• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثقافة الدعوات

نعمان إسماعيل عبد القادر

ثقافة الدعوات

الثقافات كثيرة ومتنوعة.. من بينها "ثقافة الدعوات" أو كما كانت تسميها جدتي رحمها الله بعاميتها المبسطة بدقة المعنى باسم "الدواعي".. اكتسبتْها بعض نساء الحي وأدمنتْ عليها ولم تستطعِ الاقلاع عنها لأنها صارت تسري في عروقها. وما أكثرها من "دواعي".. إذا وقعَ طفلٌ تنهال "الدواعي" عليه انهيال جلاميد الصخور حطّتها السيول من علٍ.. وإذا انكسر كأس يتجرع كاسره كؤوس الحنظل لا محالة.. وإذا تأخر ولدٌ في شراء سلعة من الحانوتِ لا بدَّ من سيولٍ جارفةٍ من "الدّواعي" التي تنتهي بيا الله يا عظيم.. وكانتْ جارتنا أم خالد مدمنةً عليها كلَّ الإدمان، وتذيق كلَّ من تعترضه، وفي أحايين كثيرةٍ كلّ ما تعترضه، في طريقها جرعات من كأس "خمرتها"، حتى تشفي غليلها..
خرجتُ يومًا لأشتري لأمي رطلاً من البطاطا، فصادفتُها في طريقي، فبادرتني قائلة: "إلى أين أنت منقلعٌ أيها القُريد الصغير؟". قلتُ بصوتٍ خافتٍ: "إلى الدكان لأشتري البطاطا لأمي". فقالت بعد أن قطّبت حاجبيها وكشفتْ عن نابيها وصنعتْ في الهواء بيدها اليمنى، حركةً دائرية: "ألم تجد غير وجهكَ لترسله إلى الدكان؟ هيّا انحطمْ حطَّم اللهُ ساقيك، وشلَّ يديكَ، وعقدَ لسانك!". ثم انحطمتُ في طريقي إلى البطاطا.. قلت لأمي ذات يومٍ في براءة الأطفال متعجبًا: "لماذا تشتم الناسَ أمُّ خالد هذه يا أمي؟"
ابتسمت ابتسامة عريضةً وقالت: "هذه ثقافتها يا بني، وهذا كلّ ما تعرفه في حياتها".
وقبل يومين مررتُ من أمام دار البريد متوجّهًا في طريقي إلى المصرف الآليِّ، فرأيتُ امراة تنهر أطفالها وهي تزمجر زمجرةً غريبةً. فقلتُ في نفسي: "لعلهم أشقياء ولن يبلغ بها الأمر إلى هذا الحد إلا بعد أن ينتزعوا منها روحها".. ولكن سرعان ما تذكرتُ أم خالد رحمها الله وأفعالها الصفراء حين تعثر الطفل الصغير فوقع على الأرض واتسخت ثيابه، فانبرت تكيل له من الدواعي ما تعجز عنها معاجم أم خالد فيها من "العزاء" أو أحد مشتقاته. فقلتُ في نفسي: "سبحان الله ماتت أم خالد ولكن ثقافتها خالدة لم تمت".. هذه ثقافة وللثقافات بقية...

ارسال التعليق

Top