• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

جمالية التعايش في الوطن الواحد

عمار كاظم

جمالية التعايش في الوطن الواحد

مفهوم الوحدة يجسّده القرآن الكريم بأروع وأجمل صورة حينما نتأمّل آيات المولى، ونجد هذا المفهوم واضحاً جلياً في كتاب الله تعالى.. فنجده يؤكّد على مفهوم الأُمّة الواحدة القادرة على التعايش والتكيف فيما بينها، ولا شكّ أنّنا اليوم بحاجة إلى تجسيد وتفعيل هذا المفهوم على أرض الواقع وإن اختلفنا في الوصول إلى الأهداف الكبرى. ويجب علينا كمواطنين أن نؤكّد دائماً على نقاط الالتقاء فيما بيننا، لأنّ الوحدة كلمة لها دلالات عدّة على المستوى العملي حيث أنّها ليست مطلباً ولا غاية بل هي جوهر الإسلام الحنيف القائم على توحيد الصف وجعل كلّ مَن يدخل في الإسلام يتعلّم كلمة نحن وليس كلمة أنا. وقد يتصوّر البعض أنّ الحديث عن الوحدة في هذا العصر فيه نوع من المثالية، وضرباً من الخيال، الأمر الذي يجعل لَمّ الشمل قضية صعبة وهذا يدفع الكثير إلى اليأس والاستسلام. في حين أنّ المواطنة تعني النشأة، والمولد، والانتماء للأرض والناس، والدفاع عنهم، والتشديد على رابطة التعايش السلمي بين أفراد يتشاركون أرضاً واحدة.

التعايش في المجتمع يعني أنّه مجتمعٌ يعيشُ أهلهُ في تعايشٍ ووِئامٍ.. أي يعيشون في تَسَاكُنٍ وتَوافُقٍ داخل المجتمعِ على الرغم من اختلافهم.. التعايشُ السلمي تعبيرٌ يُرادُ به خَلقُ جَوٍّ من التفاهمِ بين أفراد الشعب الواحد بعيداً عن الحربِ والعنفِ، والتعايش هو احترام الآخرين وحرّياتهم والاعتراف بالاختلافات بين الأفراد والقبول بها، وتقدير التنوّع الثقافي. والتسامح ثمرةٌ للتعايش ونتيجةٌ عنه، فلا يمكن أن يكون التسامح إلّا بعد عيش مشترك لجماعة من الناس، تحمل أفكاراً وتصوّرات متباينة، وتمارس عادات متنوّعة، وتنتمي إلى ديانات ومذاهب وأفكار ومعتقدات مختلفة، وهو قيمة راقية لا تصدر إلّا عن نفوس كريمة. وللتسامح آثارٌ على الفرد والمجتمع، كما أنّه يسهم في البناء الحضاري، الذي يعني انطلاق نمط من أنماط السلوك الإنساني، يعترف بالآخر، فيؤثر فيه ويتأثر به، وهو ما يعني حضارةً قويةً وممتدةً، لن تعصفَ بها التقلّباتُ المختلفة. فالتعايش السلمي يدعو الناس إلى التسامح والتآخي، فإذا حقّقوا ذلك استطاع مجتمعنا رسم ملامح الحضارة الإنسانية المبنية على الحقوق والواجبات. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات/ 13).

إنّ الشريعة الإسلامية بصلاحيتها لكلّ زمان ومكان وبمعالجتها كافة القضايا في مختلف المجالات، جاءت لتقرّر مفهوم المواطنة الذي يعيش تحت سقفه الجميع من كلّ الملل والنِّحل، وتؤكّد أنّ الإسلام دين للعالمين جميعاً، يمكن تحت ظل دولته أن يعيش الناس في مواطنة يعتزون بها، أساسها العدل والأمن والاحترام المتبادل بين جميع المواطنين. وخير نموذج لهذه الدولة، هو ذلك المجتمع الإسلامي الذي نشأ في المدينة المنوّرة لحظة قدوم الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها عندما هاجر من مكة المكرّمة وكتب دستوراً لهذه الدولة عُرف بصحيفة المدينة المنوّرة، نص فيه على مجموعة قواعد ومبادئ يلتزمها جميع مَن يعيش على أرض المدينة أي على أرض الدولة سواء كان من المسلمين أو غير المسلمين. فمفهوم المواطنة في الشريعة الإسلامية من خلال صحيفة المدينة المنوّرة كنموذج يحتذي به كلّ مجتمع ينشد دولة أساسها العدل وسِمتها الأمان وشعبها ينعم بالاستقرار ويتعاش بسلام. لقد كانت المؤاخاة مثال أخر الذي نادى به الإسلام على لسان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) تمثيلاً حيّاً وميدانياً لأسمى معاني التعايش، وذلك حين قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مدينة يثرب التي كان يسكنها اليهود إلى جنب قبائل العرب التي كانت أشهرها قبيلتي الأوس والخزرج اللتان كانتا تتقاسمان نزاعاً دام لسنوات طويلة، فألف بينهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وانصهرا معاً خير انصهار. والحقّ لقد نقل لنا التاريخ صُوراً من التآخي والتقارب بين المهاجرين والأنصار، ممّا قلّ إن لم يكن انعدم نظيره في التاريخ الإنساني.

ارسال التعليق

Top