◄يثبت عديد من الأمثلة التي تُضرب على كُتّاب بدأوا الكتابة أو تألّقوا في عمر مُتقدِّم، أنّ أحلام الكتابة المؤجلة يمكن أن تتحقق يوماً ما بشيء من الشغف والسعي والمشاركة، لاسيما مع رواج حركات الدعم الواقعية والافتراضية من مجمعات الكتابة والمواقع والمدونات الموجهة لمن يرغبون في الكتابة أو النشر ولا يعرفون كيف يقومون بذلك.
وعادةً ما يشجع المتقاعدون على الكتابة بتأكيد أنّ في داخل كلّ شخص كاتباً، وأنّ مغامرة الكتابة متاحة لكلّ مَن يمتلك حدّاً ملائماً من الثروة اللغوية والمعرفة الأساسية بقواعد النحو والإملاء، ولديه شيء يقوله.
كثير من الموهوبين حول العالم لا يجدون الوقت ولا الدعم ولا الفرصة المناسبة للكتابة في فترة الشباب، غير أنّ الحلم بها يبقى نابضاً منتظراً، فإذا ما انحسرت مسؤوليات الحياة وانشغالاتها تحقق ونما. وآخرون يقبلون على الكتابة في سنوات التقاعد لتجاوز الشعور بالملل أو الإحساس بقصور الإنتاجية وتراجع المشاركة المجتمعية، سواء كانت لديهم رسالة مهمّة يودون إبلاغها، أو لمجرد ملء الفراغ. قسم آخر ممن كانوا يتوقون للكتابة تجهدهم متاعب الحياة وملاهيها إلى حدّ الجمود عند مستوى العلم، أو ربما التخلي عن تفعيله تماماً والاكتفاء بلعب دور المتفرج.
ووفقاً لمسح أجراه موقع (Retirement Writing)، الذي يقدم كلّ ما يحتاج إليه المتقاعد من معرفة ومعلومات حول الكتابة والنشر، يفضل المتقاعدون كتابة المذكرات والملاحظات المتعلقة بأسرار الصنعة، والروايات، ومقالات المجلات، وحكايات السفر والهوايات والمهن السابقة.
- تذوُّق الحياة:
كانت الكاتبة الأمريكية من الفريق الأوّل الذي يصرّ على تذوُّق الحياة مرّتين: لحظة عيشها واقعياً، ولحظة استرجاع أصدائها في فضاء الذكريات الذي تخلقه الكتابة.
بدأت كارتر الكتابة في الستين من عمرها، وكانت قبل ذلك تؤلف قصصاً وحكايات من الحياة اليومية دون أن تكتبها. وتعلم جيِّداً - كما تروي على أحد المواقع المهتمة بالكتابة - أنّها وُلدت بخيال خصب، وإحساس غامر بالفضول والدهشة.. فكانت تتسكع في عيون عقلها، وتلهو مع خيالها؛ ولكن في النهاية تتبخر حكاياتها المؤلفة غير المجسدة بالكلمات المكتوبة وتذهب أدراج الرياح، غير أنّ الحلم بالكتابة أصبح في خاتمة المطاف وبعد أعوام طويلة جزءاً أساسياً من حياتها، وحقيقة لا خيالاً.
وتعيش اليوم نتيجة لذلك سعادة وحياة حلوة لم تعهدها من قبل، وكم تمنّت لو أنّها بدأت الكتابة منذ زمن بعيد.
لم تكن البداية المتأخرة بالنسبة إلى كارتر بالأمر اليسير، بل واجهت صعوبات اكتنفت عملية الكتابة الحقيقية الجديدة بالنسبة لها. وزاد من صعوبة الكتابة الفعلية مرور سنوات طويلة على آخر درس تلقّته في اللغة. ولكي تتغلب على تلك الصعوبة، قامت بشراء عدد من الكُتُب التي تتناول موضوعات مثل عملية الكتابة، وقواعد النحو، وعلامات الترقيم، ثمّ انطلقت تكتب في مدونة أطلقت عليها اسم "لا يستدعي الأمر الكثير كي تصبح سعيداً".
وهي العبارة التي لطالما سمعتها من زوجها. لقد قررت أخيراً أن تكتب حكايات وتتقاسمها مع أعضاء العائلة والأصدقاء وأجيال المستقبل.
- نماذج مُشرقة:
هناك نماذج مشرقة عدّة من الكُتّاب الجُدد والقُدامى، مثل فرانك ماكورت (1930 - 2009) المعلم والكاتب الأيرلندي الأصل، الذي لفت الانتباه مع صدور كتابه "رماد أنجيلا" عام 1996م وحصوله على جائزة (بوليتزر) وهو في السادسة والستين من عمره.
وكاتب السيناريو والروائي الأمريكي ميلارد كوفمان (1917 - 2009) الذي كتب روايته الأولى "سلطانية الكرز" في عمر السادسة والثمانين، ونشرت الرواية مع بلوغه التسعين.
والكاتبة البريطانية آنا سويل (1820 – 1878) التي نشرت أوّل أعمالها عندما كانت في السابعة والخمسين وتوفيت بعد بضعة شهور من نشر روايتها الشهيرة "الجمال الأسود" التي تحوّلت إلى فيلم سلّط الضوء على معاملة الخيول القاسية.
- نصيحة مُجرِّب:
في كتاب بعنوان "الكتابة بعد التقاعد"، تحرير كارول سمولوود وكريستين ردمان، سجّل عدد من الكُتّاب المحترفين الناجحين تجاربهم في الكتابة في سن متقدمة.
ركّز بعضهم على تهيئة أجواء اجتماعية تساعد على فعل الكتابة، تبدأ بالمشاركة في الأنشطة المحلية والانضمام إلى مجموعة كُتّاب، وحضور ورش عمل، وتعلّم مستمر، ومشاركة في الكتابة عبر مدونات، مع الوضع في الاعتبار حقيقتين: الأولى أنّ الكتابة تتحسّن مع مرور الوقت ومع تقدُّم العمر، والثانية أنّ الوقت ليس متأخراً أبداً.
كتبت أرلين مانديل، أستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة وليام باترسون في نيوجيرسي، المتقاعدة منذ عام 1999م، أنّها عندما انتقلت من نيويورك إلى كاليفورنيا مع زوجها وقطتها وكلبها، حيث ستكتب بعد طول انتظار، وضعت إعلاناً في مجلة (Poets & Writers) لتكوين مجموعة كتابة. ولم تتلق سوى موافقة واحدة، وبعد شهر شاركت في فعالية لها علاقة بالكتابة من أجل تشكيل مجموعة هدفها توفير بيئة مبدعة ومدعمة للكتابة. واقتضى النظام أن تُشكّل المجموعة من 4 - 8 أفراد مهتمين بالكتابة ممن يسكنون في المنطقة نفسها، أو في مناطق قريبة، ويتعين على كلّ واحد أن يكتب 1500 كلمة، وعدداً آخر للرواية، ويجتمعون بشكل دوري في بيت أحدهم بالتناوب، ويحتفلون احتفالاً كبيراً مرّة واحدة في السنة.
وعادةً ما تجتمع المجموعة في السادسة والنصف أو السابعة. وتخصص الدقائق الأولى للإعلان عن أمور مهمّة بالنسبة لهم، ثمّ يلقي المضيف كلمات تأملية قصيرة أو مقولة ملهمة. وعلى المؤلف أن يوفّر نسخاً مما كتبه للحضور، ويقرأ من دون شرح تفصيلي، ويكتفي بملاحظات سريعة حول مصدر القطعة المقروءة، كأن تكون جزءاً من قصة قصيرة أو من قصيدة، وربما يطلب من الحضور التركيز على جزء معين.
وبعد الانتهاء يبدأ من على يسار القارئ باتجاه عقارب الساعة في التعليق بذكر الجوانب الإيجابية أوّلاً، مثل الإطراء على القطعة بشكل عام، أو الإشارة إلى مواطن القوّة فيها، ثمّ يتناول الجوانب التي تحتاج إلى شرح أو تعديل. ولا بأس من الاعتذار إذا لم يكن النص مفهوماً. ويُطلب من المؤلف أن يبقى صامتاً، ويكتفي بتسجيل الملاحظات. وفي النهاية يمكنه طرح سؤال أو اثنين، وذلك لتجنّب الجدل والنقاشات الطويلة.
وتُكتب بعد ذلك المقترحات كتلك المتعلقة باستخدام الكلمات، أو علامات الترقيم على الصفحة، مع توقيع يُبيِّن هوية صاحب المقترح، وتُسلّم للمؤلف القارئ.
ويُشترط أن تُخصص فترات متساوية من الوقت لكلّ عضو من أعضاء المجموعة. وعلى مَن يضطر للانصراف المبكر أن يبدأ أوّلاً، ويحل المضيف آخراً.
ومن النصائح التي تناولتها الكاتبة مانديل، حمل كراسة لتجسيل الملاحظات المهمّة والتفصيلية حول مواقف أو أعمال فنية للاستفادة منها في الكتابة. والكتابة في المدونات ووسائل التواصل الاجتماعي مثل (فيسبوك) أو (تويتر) لكونها الطريقة الأسهل للكتابة، وحضور فعاليات مثل القراءات والمسرحيات والحفلات الموسيقية والمهرجانات لاستلهام الأفكار وتنشيط المخيلة، مع توصية بتجنّب الإفراط في المشاركة بالأنشطة الثقافية، حتى لا يجور ذلك على وقت الكتابة.
- مزايا مجموعة الكتابة:
أمّا ستانلي كليميتسون - وهو أحد المشاركين في الكتاب - ، فقد أدرج عدداً من مزايا الانضمام إلى مجموعة كتابة من بينها:
- التشبيك، حيث توفّر المجموعة شبكة أو رابطة تجمع كُتّاباً خراء ممن هم على استعداد لمساعدة الكُتّاب الجُدد، إضافة إلى ناشرين وأعضاء من جهات أخرى متخصصة، الأمر الذي يتيح معلومات مفيدة وفرص كتابة ثرية.
- الانضباط، الذي يجعل من الكتابة عملية جادة تقتضي الالتزام بأداء تمرينات الكتابة أو إعداد النصوص للاجتماع التالي، ومناقشة الطُّرق المستخدمة لإنجاز المشروعات الكتابية.
- القراءة بصوت مسموع، التي تتيح فرص الإلقاء أمام جمهور، مما يعزز مهارات العرض، ويجعل صوت المؤلف أكثر قوّة ووضوحاً، ويحسن شعوره العام مع استمرار تدفق الكتابة.
- النقد، الذي يقدّم مقترحات مفتوحة للتنمية والتطوير.
- تكوين مجتمع خاص يعمل أعضاؤه من الكتاب على الأخذ بأيدي بعضهم بعضاً على طريق التطوّر.
- التعلُّم المستمر، ولاسيما عند دعوة متحدثين خارجيين وأعضاء مهمتين بالمعروفة الخاصّة بالنشر وتسويق النصوص وخبراء للمساعدة في تحسين نوعية الكتابة، وربما تكنولوجيين.
- رعاية الفعاليات الخاصّة، كورش العمل أو فرص التدريب أو المشاركة في المؤتمرات التي تُعدّ من الأمور المعززة لفعل الكتابة.
- التحفيز، الذي يأتي من إثارة أجواء المنافسة المحمودة بين أنداد الكتابة.
- الانتشار، الذي يبدأ بين أعضاء المجموعة ومَن يقع في دوائرهم من المهتمين بالقراءة والكتابة.
تجدر الإشارة إلى أنّ كليميتسون كان في مراهقته يجمع الصور ويسجل الأحداث العائلية، ويراسل أقاربه البعيدين ليطلب منهم معلومات، ثمّ ركّز بعد وفاة والده المبكرة وزواجه وإنجابه، على التعلُّم والعمل لإعالة أسرته. وعمل بعد ذلك في التدريس بالجامعة، وكتب عديداً من الأوراق البحثية والكُتُب والمطبوعات. وفي عمر السادسة والأربعين، ترك العمل بالجامعة لينضم إلى شركة استشارات هندسية، وراح يكتب التقارير الفنّية. وأخيراً وبعد أن بلغ الثامنة والستين، قرر أنّ الوقت قد حان ليقوم بما يود عمله، وهو الكتابة.
- الكتابة والهوية:
تؤكد د. إيلين ريان عبر موقعها "كتابة سنواتنا" (Writing Down Our Years)، أنّ الكتابة عن الحياة تقوي شعور الكاتب بالهوية وتساعده على تكوين منظورات ومعانٍ والتعبير عن الإبداع. ويمكن لمشاركة حكايات من الحياة ومن العائلة ومن الآخرين أن تحفظ التاريخ، وتؤكد الهوية، وتحتفي بالعلاقات العميقة المتداخلة التي تتخطى المسافات والأزمنة والجغرافيا.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق