لئن كان العمل الصالح الذي يؤديه العبد في باقي الشهور يجازى بعشرٍ من مثله، فهو اليوم – في رمضان – يجازى بأضعافِ أضعافِ هذا العدد! وها نحن نستمع إلى رسول الله (ص) إذ يقول في خطبته الشريفة: "أيّها النّاس مَن حسَّن منكم في هذا الشهر خُلُقَهُ كان له جوازاً على الصِّراط يوم تَزِلُّ فيه الأقدام. ومَن خفَّف فيه منكم عمّا مَلَكَتْ يَمينهُ خفَّف الله عليه حسابه. ومَن كفّ فيه شرَّه كفّ الله غضبه عنه يوم يلقاهُ. ومن أكرم فيه يتيماً، أكرمه الله يوم يلقاهُ. ومَن تطوَّع فيه بصلاةٍ كتب الله له براءةً من النار. ومَن أدّى فيه فرضاً، كان له ثواب مَن أدّى سبعين فريضةً فيما سِواهُ من الشهور. ومَن أكثر فيه من الصلاة عليَّ، ثقَّل الله ميزانَهُ يوم تَخِفُّ الموازين. ومَن تلا فيه آيةً من القرآن، كان له أجرُ مَن ختم القرآن في غيره من الشهور". كما أنّ النصوص تعتبر الصائم في الحرِّ مجاهداً أفضل الجهاد، وانّه – أي الصائم – في جُنّةٍ من النار، وهذا المعنى، لو دققنا في أبعاده لوجدناه أروع بشارة تعدل ما طلعت عليه الشمس. من كلّ هذا الذي مرّ من وصف عظمةٍ، ووعدٍ على ثواب جزيل، ونِعَم كريمة، وتأكيدٍ على الترابط العَرَضي بين أبناء البشر جميعاً في دخولهم المجموعي إلى دورة رمضان التدريبية، والترابط الطولي بين الأُمم المؤمنة جميعاً في مجال أداء فريضة الصوم... هادفين إلى هدف واحد. إنّ الصوم ضرورة... ضرورة يفرضها واقع الإنسان، ويتطلبها هدف الشوط الذي انتدب إليه وجعل فيه خليفة للمبدأ الكامل. فدورة رمضان المبارك تستوعب كلّ البشرية. تُعتمد أوّل ما تعتمد على عنصر الدافع القربي، كمقياس يراد له أن يشكل روحاً لكلّ شيء في حياة الإنسان، فلا رقيب إذن إلا العقيدة والضمير الديني. تستمد الدورة الإلهية مبرراتها من نظرة محيطة شامملة، مدركة لكلّ احتياجات الإنسان، تفرض ضرورة الصوم للحياة. وأخيراً وهو الأهم انّ هذه الدورة التدريبية (دورة رمضان) العظمى تختلف في هدفها عن كلّ الأهداف التربوية المشاهدة. انها تهدف لأن تبني الإنسان الإنسان، الإنسان الصالح الذي يأخذ في حسابه صالح الإنسانية كلّ الإنسانية بكلّ قطاعاتها وخلال كلّ أزمنتها، وما أعظم ذلك من هدف تذوي أمامه الأهداف مهما تعالت. إنّ كلّ تلك الإيحاءات لو تجسّدت حساً إيجابياً في وجدان الإنسان المسلم الصائم، لخلقت جواً مفعماً بالخشوع والخضوع والتسبيح والجلال... ليقوم الصوم من خلال ذلك بأداء مهمته العظمى في حياة الإنسان.
يقول الله عزّ وجلّ: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185). وفي هذه الآية يربط الله عزّ وجلّ بين شهر رمضان ونزول القرآن ليوضَح للمؤمنين الترابط الوثيق بين الصيام في شهر رمضان وقراءة القرآن في هذا الشهر الكريم وأنّ هذا القرآن هداية للناس بإعجازه وآيات واضحات مما يهدي إلى الحقّ ويفرّق بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام. وأنّ هذا الشهر محطة يتزود منها المؤمن لباقي السنة من النفحات الإيمانية وملازمة كتاب الله عزّ وجلّ قراءة وفهماً وتدبراً وحفظاً. إنّ رجال القرآن هم الذين يحفظون كتاب الله علماً وعملاً وهم الذين يحفظ الله بهم كتابه العزيز لقوله سبحانه وتعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/ 9).
إنّ الناس يحرصون على نيل أعلى المنازل والمراتب الدنيوية، أما نحن فأصحاب غاية أخروية ولذا نحن نذكّر أنفسنا بقول الرسول (ص): "يقال لصاحب القرآن إقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها". وهذه هي المنزلة التي يريدها المؤمن ويسمو إليها ويحذر أن يكون من الذين قال الله فيهم: (إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان/ 30). أي تركوا قراءة القرآن وحفظه والعمل به، حتى أنّ بعض المسلمين تمر عليهم الأيام بل الشهور وهم لم يقرأوا أو يحفظوا من هذا القرآن شيئاً.
وإنّها لبداية كريمة في هذا الشهر المبارك أن يتعاهد المسلم نفسه بقراءة القرآن وملازمة هذا الكتاب الكريم وبذلك يوصينا الرسول (ص) بقوله: "تعاهدوا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها". فلنمض نتواصى على قراءة القرآن الكريم والرسول (ص) يقول: "مَن قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف. هكذا القرآن بستان مليئ بالأجر والثواب الجزيل. مليئ بالذكرى والموعظة والرضوان والحقّ والبيان. مليئ بالرضى والرضوان والشفاعة والرحمة. فلنقرأ القرآن الكريم فهو شفيعنا يوم القيامة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق