عندما يرجع الإنسان إلى أعماق نفسه سوف يجد فيها ميلاً ورغبة للخضوع أمام كلّ عظيم. فعندما يجلس الإنسان في محضر عظيم من العظماء سوف يشعر بالانجذاب نحوه والخضوع له. وكلّما كان تعلق قلبه بهذا الشخص أكثر، فإنّ خضوعه له سيكون أشدّ وأقوى، بحيث يصبح مستعداً لتنفيذ كلّ ما يطلبه منه. وهذه الحالة ليست غريبةً على الإنسان، بل هي نابعة من أصل خلقته التي فطرت على الخضوع أمام كلّ عظيم. ولو أعاد الإنسان النظر ورجع إلى أعماق ذاته من جيِّد سوف يكتشف حقيقة أُخرى جلية مفادها، أنّه مخلوق ضعيف ومحتاج على الدوام (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15)، (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) (محمّد/ 38)، فالاحتياج والضعف يخالطانه كما يخالط الدم لحمه بل أشدّ من ذلك.. وهذا هو السبب الجوهري والأساسي لحالة الانجذاب والخضوع. فالإنسان عندما يعاين عجزه وضعفه سوف يلجأ لا محالة إلى موجود أكمل منه وأقوى وأغنى لكي يرفع عنه هذا النقص والاحتياج الذي يتخبط فيه.
هذا التوجه نحو الموجود الأكمل والأقوى يُترجم عملياً بما يُسمّى بالعبادة والخضوع. والفطرة الإنسانية لا تطلب الخضوع عبثاً، وإنّما لأنّها تجد فيه سبيلاً للكمال والسعادة المفقودين. والناس في هذه الحياة الدُّنيا صنفان: صنف يرى كماله وسعادته في الدُّنيا وملذّاتها، فيتوجه إليها ويطلبها علّه يجد فيها ريّاً لعطشه. وهذا الطلب قد يقوى ويشتدّ عند بعض الناس حتى يصل إلى درجة العبادة، بحيث يصبح الإنسان عابداً للدُّنيا والأهواء المتفرّعة عنها. هذا ما كشف النقاب عنه في القرآن الكريم حيث قال عزّوجلّ: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية/ 23). وصنفٌ آخر من الناس أدركوا الكمال الحقيقي وشخّصوه جيِّداً، وعرفوا أنّ مطلوبهم الواقعي ليس الكمال اللامتناهي الذي لا نقص فيه ولا اضمحلال ولا زوال، هو الله تبارك وتعالى. فتوجّهوا إليه بقلوب منكسرة، خاضعة، مستبشرة، وعبدوه لأنّه أهل للعبادة، ولأنّه مالك كلّ شيء وهو على كلّ شيء قدير: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الملك/ 1). وهذا أمر طبيعي وفطري لأنّ الإنسان إذا أحبّ موجوداً ما، فإنّ أفضل وسيلة للتعبير عن هذا الحبّ هو الخضوع أمامه وطاعته فيما يأمر به. فكيف إذا كان قلب الإنسان متوجهاً إلى الله ومتعلّقاً به ومنجذباً نحوه؟! أمام هذه العالم والهدف الأساسي من وجوده، فيقول عزّوجلّ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56) وفي آية أُخرى يقول: (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (هود/ 123). ولو عاد الإنسان إلى نفسه مجدّداً فسيجد أنّ الطاعة ليست بالأمر الغريب والطارئ عليه، بل إنّ فطرته الإنسانية وجبلته الأصلية قد جبلت على الطاعة والعبادة. إذاً، فالعبودية أمر فطري في الإنسان وعليه يصبح إلى الله عزّوجلّ جليّاً وواضحاً لا غبار عليه.
لماذا العبودية؟
لسائلٍ أن يسأل عن السبب الذي جعل العبودية هي الطريق الوحيد للخروج من حالة النقص والاحتياج البشري، وبالتالي الطريق الوحيد للاتصال بالكمال اللامتناهي، أي بالحقّ عزّوجلّ. فما الذي يمنع من افتراض وجود طريق آخر يصل الإنسان عبره؟ إنّ امتلاك جواب صحيح عن هذا السؤال يتوقف على معرفة دقيقة بحقيقة النفس وتوجّهاتها الفطرية، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «مَن عرف نفسَه عرفَ ربَّه».
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق