أسرة
1- الأرضُ فِراشُ الإنسان:
قال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا) (البقرة/ 22).
التطبيق الحياتي: خلق الله تعالى الأرض لتكون مسرحاً لعمل الإنسان وإبداعاته، ومجالاً يُمارس فيه مسؤوليّات خلافته عليها: إعماراً وإصلاحاً ونشراً للخير وتعبيداً لبني جنسه لله تعالى.
يقول الإمام زين العابدين (ع) في قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا): "جعلها ملائمةً لطبائعكم، موافقة لأجسادكم، لم يجعلها شديدة الحمي والحرارة فتُحرقكم، ولا شديدة البرد فتجمدكم، ولا شديدة طيب الرِّيح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النّتن فتحطبكم"!
فكما أنّ الفراش تجلس عليه وتنام فلا يقلق جلستك ولا نومتك، فإنّ الأرض قد أُعدّت لتكون مهدك وفراشك وبساطك، أمسكها تعالى وثبّتها بأمره، وجعل بعضها قاحلاً وبعضها خصباً، وسخّر كلّ ما فيها لخدمتك أنتَ مخلوقُه الأفضل والأكمل، وقدّر لك فيها رزقك، وأمرك أن تأكلَ من حلالها طيِّباً، وبالتالي فهي مستقرّ عيشك، سهّل لك فيها مسالكها لتصل من خلالها إلى أيِّ مكانٍ تريد، وبسطها لتسكن عليها، وشقّها بالنّبات المنوّع لتأكل منها، وجعلها بعد ذلك وعاءً ومدفناً لك حين تموت، فمن تُرابها خُلِقْتَ وإلى تُرابها تعود.. إنّها مفروشة لجميع مراحل الرّحلة.
الأرضُ دارك التي تسكنها، ومدرستكَ التي تتعلّم فيها، ومسجدكَ الذي تُمارس فيه وعليه كافّة نشاطاتك: السياسية والمالية والثقافيّة والإجتماعية والدِّينية والعلميّة.. إنّها فراش للعلم والعمل والعبادة والراحة والإستجمام.
الله تعالى فرشها لك وسهّلها وذلّلها ومكّنك منها لتُقدِّم لها أفضل ما عندك، وأرقى ما لديك، حتى تعمر بالصّلاح، وتخضرّ بالنبات، وتتطوّر بالصِّناعة، وتحقِّق عليها أحسن علاقات التعارف والتعاون على البرِّ والتقوى.
عليها يمكن أن تصنع جنّتك، فالجنّة صناعة، والجنّة زراعة، والجنّة عمران.. من هذه الأرض يمكن أن تبني مستقبلك المشرق أو المعتم.
عليها يمكن أن تتكامل في فضائلك وخصالك، لتكون أفضل من سكّان السماء ومن الملائكة، وعليها يمكن أن تهبط لتكون أدنى من مستوى البهائم والأنعام والحيوانات.
الأرض مجدُك.. فاعرف كيف تصنعه.
2- الجبال أعمدةُ الأرض:
قال تعالى: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) (النبأ/ 7).
التطبيق الحياتي: لولا الجبال لساحت الأرض ومادت.. هي المسامير التي تُثبِّتها، وهي الأعمدة التي تُركِّزها، هي أشبه بالمراسي التي تُلقى في البرِّ لاستقرار السّفن.. هي التي تحفظ للأرض توازنها.
لقد نحتَ الإنسان بعض صخورها فاتّخذها سكناً، وشقّ بعضها ليتّخذها أنفاقاً، ولكنّها بقيت تُمارس وظيفتها في تسكين حركة الأرض، ويوم تُنسف كلُّ الجبال تنقلب الأرضُ بأهلها، كما في يوم القيامة.
هذه الجبال التي تسوِّر بعض البلدان، وترتفع إلى مسافات شاهقة كحاميات ومصدّات طبيعية، كيف يجب أن تقرأ نعمتها؟
إنّ بعضها صالح للزِّراعة، وما يُزرَع عليها لا يُزرَع في سواها، أو يختلف في شكله وطعمه وربّما لونه، وهي التي تتراكم عليها الثّلوج في الشتاء لتكون ذخيرتنا من المياه في الربيع والصيف عندما تذوب، وهي أماكن للرّعي، ومخازن للمعادن والكنوز.. هي مُجمّع نِعَم!
هذه النِّعمُ الإلهيّة الشاخصة الشاهقة، تُمثِّل في حياتنا الملاذ والملجأ والمرتفع والمهابة والجمال والجلال، هي رمزٌ لثبات الإنسان، ورمز لتعاليه على السّفاسف والصغائر والترّهات، هي صفٌّ من صفوف الطبيعية، نتعلّم من خلال تسلّقها كيف نرتقي في المعالي.
يقول الشاعر (أبو القاسم الشّابي):
ومَن يَتَهَيّب صُعودَ الجِبالِ **** يَعِشْ أبَدَ الدّهْرِ بَيْنَ الحُفَرْ
هذه الجبال المصنوعة من صخور صلبة شديدة قاسية، يتعذّر على القوى العاديّة شقّها أو تفتيتها، والتي تبدو للناظر خالية من الإحساس، لو أنزل الله تعالى عليها القرآن لتصدّعت وتشقّقت من خشيته، فكيف لا يتصدّع قلبي وهو ليس من صخور معدنيّة.
وكيف لا يتزلزل كياني لكلمات الله، ولستُ كالجبل في جماده، فمتى أتعلّم من الجبل كيف أخشع للمعاني التي تنفذ إلى العُمق من حياتي.. متى؟!
3- بشائرُ الرِّياح:
قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) (الروم/ 46).
التطبيق الحياتي: الرِّياح مُبشِّرات بماذا؟
- برحمة الله: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (الفرقان/ 48).
كيف تكون الرياحُ بُشرى؟ وكيف تكون رحمة؟!
- بما تحمله من السّحاب على متونها فتسقي به أراضي ميِّتة عطشى، حتّى إذا هطل عليها المطر، اهتزّت ورَبَت وأنْبَتَت من كلِّ زوجٍ بهيج. وتطهّرت وتُطهِّر أهلها أيضاً.
- بما يتغيّر من أحوالها وهبوبها: نسيماً وهواءً وعواصف، كلٌّ يلعب دوره في تحقيق رسالة سماويّة، قد تهبّ رحمةً فتنعش البلاد، وقد تأتي نقمةً فتهلك الحرثَ والنّسل.
- وهي بُشرى بما تدفع بمجاديفها السّفن في البحر، فإذا سكنت توقّفت حركتها على ظهر الماء، وانقطع بالمسافرين السبيل.
إنّها تُمارس بشكل تلقائي عمليّة التلقيح في بعض الأشجار، كما تُمارسُ دور المُنظِّف للأوراق الجافّة في الخريف، وتُلطِّف الأجواء، وقد تُبردها حيناً وتُسخنها حيناً، وهي في كل أحوالها – إلاّ ما كان انتقاماً – في خير العباد ومنفعة البلاد، تختلف باختلاف الفصول، فتختلف ثمارها باختلافها.
فما أسوأ ما استحدثه الإنسان من ملوِّثات ومداخن وعادمات راحت تُسمِّم الأجواء، ليتناقص النّقاء يوماً بعد يوم.
4- الماءُ سرُّ الحياة:
قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء/ 30).
التطبيق الحياتي: كأس الماء الذي تشربه حتى المُعبّأ في القناني، وهو بعض نعمة السّماء، والماء الذي تتطهّر أو تغتسل به، هو من الرحمة الإلهية النازلة مطراً، وما ترتوي به المزروعات والحيوانات من ماء، هو فيض اللّطف الإلهي بعباد الله ومخلوقاته.
فتحَ تعالى الأنهار العذبة لتكون ريّاً للناس، وفتح سبحانه البحار المالحة ليأكل الناس من لحوم البحر وأسماكه، ويستخرجوا منه حلية يلبسونها، ويسافرون على ظهره إلى أقاصي الأرض.
هذا الماء الذي يدخل في تركيب كلّ شيء حيّ، هو أمانة الله تعالى بين يديك. تأخذ منه كفايتكَ وتترك للآخرين أن ينتفعوا به كما انتفعت، وكما يتوجّب عليك احترام كلّ نعمة، فالماء لابدّ أن يُحترم أيضاً، فلا يُسرَف فيه حتى وإن كان مبذولاً بكميّات وفيرة.
يرى النبي (ص) شخصاً يُسرِفُ في ماء الوضوء، فينهاهُ عن ذلك، فيقول له الرجل: هل في الوضوء إسراف، فيردُ (ع) عليه: "نعم، حتى ولو كنتَ على نهرٍ جارٍ"!!
إنّ أزمة المياه اليوم بعضها ممّا اكتسبت يد الإنسان، فحبسَ الله تعالى عنه قطر السماء، وبعضها من تفريط الإنسان وإسرافه وعدم احترامه لنعمة الحياة.
إنّ الماء ثروة، فكيف نسمح لأنفسنا بهدرها بلا مُبالاتنا؟ ألا ترى إلى مساحات الجفاف والتصحّر كيف هي آخذة بالإتِّساع، إنّ الماء شركة بينك وبين النباتات وبين الحيوانات، فلا تستهلك حصّة غيرك من الشّركاء.
5- السماء السّقف المرفوع:
قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا) (الأنبياء/ 32).
التطبيق الحياتي: ما أكثرَ ما تبهرُ النّاظرين الثّريّات الاصطناعية المُعلّقة في سقوف المنازل والصالات، وما أقل ما يرفع إنسان اليوم نظره إلى السّماء الدنيا ليرى زينتها من النجوم والقمر والكواكب؟ إنّها المصابيح التي لا تنطفئ، والكهرباء التي لا تنقطع.
هل هي جمال ومتعة للنظارين؟
- نعم.
هل هي للإستمتاع بأجوائها الساحرة فقط؟
- لا.
- هي إنطلاقة علويّة للتفكير في عظمة وإبداع الخالق، وهي تأمّل في اللّوحة النورانيّة الممتدّة في آفاق السماء.
يقول الإمام عليّ (ع): "هذه النّجوم التي في السماء (مدائن) مثل المدائن التي في الأرض"!! فجرِّب السياحة فيها.
أنتَ تحت سماء هائلة ضخمة لا تقع لها على نهاية، وهي تقوم بلا عمد يرفعها أو يسندها، ومع ذلك فهي مطيعة لله تعالى ومستجيبة لإرادته، لا تتخلّف عن أداء دورها في إشراقة شمسها وإطلالة نهارها، وفي بزوغ قمرها وتلؤلؤ نجومها، وانسدال ستائر ليلها... إنّها أبواب تُفتح وتُغلق.
منها ينزل المطر والرِّزق والرحمة واستجابة الدعاء، وهي التي تُسبِّح لله وتسجد له غير مغترّةٍ بعظمتها أو امتيازها على الأرض من أنّها بلا قوائم تقف عليها، وأنها عالية والأرض متسافلة.. كلاهما عبدان مطيعان لله، والعبد لا يتعالى على العبد!
هذا النظام الدقيق الذي لا يشذّ ولا يتوقّف ولا يختلّ منذ أن خلقَ الله الكون والحياة: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس/ 40) (يس/ 40).
كيف نستهديه فننظِّم حياتنا لتكون صدى لإيقاعه البديع؟!
لقد تأمّل إبراهيم (ع) ذات يوم في السماء ليُفنِّد عبادة الشمس والقمر والكواكب، كما كان قوم بلقيس مثلاً يفعلون في عبادتهم للشمس.. إنّه لم ينظر إلى الأكبر والأصغر فقط، بل نظر إلى (ما يأفل) و(ما لا يأفل)، فالشمس تغيب، والقمر كذلك، ومثلهما النجوم.
أمّا نورُ الله الذي هو نور السماوات والأرض، فهو الذي يجب أن نتطلّع إليه لنخرج به من ظلمات المادّة والجهل والوهم والهوى.
يقول تعالى: (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت/ 37).
ويرمق الإمام زين العابدين (ع) السماء بطَرفه، فيُخاطب الهلال:
"أيّها الخَلْق المُطيع الدائب السريع، المُتردِّد في منازل التقدير، المُتصرِّفُ في فَلَكَ التدبير، آمَنْتُ بمَن نوّر بك الظُّلم، وأوضح بك البُهَم، وجعلك آيةً من آياتِ فلكه"!
هكذا يُنظرُ إلى السماء وما فيها، ليُقال لشمسها وقمرها، ونجومها وكواكبها: ربي وربّكم!!
لنتعلّم (في مدرسة النّور) كيف نكون كالشمس ضياءً وكالقمر نوراً، حيثما تحتاج الحياةُ منّا أن نُضيء ظلمة هنا وظلمة هناك.
وأنّ نرفع بين الحين والآخر عيوننا إلى السماء، كما يرفع المستعطي يديه، فلنملأهما بأنوار الرّجاء، فهي مفتوحة على مدار الساعة!
إنّنا قد لا نستطيع الصعود في مركبةٍ فضائيّةٍ لنصل إلى طبقات عُليا في الفضاء، لكنّنا ونحن نمدّ يَدَي الضراعة إلى الله تعالى، يمكن أن نُقرِّب المسافة بيننا. ورد في الدّعاء: "وأنّ الرّاحلَ إليكَ قريبُ المسافة"!
ارسال التعليق