المسؤولية والنهوض بها، لمنع ما يقوِّض كيان الأُمّة ويفرّق كلمتها. وإذا كان الأبطال يموتون واقفين، فالحسين (عليه السلام) قضى شامخاً بالشهادة، والشهادة أعلى مراتب البطولة والعزة والشرف الذي يستحق الفخر والاعتزاز، وإذا كانت العاطفة مقدسة، ولابدّ للعين أن تدمع، فلتكن الدمعة عهداً للحسين (عليه السلام)، أن نخلص للمبادئ التي نهض لتحقيقها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق